شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رجل من رجال التعليم القدامى (1)
المرحوم الأستاذ إبراهيم سليمان النوري
(1326-1384هـ)
بقلم: سعادة الأستاذ السيد محسن أحمد باروم
في موكب الخالدين:
كانت لفتة كريمة من وزارة المعارف لهيئة الإشراف على تحرير النشرة التربوية أن تهتم بالأوائل من رجال التربية والتعليم الذين أسهموا في بناء حياتنا التربوية والفكرية وإرساء أسس قوية ودعائم ثابتة للنهضة التعليمية التي سرى شعاعها الوهّاج إلى مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية في العقدين الماضيين من عقود التاريخ المعاصر لهذه المملكة الفتية.
وما من شك في أن تاريخ التعليم الحديث قد وعى أسماء كثيرين من المربين الأفاضل والمعلمين المخلصين الأفذاذ الذين تركوا آثاراً واضحة في عقول كثير من أبناء الجيل المعاصر في هذه المملكة، كما تركوا انطباعات قوية وذكريات عذبة في وجداناتهم ونفوسهم نتيجة لما تميزت به شخصياتهم ومناهج سلوكهم من خصائص نفسية وروحية وفكرية ومهنية باهرة، كان لها أكبر الأثر في توجيه طلابهم التوجيه التربوي والثقافي والخلقي المحمود.
ولقد كان المرحوم السيد إبراهيم النوري، تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه من هذا الطراز الفذ من المربين الذي يأسرك بقوة شخصيته وعمق ثقافته، ولماحية ذكائه وشدة حبه لمهنة التربية والتعليم.
لمحات من نشأته وحياته العلمية والعملية:
ولد رحمه الله بمكة المكرمة عام 1326هـ، في أعطاف بيئة علم ودين وورع، وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة في (كتاب) جده المرحوم السيد عبد المعطي إبراهيم النوري الذي كان يحتل المسجد الشهير بمسجد الشيخ ((مسافر)) في محلة الشبيكة.
ومنذ نعومة أظفاره وجهه جده الشيخ الورع الزاهد إلى حفظ القرآن الكريم غيباً، تأسياً واقتداء بالسلف الصالح من أجيال أمتنا العربية المسلمة التي كانت تعنى أعظم العناية بتحفيظ أبنائها القرآن مجوداً وعن ظهر قلب باعتباره الركيزة الأساسية لنظام التربية الإسلامية والعمود الفقري للعلوم الإسلامية والمنهل الخالد لأصول الثقافة العربية الخصبة، والينبوع الفياض للبيان العربي المعجز.
وحين جاوز السيد إبراهيم مرحلة الطفولة المتأخرة التحق بمدرسة الفلاح في مكة المكرمة، يتدرج في مراحل دراستها الابتدائية والثانوية والعالية طالباً مجداً راعياً قد فرغ لتحصيل العلم ونيل المعرفة على أيدي نخبة من العلماء وأعلام المربين حتى أُتيح له الحصول على الشهادة العالية منها عام 1344هـ وتقديراً لكفاءته العلمية الممتازة ومواهبه التربوية الخصبة فقد عينته إدارة المدرسة مدرساً فيها من أول المحرم عام 1345هـ واستمر فيها حتى نهاية شهر المحرم عام 1347هـ حيث انتقل إلى المدرسة الابتدائية الحكومية بالمسعى مدرساً بها قرابة عام، ثم عاد إلى مدرسة الفلاح ثانية مع بداية المحرم 1348هـ يكرّس جهوده لخدمة أبناء وطنه، ويستغرق أوقاته في تعليم العلم لهم وفي توسيع آفاق معارفه العامة إيماناً منه بأن تحصيل المعرفة لا يقف عند حد معين، مما جعله في موضع الإعجاب والتقدير من طلابه وزملائه العاملين معه في حقل التدريس والإدارة المدرسية، الأمر الذي ارتفع به لأن يكون وكيلاً لمدير المدرسة في غرة جمادى الآخرة عام 1351هـ واستمر في هذه الوظيفة إلى نهاية شهر رجب عام 1355هـ حيث نقلته مديرية المعارف العامة إلى جهازها الإداري مفتشاً ثانياً يقوم بتوجيه المدرسين في المدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد الثانوية العلمية إلى أفضل طرائق التدريس.
وفي هذه الفترة من حياته العملية تنقل السيد إبراهيم النوري في مختلف مناطق المملكة يدرس مشكلات التعليم ويتناقش مع زملائه المعلمين في ألوان القضايا التربوية الهامة وضروب الشؤون المنهجية والفنية المختلفة التي تشغل أذهانهم وتقلق خواطرهم بروح المربي الملهم والقائد الموجه البارع، وظل في وظيفته هذه أكثر من خمسة عشر عاماً لا يتململ ولا يشكو أيناً ولا نفوراً منها فكان لهذه السنوات الطوال الثقال آثار جليلة انعكست في طرائق تفكيره ومناهج سلوكه حنكة في الرأي وسعة في التجربة وسلامة في النظر وبعداً في الرؤية ودقة في التخطيط.
وعندما بلغ هذا الطور من أطوار حياته العملية جرى ترفيعه إلى وظيفة مفتش أول، وظل فيها عاماً واحداً حتى إذا ما أنشئ مكتب التفتيش في جهاز مديرية المعارف العامة عيّن رئيساً له في عام 1371هـ ثم رفع إلى منصب معاون مدير المعارف العام في أوائل عام 1372هـ.
وعندما ضخمت مسؤوليات مديرية المعارف العامة وزادت أعباؤها أصبحت الحاجة ماسة إلى تحويلها إلى وزارة فتم ذلك في مطلع عام 1373هـ وعيّن سمو الأمير فهد بن عبد العزيز أول وزير لها واختير السيد إبراهيم مستشاراً بها حيث مكث في هذا المنصب حتى أحيل إلى التقاعد في 15/3/1376هـ.
صور من الذكريات والانطباعات:
قضى المرحوم السيد إبراهيم النوري إحدى وعشرين سنة في مختلف مجالات التربية والتعليم يواكب تطورها ويعاني مشكلات نموّها ويحدو مع زملائه الأخيار قافلة التعليم وهي تنطلق في دروب الحياة الصاعدة بخطى ثابتة وإصرار أكيد على أن تواصل مسيرتها الخيرّة حتى تحقق الأهداف الاجتماعية المثلى والغايات الوطنية العليا التي رسمت لها منذ أن كانت المعارف مديرية عامة محدودة ثم وزارة كبرى ذات جهاز ضخم، تنشئ المدارس وتقيم دور العلم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وترسم معالم الطريق لنهضة تعليمية نامية متطورة كان للسيد إبراهيم وزملائه من الرعيل الأول من المربين والمعلمين الأكفاء الذين تتلمذت على أيديهم أجيال من شباب هذه المملكة خلال ربع القرن الماضي النصيب الأوفر والحظ الأوفى في نموها وتطورها وانطلاقتها المباركة حتى أعطت ثمارها اليانعة ونتائجها المباركة خلال السبعينات من هذا القرن.
ولقد أسعدني الحظ في أن أكون أحد تلاميذه خلال مرحلة التعليم الثانوي في مدرسة الفلاح بمكة حيث كان يدرس لنا علوم النحو العربي، وعلوماً أخرى بعيدة كل البعد عن مجال تخصصه العلمي المنحصر في علوم الشريعة الإسلامية واللغة العربية وآدابها شأن المتخرجين من القسم العالي في مدارس الفلاح، لكن أستاذنا المرحوم السيد إبراهيم كان يدرّس لنا العلوم الرياضية من حساب وجبر وهندسة حيث لم يكن هناك مدرسون متعاقدون يدرسون هذه العلوم لطلاب مدرسة الفلاح في مكة المكرمة.
وأشهد صادقاً أن أستاذنا كان على درجة كبيرة من الإتقان والدراية لأسس النظريات الهندسية ومسائل الحساب والجبر بحيث كنا نفهمها أتم الفهم كما كنا نفهم منه أسرار النظريات النحوية كما وردت في ألفية ابن مالك وكنا سعداء حقاً بأستاذيته ننهل من معينها الصافي ما شاء لنا الله أن ننهل، وكنا بجانب ذلك ننعم بفيض من أخلاقه السمحة ومزاياه الإنسانية الكريمة وسلوكه الخلقي الرفيع، ومعاملته المهذبة التي لا تسف إلى درجة الابتذال ولا ترتفع إلى مرتبة الكبر والعنجهية وإنما هي بين ذلك مما أكّد العلاقة الروحية بينه وبين طلابه وقوّى أواصر الود والاحترام المتبادل والتقدير العميق لشخصيته الرصينة في نفوسهم، الأمر الذي دفعهم إلى السعي وراء دروسه في حلقات المسجد الحرام.
فلقد كان رحمه الله جمّ النشاط دائب السعي لتثقيف طلابه ومواطنيه ما أمكنته الفرص وأُتيحت له الوسائل لتحقيق هذا الهدف الاجتماعي الإنساني النبيل.
ومن أجل ذلك كان يلقي دروساً في فقه الإمام الشافعي، وفي النحو العربي على مستوى رفيع بعد صلاة المغرب في حصوة باب إبراهيم.
وكنا نتسابق إلى هذه الدروس نتحلق حوله مع نخبة من طلاب العلم وعشّاق المعرفة، نصيخ بأسماعنا إلى شرحه وهو يتناول أفانين من القضايا الفقهية والنحوية فيها كثير من التوسع والإفاضة العلمية المحببة.
وإن المرء ليعجب حين يعلم أن أستاذنا كان يدرس لطلابه في القسم الثانوي بمدرسة الفلاح في مكة جزءاً من وقته في النهار ويعطي دروسه لطلاب العلم في حلقات المسجد الحرام شطراً من الليل في الوقت الذي كان يضطلع فيه بأعباء مسؤولياته كمفتش في مديرية المعارف العامة وكان يؤدي كل هذه المهام التعليمية والثقافية بحماس فائق وإخلاص منقطع النظير، ومسؤولية ملتزمة قل أن يعرف الالتزام لها مثيلاً، لكن العقيدة الصادقة تدفع صاحبها إلى البذل والتضحية وإسداء الخير وعمل البر دون استهداف لمصلحة مادية أو منفعة عاجلة وإنما هو الخير يعمل لوجه الله تعالى.
جهاده في سبيل مصحف مكة المكرمة:
لعلّ من أنصع الصفحات التي حفل بها سجل حياة المربي الكبير السيد إبراهيم النوري هو إسهامه الخير وجهاده المضني في سبيل تحقيق فكرة مشروع طبع المصحف الشريف في مكة المكرمة مهبط الوحي ومنطلق الرسالة المحمدية.
فلقد انبثقت هذه الفكرة بادئ ذي بدء من ذهن المرحوم الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود مدير مطبعة الحكومة سابقاً، فأخذ يعدّ العدة لإخراجها إلى حيز الوجود واتفق مع الخطاط المكي الشهير الشيخ محمد طاهر كردي على كتابته (2) ، لكن المنية عاجلته عند هذا الحد فتوقف المشروع فترة من الزمن حتى قيض الله -السيدين الماجدين الشيخ عبد الله باحمدين رحمه الله والشيخ محمد علي مغربي متع الله بحياته- فاتفقا مع الخطاط ذاته على الاستمرار في كتابة المصحف، وكان ذلك منذ نحو ربع قرن مضى، وهناك أظهر المرحوم حماساً متزايداً لتحقيق هذه الفكرة الفذّة التي تمثل في طواياها معاني خيرة تتركّز في قيام أبناء مكة المكرمة بهذا العمل الإسلامي الخالد الذي يعيد إليها سيرتها الأولى في الحفاظ على كتاب الإسلام الخالد، وتنمية الدراسات العلمية والأعمال الصناعية المتعلقة به فاستغرق رحمه الله بكليته في عملية التصحيح وتفرغ لها حتى انفرد بها دون زملائه الآخرين من أعضاء لجنة التصحيح.
وتطلب منه هذا العمل الدقيق جهوداً مضنية استمرت طوال عدة شهور (ولولا همته لما أمكن تصحيح المصحف في بلادنا، ولما أمكن للأسماء التي وضعت في ذيل المصحف الشريف أن توضع وهذه حقيقة نذكرها للتاريخ اعترافاً بجهود السيد (رحمه الله) في هذا العمل التاريخي العظيم، ولقد كان رحمه الله كريماً فلم يبد أي اعتراض على وضع أسماء أعضاء اللجنة الآخرين الذين لم يقوموا بأي عمل معه، ولو فعل لكان من حقه ذلك، لكنه كان مؤثراً وكريماً).
تلك شهادة حق قالها السري الماجد الشيخ محمد علي مغربي أحد الرجال الأخيار الذين أسهموا إسهاماً مادياً ومعنوياً قوياً في حمل فكرة المشروع من دنيا الأمل والحلم إلى عالم الواقع في تقرير حقيقة ناصعة ينبغي تبيانها لإيضاح فضل السيد المرحوم في دفع هذا المشروع الإسلامي المجيد دفعات قوية إلى الأمام بفضل ما تجلى به من قوة وإخلاص ومضاء عزيمة، وتوهج عاطفة دينية، حتى إذا انتهى من مرحلة التصحيح الأولى حمله إلى مشيخة المقارئ المصرية التابعة للأزهر الشريف ليعيد تصحيحه مرة أخرى، وحين استوثق من دقة التصحيح وسلامة المراجعة، عمل إكليشيات مشروع المصحف الشريف في القاهرة وعاد بها إلى مكة والدنيا لا تسعه من فرط سروره واغتباطه بما حباه الله من توفيق في استكمال الخطوط الرئيسية لتنفيذ مشروع مصحف مكة المكرمة.
وحينذاك تألفت شركة مصحف مكة المكرمة وأدرك المعنيون بأمره أن السيد إبراهيم رحمه الله هو خير من يتولى إدارتها، فقبل منصب مديرها بعد أن انتهت خدماته الجليلة في وزارة المعارف وأفرغ كل جهده ونشاطه لطبع المصحف في أربعة أحجام متفاوتة طبع منها عدة آلاف من النسخ خلال السنوات العشر الماضية.
وقد أجمع رأي العلماء والمهتمين بطباعة المصحف الشريف على أن مصحف مكة المكرمة يأتي في طليعة المصاحف التي طبعت في مختلف أقطار العالم الإسلامي من ناحية دقة التصحيح وإتقان الإخراج الطباعي.
واستمر السيد إبراهيم رحمه الله في منصب مدير شركة المصحف قرابة ثمان سنوات استنفد فيها كل وقته وعصارة تجاربه وخلاصة أفكاره لتطوير مصحف مكة المكرمة تطويراً مستمراً يضمن له الإتقان المتفوق في الإخراج والزيادة المطردة في التوزيع، والشهرة الذائعة في مختلف ديار الإسلام حتى وافته منيته في يوم الخميس الرابع والعشرين من شهر المحرم عام 1384هـ أثر حادث انقلاب سيارة كانت تقله ورفاقاً كراماً له في طريقهم إلى المدينة المنورة لزيارة مسجد الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم فلفظ أنفاسه الطاهرة وهو يتلو آيات من القرآن الكريم، الذي كان يواظب على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، والذي أفنى بقية حياته في خدمته ورفعة حروفه وإعلاء كلمته.
أجزل الله ثوابه في دار الخلود ورفع مكانته إلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
أصداء باكية:
حين انطلق الناعي بنقل وفاة السيد إبراهيم إلى جمهرة تلاميذه وأصدقائه وعارفي فضله تحركت دواعي الشجن وعواطف الأسى في نفوس كثير منهم على فقده فجرت أقلامهم تعبر عن بالغ الحزن وعظيم التقدير لشخصية الراحل الجليل، فكتب الأساتذة الفضلاء عبد الله عبد الجبار ومحمد علي مغربي وعبد العزيز الرفاعي والسيد علي الحافظ وكاتب هذه السطور مقالات تأبين في مختلف صحفنا المحلية وكلها تشيد بأثر الراحل الكريم، وترسم صوراً قلمية لنواحٍ بارزة في شخصيته الفذة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :682  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 86 من 153
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.