شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمَّد الرسُول وَالزعيم
ليلة حاسمة فيها الفصل، وفيها كلمة التاريخ. إمّا حياة يملي من بعدها إرادته على أشرافهم، أو موت تنتهي عنده هذه الدعوة، وتعود الدعة والطمأنينة إلى أصنام الكفر وآلهة الضلال.
هذه حقائق اتفقت عليها قريش، وقررت في نهايتها أن تبيت لمحمد صلى الله عليه وسلم وأن تضع الحد الأخير لخطره الداهم.
وما جهل محمد شيئاً ممّا يبيِّتون ولكنه القوي لا يثنيه شيء.
سيفصل الليلة، ويفصل حتى لو تواطأت مع قريش أحجار مكة وجبالها وأخذت جميع المسالك عليه "تسجَّ عليك بردي الحضرمي الأخضر يا عليّ، وتنم في فراشي تمويهاً على العميان، وتخلفاً لودائع الناس عندي تسلمها لأصحابها، ولنمضِ معاً يا أبا بكر.. ولكن إلى أين؟ لتكن وجهتنا طريق اليمن".
هذا طود شاهق ما يمنعه أن يواريَ بنا ريثما يُقطع الأمل في تعقبنا: "أيروعك يا أبا بكر هذه الأسياف تلمع في سواعد قريش؟ إن أحدهم لو نظر تحت أقدامه لرآنا ولكنه لا يبصرنا".
"ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟، ألا تزال ترهف أذنيك لكل قدم. ألا تثق بربك ولا تحزن أنه معنا"؟. وكانت ثلاثاً.. ركبا بعدها الطريق الجنوبي من مكة، ثم استأنفاه إلى الشمال محاذيين الشاطئ في دعة المطمئن لا يخشى شيئاً ولا يبالي إلاّ الله.
محمد الدبلوماسي:
ما انتهت مشاق محمد صلى الله عليه وسلم بانتهائه إلى يثرب بعد المغامرة التي علمنا وأنّى لها أن تنتهي وفي يثرب موقف تتلاقى فيه نزعات مختلفة وعصبات جائحة.
في يثرب يهود جاوروا الأوس والخزرج، وهيمنوا بعلومهم وأموالهم على مقدرات المدينة، وفيها من القبليين من الأوس والخزرج سبعة مردوا على هذه الهيمنة وانبعثت في صفوفهم روح العصيان.
وفي يثرب من ناحيتها الأخرى خلاف بين كبار الأوس وشيوخ الخزرج توترت فيه النفوس، وجمحت به العصبية، ولعبت السيوف فيه دورها يوم بعاث.
وفي يثرب إلى هذا طارئون من المهاجرين بدأ سيلهم يتلاحق، فتغص به أسواق المدينة وتضيق به محالها التجارية.. كانت الحياة همّ المدينة تتنازعها أهواء عدة، وتتجاذبها أنواء شديدة مختلفة.. وكان السلطان فيها مضطرباً يتقاذفه ما يتقاذف السفينة في يوم صر عاصف.
أنَّى للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستقر، وأنَّى له أن تتصل أسبابه بدفة السفينة ليحكم إدارتها ويلوي بها إلى طريق الأمان والسلام، إنّها عزيمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنها طويته الخالصة، وإنها بعد ذلك أو قبله دبلوماسيته وحسن سياسته. تقول كتب السيرة إنه بدأ أعماله بآصرة الإخاء الذي عقده بين المهاجرين كيما يكفي قويهم ضعيفهم، ويحنو نشيطهم على عاجزهم، وإن أثر ذلك بدا واضحاً في هبوط أموالهم إلى السوق متساندة، وخروج فتيانهم وفتياتهم إلى بساتين الأنصار عاملين.. وإن خطوته التالية كانت في تنظيم بروتوكول سياسي يكفل العلاقة الطيبة وحسن الجوار بين المهاجرين والأنصار كفريق أول وبين اليهود كفريق ثانٍ.
في هذا البروتوكول إن المؤمنين على مَن بغى منهم وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.
لا يقبل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، مَن تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم إلاّ مَن ظلم، وأنه لا يلتئم جرح على ثأر، وأن بين الجميع النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النصر على مَن دهم يثرب، وإن من خرج آمن ومَن قصد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم وإثم.
أعط هذا البروتوكول أعداداً متسلسلة ينتظم أمامك في مواد أدق وأشمل ما تكون عليه الاتفاقيات والمعاهدات التي ينظمها اليوم أقدر علماء الدبلوماسية..
والحق هذا البروتوكول الدقيق بملاحق عدّة رُوعيت فيها نفس هذه الدقة والشمول. كان محمد بها وبأمثالها دبلوماسياً من الطراز الأول حكيماً في إدارة الأمور.
وسارت الأمور بهذا النحو في سير طبيعي، واتصلت أسباب النبي بدفة السفينة وأحكم إدارة دفتها، وظل الحال كذلك حتى وسوس الخناس في صدور اليهود فكانت أيدي المؤمنين عليهم حتى دارت الدائرة واستوفى الظالمون حسابهم ممّا تجده مفصلاً في مكانه من كتب السير. ولسنا اليوم في سبيله.
تقول كتب السير إن مكة كانت لا تقل في جاهليتها عن أي مدينة عامرة بصنوف الحياة وزخرفها، وإن شباب مكة لذلك العهد كان لا يقل مرحاً عن كل شباب طروب، كانت لياليها زاهرة بمختلف أنواع السمر واللهو تنتجعها القبائل من أطراف الجبال ومساقط الشعاب تقضي لبانتها من الأنس شطراً من الليل ثم تولي عائدة قبل منبثق الفجر.
في هذا الوسط اللعوب يبدو أمامنا جانب من زهد محمد صلى الله عليه وسلم. ففي كتب السيرة أنه أفضى ذات مساء إلى زميل له يرعى معه الغنم ظاهر مكة أنه يود هبوط مكة هذه الليلة يستجم في مرحها كما يستجم الشباب، وإنه لذلك يوده أن يقوم على حراسة غنمه، وأن الزميل قد قام بما تعهد لكن محمداً ما إن بلغ أعلى مكة حتى استرعى انتباهه فرح عرس، فرح عرس فقط وقف عنده قليلاً ثم ما لبث أن نام.
ونزل مكة ليلة أخرى فاجتذبته أصوات موسيقية، فلمّا انتهى إلى حيث يمكنه الإنصات ما عتم أن غلبه النعاس ونام!! ما شأن الأفذاذ بهذا؟ وما قيمة اللهو في نظر مثل هذا العظيم إذا قيست بساعة استغراق واحدة يتذوّق فيها الهدوء والتأمل؟
هاتوا.. هاتوا محمداً صلى الله عليه وسلم في إبان مجده لتلمس زهده إلى أي حد ينتهي.
وقال ابن هشام كان فراشه الذي ينام عليه أدما حشوه ليف، وأنه لم يشبع قط، ولم يطعم خبز الشعير يومين متواليين، وكان السويق طعام أكلته الكبرى، وكان التمر طعام سائر يومه، وكان الثريد مما لا يكثر له ولا لأهله تناوله، وأنه كان على ما أعطاه الله من أطايب الرزق يتحرق شوقاً إلى زند الخروف والقرع والعسل والحلوى.
وقال الواقدي في طبقاته كان معروف ثيابه القميص والكساء وكانا من صوف أو قطن أو تيل، وكان يحتذي حذاء بسيطاً ولم يلبس خفاً إلاّ حين أهدى إليه النجاشي خفين وسراويل.
وفي خلاصة السيرة أنه كان متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه، وكان يرقع ثوبه، ويحلب شاته.. على أنه قد جاءته هدايا أهل التيجان، وسيقت إليه الدنيا بمناعمها فما استأثر منها بدرهم ولا دينار بل أنفق كل ما وصل إليه في الخير، ورد به فاقة من مسهم الضر وفرقة مصالح المسلمين، وكف به أكف المشركين.
وجاء رجل إليه صلى الله عليه وسلم يسأله فلم يجد ما يعطيه فقال: اجلس سيرزقك الله ثم جاء آخران فقال لهما: اجلسا فجاء رجل بأربع أوراق فأعطاها إياه وقال: يا رسول الله إن هذه صدقة، فدعا الأول فأعطاه أوقية، ثم دعا الثاني فأعطاه أوقية، ثم دعا الثالث فأعطاه أوقية، وبقيت معه أوقية واحدة فعرض بها للقوم فما قام أحد فلمّا كان الليل وضعها تحت رأسه وفراشه عباءة فجعل لا يأخذه النوم فيرجع فيصلي.. فقالت له عائشة رضوان الله عليها: يا رسول الله هل بك شيء؟ قال: لا، فقالت: أفجاءك أمر من الله؟ قال: لا، قالت: إنك صنعت منذ الليلة شيئاً لم تكن تفعله، فأخرجها وقال: هذه التي فعلت بي ما تريد.. إني خشيت أن يحدث أمر من أمور الله ولم أمضها.
إنه الضمير الحي وإنه الوجدان اليقظ يقصي أصحابه عن متع الحياة ولذاتها، وإلاّ فما معنى هذه الخشية من أوقية واحدة تنام تحت عباءته؟
ترى ما هو صانع لو نام على مال القاصر، وإرث اليتيم، وحقوق الفقير يمتصها يلتهمها فتكتظ بها خزائنه، ويمشي شبعان ريان وحوله سواد الناس وعامتهم يئنون من الفاقة ويتضورون من الحاجة.
هي ذي سبيلنا في الحياة تمنعنا المجد المحق، وتقصي القلوب منها، وتعطي وجاهتنا زيفاً، لا يلبث أن يتختر كما تتختر ألوان الأواني المموهة لأول عرضها على النار.
أمّا صانع التاريخ، أمّا هذا السيد الفذ، فحسبك أن تعرف أنه أخذ على القلوب مشاعرها وعواطفها واستهوى أفئدة العصاة العابثين.
أعطوني إنساناً واحداً في هذا الوجود تسخو النفوس للتعذيب في سبيله، وتحتمل الفقر والجوع والنفي، وجلد السياط والكي بالصخر المحمى من أجله.
أعطوني في هذا أعطكم الحق في ضمه إلى جانب محمد عليه صلوات الله.
ونحن الآن قادمون على محمد المحجوب فلنسمع ولنتخذ أفذاذ التاريخ في ذلك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :612  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 62 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.