شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بعد أن طاب السفرجل

* * *

خديجة الفقهية من عائلات مكة العريقة قرأت المصحف على أبيها الشيخ وجوَّدت آياته، وحفظت جملة صالحة من كتب الحديث، وتمرَّست في فن الخط والحساب إلى حد كان لا يتيحه عهدها يوم كان من عيوب الفتاة أن تتعلم كيف تكتب.
وأصابها الزمان في أبيها ثم في زوجها دون أن تخلف منه ولداً يعولها فرأت أن تتخذ لها كتّاباً تعلم فيه البنات لتكسب عيشها وما يقيم أودها.
كان كتّابها يقع في زقاق يتفرع من المدعى يسمونه زقاق الشيش، وكنت لا تمر بالزقاق في أي ساعة من ساعات النهار حتى تصافح أذنيك أصوات البنات يقرأن في ضجة عالية.. وربما سمعت بعض المارة من أتراب أبيها كبار السن يتلمظون حياتها في عهد أبيها: "والله وعرفت تخلف مين يا شيخ سليمان.. الله يقويك يا بنت الشيخ.. يا خدوج!!
وكتّاب خديجة الفقهية أو -خدوج- كما يتراءى لأتراب أبيها أن يدللوها، لا يزيد عن غرفة واحدة متَّسعة الأطراف قسمت البنات بين أركانها إلى ثلاثة فصول.. فصل يتهجى الأليف لاشيون عليها.. وفصل يفك الحرف في قصار السور من جزء عم.. وفصل بالغ الغاية تتربع كل بنت فيه أمام كرسي مزدوج يحمل مصحفها تقرأ فيه طوال السور وتتابع ما تقرأ بأصبعها أو ريشة تتخذها من ريش الحمام تشير بها إلى حروف الكلمات وهي تقرأها -(فين الغنة يا بنت.. افتحي فمك بالمد.. يعني منت شايفه السكون بعد المد يبغى له ست حركات).
ولا يقبل كتّاب خديجة أو خدوج أطفالاً من الذكور -هادا يا ستي كتّاب مخصوص للبنات.. والعذر لله ولك.. شوفي هناك كتّاب الشيخ الصنعاني في دحديرة القرارة ليش ما توديه؟.. كتّاب عليه فتوح ألف ما شاء الله..
ومع هذا فقد وجد بعض الذكور طريقهم إلى الكتّاب في عدد لا يتجاوز الثلاثة أو الأربعة، كان سن أكبرهم حسان لا يتخطى العاشرة إلاَّ بشهور، رأت الفقيهة أن لا مناص من قبولهم لأنهم جيرانها "والواد الكبير حسان ربنا ممسد على وشه.. ولد هادي ما عنده شيطنه..".
كانت تقنع نفسها وتقنع أمهات الطالبات بمثل هذا وهي تخفي في قرارتها شطارة حسان في قضاء أكثر حاجاتها الصغيرة من السوق، واستفادتها من أبيه البائع البليلة عند باب الكتّاب "من فضلك روح يا عم قاسم دخيلك قضي لنا وصلة لحمة شوية ملوخية بس جيبها من العثري.. وزل من فضلك على أبو سعدية خذ منه العادة.. ربنا ما تقطع له عادة إن شاء الله"..
وأبو سعدية من مشاهير الصاغة في زقاق الحجر أمام باب النبي.. كان كبيراً في عمله، كبيراً في ثروته، كبيراً في شهامته وبذله، كبيراً في عطفه على ضعفاء الناس كما كان كبيراً في حارته: "عند الله وعندك يا أبو سعدية.. إحنا ما نسينا إنك، شلت الزينة على رأسك.. فتحت كيسك وبيتك.. الحارة ما تنسى لك جميلك.. إحنا ترى عندنا خرجه عازمين أهل النقا في الشهداء.. إحنا بس نبغا الطلبان منك والباقي على الله.. عندنا أبو صادق والشريم والبالع برضهم أهل فزعه ما هم متأخرين بس أنت سيد الكل.. راس القايمة".
- "يا مرحبا.. حيا الله نباكم.. بس ألحق صلاة العصر مع الجماعة وأرسلوا لي النقيب.. واللي تقولوه علي ماشي"..
* * *
أجل ماشي.. فقد تعودت نفسه السخاء وأدركت فقيهتنا ميزته في البذل فأخذت تعنى بسعدية ابنته عناية فائقة واستطاعت أن تستدر عطفه على الكتّاب.
- البزوره يكسروا ألواحهم يا أبو سعدية ويقطعوا الأختام.. أكثرهم فقرا ما عندهم يشتروا بدالها.. كمان -المضر- زي مانت شايف عمال يخلص قبل الدور.. فزعتك يا أبو سعدية إلهي ما يحرمنا منك!!
- طيب أرسلي لي عم قاسم كل دور.. وربنا يقدرنا على الطيب! وكان الطيب ريالين (مجيدي)، أصبحت عادة ينفحها أبو سعدية للكتّاب كل أسبوع.
وأدرك العم قاسم ما يتمتع به أبو سعدية من أريحية فكان إذا بارت بليلته في نهاية بعض الأمسيات كلف حسان ولده أن يحملها إلى دكان أبي سعدية: "يسلم عليك أبويا ويقول لك شوف اليوم البليلة زي المخ خلالك منها شوية علشان سعدية وأخوانها".
- طيب وديها البيت يا حسان.. وهادا ريال حق البليلة وهادا ربع ريال لك.. واد يا حسان لو بدك تشتهي البليلة كل مع سعدية يا ولدي.. وشوف عندهم سفرجل خليهم يعطوك كم حبة وديها لأمك في البيت تسويها مربه. ويفترش حسان وسعدية أرض الخارجه فوق مفرش صغير أمام صحن من البليلة وآخر من السفرجل!! وتشعر سعدية بدافع لا تفهمه أن عليها أن تكرم حسان في بيتها. فتقدم له قطع السفرجل المقشور فيتقبلها ممتناً ولا يعرف لحداثة سنه كيف يقابل جميلها فتختلط المعاني في نفسه، وتضطرب ويشعر بنأمة خفيفة تنبض في صدره لا يتبين لها معنى ويحس أن عليه أن يفعل شيئاً من أجلها فتسبقه نفسه إلى جبينها يطبع عليه قبلة خفيفة!! أودعها امتنانه كما كان يشهد أمه تطبع على جبين سعدية نفسها مثل هذه القبلة كلّما حملت إليها هدية من أمها أو تفصيلة جديدة للعيد تبر بها جارتها.
ودخلت أم سعدية فجأة على حسان وهو يطبع قبلته البريئة على جبين ابنتها ورأت ابنتها تضحك لبادرته الحلوة فطاش الدم في صفحة وجهها، وانهالت تضربه بمروحة الكوانين في يدها: "كدا ياللي ما تستحي.. يقولوا عليك ولد هادي وانت تعرف هادي المسخرة.. امش من هنا لا عاد أشوف وشك في هذا البيت أكسر رجلك.."، "وانت يا بنت سعدية كيف تخليه يسلم عليك ولد زي هادا ما يعرف العيب.. اصحي تاني مرة أشوفك تهرجيه".
لم يفهم حسان معنى لهذا الزعل المفاجىء ولم يفهم معنى لطرده من البيت وما ناله من ضرب المروحة. عهده بأم سعدية تحدب عليه وتعطف على أمه كجارة وفية ودودة، فلم يملك إلاَّ أن يسلم ساقيه للريح حتى إذا انتهى إلى الشارع ساقته قدمه إلى عتبة باب الكتّاب، فركن إليها وراح في ذهول يستعرض في عقله الصغير كل الأسباب التي تحتمل ثورة أم سعدية عليه وطرده بهذه الصورة المهينة، فلم يسعفه خياله البريء بأي معنى يفسر ما حدث.
وفجعت سعدية بدورها لما حدث، فلم تملك إلاَّ أن تبكي بدموع مدرارة.. ونهرتها أمها فمالت بجسدها على الأرض وأخذت ترفس برجليها وتشهق ببكائها في طفولة مجنونة.
وأمسى الليل عليها فأخذت سبيلها إلى مضجعها في -الخارجة- تحاول النوم ولكن النوم أبى لأول مرة في حياتها إلاَّ أن يستعصي عليها.
تبلبلت أفكارها وذهبت بها آلاف المذاهب.. لم يخرج حسان مضروباً مطروداً بلا ذنب؟ حاولت في حدود ما يتيحه سنها أن تفهم سبباً لما حدث فطافت بذهنها آلاف الظنون إلاَّ قصة القبلة على جبينها فقد تعودت مثلها من أمها وأبيها وأكثر أقربائها.. تعودتها على جبينها ووجنتيها وثغرها من معارفها وجيرانها رجالاً ونساء كما تعودتها من فقيهتها في الكتّاب!!
طافت بذهنها آلاف الظنون إلاَّ قصة القبلة فالتبس عليها الأمر واختلط، وجفاها النوم فلم يغمض لها جفن إلاَّ بعد أن أسفر الصباح.
عندما شعرت بثقل أجفانها ورأت نفسها فيما يرى الغافي تجري إلى بيت حسان لتسترضيه فيهولها نحيبه وقد ملأ البيت وتنادي بأمه لتفتح لها باب البيت وقد وجدته مغلقاً في وجهها فيطل وجه الأم من نافذتها ثم يشيح عنها في ازدراء!!
هبت من نومها مذعورة فآلت على نفسها في سرها أن تستعجل خروجها إلى الكتّاب لتقابل حسان وتسترضيه فيما حدث من أمها ولكنها ما كادت تخطو حتى سمعت أمها: "يا أبو سعدية بلاشى على البنت كتّاب علشان خاطر هادا الواد حسان.. وترى لا عاد يجيني البيت بعد كده.. ترى أكسر رجله ناقص علينا ولد هايف زي دا. قال إيه.. قال: أبوه بياع بليلة.. قرف!! وحاول أبو سعدية أن يفهم الفكرة فأبت إلاَّ أن تعمي عليه: "بس كدى هادي بنت وأمها أدرى بها.. انت مالك شغل.. البنت تنطق في البيت.. وانت خليك في شغلك".
لم يرق لأبي سعدية أن يتوسع إلى أكثر من هذا فقد عاش بخلقه الرضي يتحاشى مواجهة الحياة من جوانبها المظلمة! "سيبك يا سيدي.. ما دام أمها تبغا إلاَّ كدا اشلي واشل".
و (انْطَقَّت) البنت في البيت لا تريم عنه إلاَّ لما ليس منه بد. ولكن المسكينة عاشت وفي نفسها حزازة لهذا -الغلبان- الذي شهدت هونه في بيتها وعجزت عن إنصافه واسترضائه.
كانت تختلس بعض حبات الرمان أو الخوخ كلما دخل بيتها وتدسه في يد أختها الصغيرة، اجري يا صالح أعط هادا لحسان في بسطة البليلة.. ترى اصحي أمك تشوفك بعدين أبسك!!
كانت تعتقد أنها ترضي ربها لقاء ما حدث -للغلبان- في بيتها لا أكثر.. وكان حسان يتقبل هديتها في صمت دون أن يعلق عليها بحرف فقد ألف عطف أبيها قبلها فما خالجه قط أن هديتها تتسع لأوسع ما يفهم في حدود هذا المعنى.
وربما عنَّ له في بعض الحالات أن يقابل هديتها بشيء من البليلة يضعه في جيب "غثفة" أختها الصغيرة ويوصيها أن تأكلها مع سعدية.
وجاءته مرة بحبات من المشمش وكانت في يده سفرجلة فدسها في غتفتها لتحملها إلى سعدية، فما كادت سعدية تلمسها حتى ذكرت يوم السفرجل المقشور وما أعقبه من إهانة وطرد فسالت دمعتها وارتابت في الأمر ربما أرادها أن تتذكر في السفرجلة سيئات ما ناله في بيتها ولم يدر بخلدها أنها لم تكن إلاَّ صدفة.. مجرد صدفة لا أكثر.
* * *
ومضت سنوات نسيت فيها سعدية أمر حسان إلاَّ في فترات متفاوتة يدخل فيها السفرجل بيتها أو تمر فيها بباب الكتّاب حيث كانت تلعب مع حسان أو تشتري صحن البليلة من أبيه.
ولكن أين أبوه بعد هذه السنوات؟.. لقد كان يبسط بضاعته من البليلة في ظل هذا الركن.. وأين حسان نفسه.. لم لا ترى له أثراً في هذه الأزقة المتعارضة وكانت مرتع طفولته؟
وعنَّ لها في أحد الأيام أن تستدرج لسان العم بادريق العجوز، وكانت في طفولتها تشتري منه الزرنباك والحلاوة الموزية، فنفض إليها العجوز خلاصة ما يعرف: (إيه يا بنتي أبو حسان يعيش رأسك من سنين.. أما حسان فسعده سعد. هو اليوم في المدرسة الرشيدية مع الأفندية الذوات)!!
* * *
لقد مات والد حسان وماتت والدته فتبناه رجل من الأشراف يشتغل في قصر إمارة مكة مركزاً محترماً.. وألحقه الشريف بالمدرسة الرشدية وكان قد أسسها رجال الدستور في ذلك العهد، فظهرت عليه مخايل النجابة واستطاع أن يحقق نجاحاً هيأه لعمل وظيفي ممتاز في دائرة حكومية.
وشعر بحاجته إلى أن يكمل نصف دينه وأن يستقل ببيت خاص فعرض عليه متبنّيه بعض بنات العائلات وكادت الموافقة أن تتم لولا أن ثمة بيتاً كان صاحبه يعطف عليه في صغره وثمة فتاة كان عزيزاً عليها.. كانت تقشر له السفرجل!! وتنفحه هداياها من الرمان والخوخ في أسلوب صبياني لذيذ رغم ما ناله من شراسة أمها، فما يمنعه أن يبني على فتاة كان يلمس عطفها وحنوها ويصاهر رجلاً نادر المثال في أريحيته وأخلاقه.
أفضى بالأمر إلى متبنّيه الشريف فاستصوب الرأي ومضى من يومه إلى أبي سعدية في دكانه فوجد عنده ما أرضاه -"متى ما شاء الله سار في هادي الوظيفة؟ الله يأخذ بيده كمان وكمان.. هادا ولد مؤدب وكان أبوه الله يرحمه من الناس الطيبين.. أنا يا أخويا كبرت وما عندي أولاد.. يا مرحبا به خليه يسير كبير البيت.. أموت وأنا مطمئن.. دخيلك خليه يزل علي في البيت مشتهي أشوفه".
وحمل الشريف إلى حسان أمر الرضا ورغب إليه أن يزور الرجل في بيته فأسرع إلى ذلك من يومه تسوقه ذكريات مشبوبة وشوق طافح ولكنه ما كاد يطرق الباب حتى سمع صوتاً لم ينكره رغم تقدم السنين.. صوت والدة سعدية تهيب به: ما فيش هنا أحد.. إن كان تبغا سيد البيت رح له في الدكان.
استغرب حسان ما رأى وسمع وأدرك أن يطرد مرة ثانية من هذا البيت فهاله الأمر وحز في نفسه بشكل لا يطاق.
ولم يعجزه أن يعلل الأمر فهو يعلم أن سيدة البيت أساءت فهم طفولته يوم السفرجل واحتقرت صلته بفتاتها وهو ابن بائع بليلة.. وهي اليوم لا تدري شيئاً عن مكانته كشاب مرموق.. كما يعلم أن زوجها الطيب رغم أنه يفهم مثل هذه الأمور على غير هذا النحو الأهوج، ولكنه لا يملك في الوقت نفسه أن يؤثر على أفكارها في الحياة أو يقودها إلى ما يعتقد صلاحه.
كتم كل هذا في نفسه دون أن يبدي منه شيئاً لمتبنّيه الشريف وأكّد عزمه على أن يستجر آلامه وحده وأن يلغي فكرة الزواج من ذهنه ما عاش.
* * *
ولم تمض أيام حتى انطلقت الرصاصة الأولى من قصر الحسين في مكة تعلن ثورته على العثمانيين، فانضم إليها حسان في فتية من كبار الموظفين زملائه يخدمون القضية تحت غمرة الحسين، وبدأت وفود الهيئات العربية من الشام والعراق، ومندوبو الجمعيات العربية المغتربة في إنكلترا وفرنسا وسويسرا تنثال على مكة لتقدم تأييدها للحسين، فندب حسان ليتولى الإشراف على استقبال كبار الضيوف ومناقشتهم في بعض المهام التي ندبوا لها وتقديمهم إلى الحسين حسب درجاتهم وأهمية استعدادهم لخدمة القضية العربية.
ومضت شهور صدرت أوامر الحسين على إثرها بتجنيد المتطوعين من حارات مكة -الفزيعة- واستنفار القبائل الموالية في الحجاز للعمل في جيش الشمال الزاحف إلى سورية تحت إمرة أحد أبناء الحسين، فانضم حسان إلى الفرقة العاملة في دائرة أموال الجيش.
وبات الجيش في طريقه إلى الشام يتلقى إعانة الحلفاء المالية صناديق من جنيهات الذهب الإنكليزي فغمرت الأموال أفراد الجيش وجميع العاملين في إدارته بشكل فياض واسع.
وعندما عسكر الجيش في العقبة وطال مكثه اتسعت أسواق الحاجيات حول ميدانه وتفاقمت أسعارها، فبيعت وقيَّة الملح بما لا يقل عن قيمة الريال وبيع رطل السكر بما يوازي جنيهاً إنكليزياً، وبيعت علبة الدخان بأكثر من ريالين دون أن يتذمر المستهلكون لوفرة المال في أيديهم وكثرة الذهب في جيوبهم.
وتاقت نفس حسان للعمل في التجارة إلى جانب عمله الوظيفي ورأى في حوزته من المال ما يتّسع لأوسع الأعمال فيها، فاستأذن قيادته في الأمر فلم تعارض القيادة لحاجة الميدان إلى اتِّساع رقعة السوق، فأرسل إلى مكة من يختار لدكانه الواسع آلاف الأصناف، واختار لإدارته صديقاً وفياً؛ فانثالت الأرباح عليه بصورة كان لا يحلم بها.
كان يقضي سحابة يومه في إدارة أعماله الوظيفية فإذا أظله المساء هرع إلى الدكان ليشرف على أعمال البيع ويقفل حسابه اليومي ويحصي أرباحه التي ظلت تتطور كلما تطورت الأيام.
وإنه لفي دكانه ذات ليلة وإذا رسول أمير الجيش يدعوه ليلبي طلب الأمير في أمر مستعجل، فأسرع من فوره إلى خيمة الأمير، فإذا رجل من مكة بين يدي الأمير.. وما أن سلَّم حتى بادره الأمير:
- تعرف هذا؟
- أجل كنت أعرفه وأنا صغير السن أبيع البليلة بجوار أبي وكنت أشهده أحياناً يزور بيتاً معروفاً هناك.
وهنا ابتدره الرجل: "العلم لك خير يا حسان.. إنت سيبت هناك في مكة قلب: تقطع علشانك.. لا تقل لي أيت قلب.. أنت لا بدك ما نسيت واحدة اسمها سعدية كنت معاها وأنت صغير.
- لا والله ما نسيت لكن ما أعرف قلب مين اللي يتقطع.
- شوف يا ولدي.. وجه الله ما عليه غطا.. أنت خطبت هادي البنت وأبوها رضى.. وقفت أمها زي لقمة الخانوق في الحلق.. سار اللي سار البنت سمعت حكاية الخطبة ما قدرت تقول ولا كلمة، طاحت وجعانة في محلها.. تعبنا حكما.. تعبنا طببا ما فيش فائدة.. قول الأم أخذ الله بوداعتها وماتت، البنت جاها عشرين خطيب ما فيش فائدة.. مين يتزوج؟.. تتزوج واحدة على الفراش!! ما أكثر عليك أنا خال البنت جافى بال الأبو يمكن البنت مقهورة من يوم ردوا خطبتك.. عرفني أبوها على الحكاية قلت ولا شيء عندي.. أنا أروح أجس لك النبض.. دخلت لك على سعدية.. يا سعدية هادا حسان الأولاني جاء يخطبك وأبوك رضى ايش تشوفي.. أنا قلت هادي الكلمة ولا شفت لك إلاَّ البنت فتحت عيونها وصحصحت وسمعتو سمعتها تقول بنفس مفتوحة اللي تشوفوه يا خالي.
بس أنا مو حمار.. فهمت الهرجة من طقطق لسلام عليكم، ورحت أجري لأبوها قال لي خلاص شوف حسان أنا سألت عنه قالوا في العقبة مع الجيش وقالوا لي الرجل مضرب عن الزواج من يوم ما صكوا الباب في وجهه.. ايش تشوف؟ قلت له ولا أشوف ولا شيء أنا أقدر علشان خاطر الضعيفة هادي أمد رجلي للعقبة إن كان لقيته مشترينا برضه الله يحيي نباه.. إن كان.. لا.. جيتك على تياري. وربنا يلطف بالبنت ولا يأخذ عمرها وتستريح.
واديك تشوفني دحين مسكوني للأمير وأنا داخل العقبة حسبوني جاسوس نصيت عليه الهرجه بزي ما هيا.
والتفت الأمير في هذه اللحظة إلى حسان يستوضحه الأمر، أصحيح ما يدعيه الرجل أم هو تلفيق جاسوس؟!
وقبل أن يتفوه حسان كانت الدمعة قد سبقت إلى عينيه واختلطت قطراتها بشفتيه وهو يتفوّه: "أيها الأمير: كل ما قال صحيح.. وإذا أذنتم لي بنجدتها فإن نفسي وما أملك فداء لها.. وقد طاب اليوم السفرجل"!!
وأطرق الأمير ملياً ثم رفع رأسه ليقول: إنك صفي عندنا. ومن النادر أن نجد من يعدِلك أمانة وكفاءة وإخلاصاً.. ولكننا سنسخو بك في سبيل روح غالية.. أرى أن تبادر إلى مكة من ليلتك وسنختار من يشرف على عملك في الوظيفة ويتولى شؤونك في -الدكان.. اجمع من أموالك ما شئت واترك ما شئت لمن يخلفك على شؤونه.. هيا وأسرع إلى مأمور النقل عن أمري ليجهزك وزميلك بما يكفيك من ركائب الجيش السريعة وما يلزمك للمؤونة والعتاد.. وأرى أن لا تبيت إلاَّ على طريق مكة.
* * *
وأنجب السعيدان على أثر هذا فتى عاش بعدهما واسع الثراء بعيد الآمال، ظل يدير عملاً ناجحاً في جدة ثم انتقل بأعماله كما قيل إلى جنوب إفريقيا، ولعله يعيش اليوم فيها إن لم تكن تجارته قد دفعته إلى ميادين أوسع.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :559  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 156
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.