شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مرحلة ((عكاظ))
تواصلت مرحلة عملي بوزارة الإعلام: الصحافة، المطبوعات، الإعارة من الوزارة للصحف.
وفي هذه المرحلة.. كانت طموحات الشباب فينا تدفع بنا إلى التلاقح مع كثير من الكتب التي كانت تتوفر في المكتبات من مترجمات الأدب العالمي إلى العربية، وتعرفنا على أسماء شغلت سماء الأدب والإبداع في القصة والرواية، بدءاً من "سومرست موم"، وتواصلاً مع: آرسكين كالدويل، وروايتيه العظيمتين: طريق التبغ، أرض الله الصغيرة، وألبرتو مورافيا، وجان بول سارتر وصاحبته: سيمون دي بوفوار، وجان جاك روسو، والكاتبة التي أشهرتها رواية سمتها: صباح الخير أيها الحزن/فرانسوا ساغان... فكانت سجالاتنا وركضنا ينطلقان بنا إلى ثقافة عالمية جديدة راوحت بين تعريفات ومسميات، مثل: اللامنتمي، واللامعقول في حركة فكرية من النشاط المعرفي، ومواجهة جديدة من التيارات الغربية الحديثة نخوض غمار تفاعلاتها بمسمى: التنوير، والتحديث لاستيعاب هذه المدارس الفكرية والإبداعية الحديثة!!
وتعددت ألوان قراءاتنا: رواية، وقصة قصيرة، وبحثاً، وأشعاراً معربة... ومن تلك الألوان: استوقفنا إبداع الكاتب الفنلندي/ميكا والتاري: المكلوم، الحائر، القلق الذي كان يكتب: "البهجة.. خرافة الواهمين"!
وجذبتنا الرواية الأشهر "قصة حب" التي طبع منها خمسة ملايين نسخة وترجمت إلى أكثر اللغات، وأنتجت فيلماً.. وقد قال كاتبها/إريك سيجال: "الحب.. هو أن لا يكون لنا أن نقول أبداً أننا آسفون"!
وركضنا وراء من سمى نفسه: (الغريب) البير كامو.. الروائي الذي مثل زخماً هائلاً من المعاناة والقلق، والخوف والحب، و "الاحتماء".
وقرأنا "وليام فوكنر" صاحب نظرية: الزمن هو الحالة، والاستشعار هو الملابسة.
وأعجبنا كثيراً بالكاتب/كولن ويلسون، مطلق الدراسة الانطباعية القائلة: الحقيقة بسيطة، تقول: إن القوة كانت وستبقى هي العنف الطاغي للتاريخ.. وهو الذي كتب عن قضية الإنسان كحياة، وجعله حصيلة في روايته الأشهر: ضياع في سوهو!
أما "فرانسوا مورياك".. فقد قال عنه/جاك روبيشون الفرنسي: إن مورياك كتب الرواية التي تحملك أن تقول: هذا مورياك الذي عالمه مغلق وأكثر خصومة.
وقرأنا "عيون الزا" الأشهر لمبدعها/لويس أراجون، عاشق (الزا) التي اختطفها الموت منه، فأحالت وجوده إلى: عين مفقودة.
وأحدث "جان كرواك" صخباً عالياً وهو يأتي على رأس (الجيل المنهك) أو الضائع، ولاحظ أن نسبة الكتاب المعبرين عن هذا الجيل في أمريكا أكبر من نسبة كتاب "الجيل الغاضب" في بريطانيا!!
* * *
ونستطيع أن نصف هذه المرحلة، أو جيلنا الصاعد: بالنقلة الفكرية الحضارية، والانعطاف إلى ثقافة نكتسب من أبعادها: رؤى ورؤية عقول تنويرية، والحرص على إبقاء ما كان يسمى حينذاك: (التوازن) في تلك المكتسبات وكيفية تلقينا لها، وإفرازها إبداعاً جديداً من خلال وسائل الاتصال المحدودة، الممثلة في المكتبات التي كانت تحرص على توفير كتب الثقافة والإبداع أكثر من حرصها اليوم على تجارة القرطاسية، ربما لأن الرقابة على الكتب اليوم تبدو أكثر تضييقاً مما كانت في الخمسينات وحتى منتصف الثمانينات... وعجبي!!
وفي هذه المرحلة أيضاً من منطلقها الآخر: أراد جيلنا أن يستجيب -بقدراته المحدودة- للتكامل مع شعارات "القومية العربية" و "الناصرية" التي أشرقت حينذاك كشمس واعدة للشعب العربي في حلمه بالوحدة العربية التي لا بد لها أن تسبق أطماع الصهيونية في استعمار الوطن العربي من النيل إلى الفرات/حسب شعارهم الذي ما زال يراود هؤلاء الاستعماريين.
وكان الكثير من الشعب العربي: يعجب بعروبة (عبدالناصر)، حتى علية القوم من مسئولين ومثقفين ومواطنين عرباً... وكنا نتفاعل مع تلك النداءات ونندفع في الدعوة إليها، حتى وجدنا أنفسنا -نحن نخبة من جيلي وزملائي- بين أسوار السجن لمحاكمتنا وعقابنا على ذلك التوجه القومي العربي، في تكثيف دعوة بلدنا إلى التضامن الإسلامي، وعلى ذلك الاندفاع وربما الانتماء إلى تلك الشعارات التي كانت تشكل (الحلم) الكبير لكل عربي!!
وهكذا.. استضافتني جدران سجن "شمال المربع" في العاصمة الرياض مع مجموعة الشباب الكتاب أصحاب الانتماء لهذه المرحلة، وبعض المديرين العامين في الوزارات، وحتى طلاب الثانوية العامة والجامعة.. وأمضيت عاماً ونصف العام، خرجت بعدهما وقد فقدت (وظيفتي) الأساسية الرسمية بوزارة الإعلام مفصولاً، وممنوع علي أي عمل أعوض به دخلي الذي فقدته!!
لكن سجننا كان سياسياً، والزيارة من أهلنا وأصدقائنا غير معسرة، وتصل إلينا أحدث الكتب الصادرة لنلتهمها في برودة جدران السجن ونزداد تفاعلاً معها، وتوفر لي الوقت الطويل للكتابة في صمت الجدران ووحشة الليل بعيداً عن الأهل والخلان!!
وفي هذه المرحلة العصيبة جداً، لم أكن أملك دخلاً أصرف منه على زوجتي وابنتي وابني... فقررت بعد إطلاقي من السجن: الالتجاء إلى بيت والدي في مكة المكرمة، فلا قدرة مالية تعينني على استئجار شقة والعيش شهراً من دخلها.. واحتواني بيت العائلة الكبير أكثر من عام، سدت خلاله في وجهي كل المنافذ التي توصلني إلى: عمل ودخل.. وكان رفيق مشوار العمر: "عبدالله عمر خياط"/الصحافي الرائد اليوم، (والعمدة) كما أطلق عليه أستاذنا/محمد عمر توفيق: يجري اتصالاته مع المسئولين مبيناً خطورة بطالتي وحرماني من عمل يوفر لي دخلاً، حتى نجح في إقناع "ولاة الأمر" بتعييني لديه في صحيفة (عكاظ) محرراً دون أن يظهر اسمي!!
لكن هذه العقوبة لم تطل، حتى سمح لي بالكتابة الإعلامية.. فبدأت كتابة عمودي اليومي (العتيق): ظلال على صفحات عكاظ، وما لبث "عبدالله خياط" أن أصدر قراره بأن أتولى سكرتارية تحرير الصحيفة التي عملنا في جهاز تحريرها بروح الفريق الواحد المتجانس المتفاهم شبه المتوحد في مصادر ثقافته وقراءاته تحت رئاسة (الخياط).. ونجحنا في تطوير الصحيفة لتكون الأولى في التوزيع، رغم أن عدد صفحاتها لا يزيد عن (16) صفحة.
وانطلق بنا التفاهم والتجانس بحرصنا على اكتشاف واستقطاب المواهب الجديدة والمبدعين الذين كبروا بمواهبهم ليصبحوا إضاءة جيل جديد، أو كما أطلق علينا البعض يومها صفة: جيل التحديث والتغيير.
ولم يكن الكثير راض عن ما نكتبه وتوجهاتنا الفكرية من القراء التقليديين، ولا حتى بعض المسئولين الكبار، لأن طموحنا آنذاك لم يكن له حدود.
ونجحت (عكاظ الخياط) كما كانوا يسمونها في: الانتشار، ثم في إقامة مسابقة ثقافية منحت جوائزها لأسماء ثقافية معروفة، ففاز بالجائزة الأولى/سيارة إكيديان: الأستاذ "محمد سعيد طيب"، وفاز بالجائزة الثانية/مكيف: الشاعر "حسن القرشي"، وكانت الجائزة الثالثة: ثلاجة.. وقد شكلت "عكاظ" لجنة تحكيم من: الأستاذ/حسن أشعري، مدير عام المطبوعات آنذاك، والمهندس/معتوق باحجرى/خبير جيولوجي، برئاسة المربي الكبير الأستاذ/محسن باروم، وسكرتارية الأستاذ/أسامة السباعي، وأقيم الحفل بفندق "الكندرة" بجدة، وحضره: الأمير مشعل بن عبدالعزيز/أمير منطقة مكة المكرمة، ومعالي الشيخ/محمد سرور الصبان!!
وهناك "حكاية" عن جائزة سابقة: "قلم باركر 61"، رصدها "الخياط" لمن يعرف اسم شاعر أبدع قصيدة قرأها علينا دون اسم شاعرها، وجلست مع زميلي الذي كان يكتب القصة القصيرة وهجرها/عثمان مليباري نحك رأسينا لعلنا نعرف... وأعدت قراءة الأبيات بهدوء، أحاول استحضار اسم شاعر عرف شعره بهذه المدرسة.. دون جدوى!
- وقلت: إن "أبا زهير"/عبدالله خياط: لا أحسبه يرصد جائزة ويفصح عنها.. فإما أن تكون القصيدة (من وضعه)، وإما أنها نشرت في مجلة قبل عدة أعوام فنسيها الناس.. ليبقى القلم الباركر: مطمئناً يهدهد في جيب زميلنا العزيز!!
* * *
الصفحة السابعة:
أحسب أن هذه الصفحة (السابعة) في عكاظ طوال مسئولية/عبدالله خياط عن تحريرها: كانت تشبه مدرسة إبداعية استقبلت الكثير من المواهب والمبدعين وصقلتهم وقدمتهم للقارئ في صورة اكتسبوا من خلالها شهرة عريضة، بل وقدمت البعض كمدارس جديدة في إبداع: القصيدة الغنائية، وكان على رأس هؤلاء: الأمير/بدر بن عبدالمحسن، والأمير/محمد العبدالله الفيصل، والأستاذ/ناصر بن جريد.. ومن الكتاب المجددين بحق: مشعل السديري، وعبدالله باجبير، وعلي مدهش، وعلي عمر جابر، ومحمد عبدالواحد.. وكان العمود (المؤنث) في الصحيفة تكتبه يومياً: فوزيه أبو خالد، ولعله كان أول عمود يومي تكتبه امرأة.
وكل هذا الحشد: قدمته "الصفحة السابعة" للقراء كل صباح في أطباق يومية شهية من المعلومات، والثقافة المتنوعة، والشعر، والقصة، والأغنية.. ويتعاقب على تحرير وإعداد هذه الصفحة: كاتب ومحرر، بدءاً من رئيس التحرير، ومدير التحرير/عبدالله الداري، وسكرتير التحرير/عبدالله الجفري، والمحررون: علي عمر جابر، علي مدهش، عبدالعزيز فرشوطي، محمد عبدالواحد، ولكل محرر للصفحة: لونه الكتابي، وانتماءه الفكري، وكتَّابه الأسبوعيين.. حتى أن بعض القراء/عشاق الأدب والمعلومة: كان يقرأ "عكاظ" من الصفحة السابعة.. برغم ما كان يثيره رئيس التحرير/عبدالله خياط من أخبار محلية ذات سبق صحافي ومعالجات لقضايا الوطن، على الصفحة الأولى!
وزميلنا "عبدالله أحمد الداري" كان شخصية مميزة بالصمت، وبالابتسامة النصفية/(موناليزا على رجالي)، وإذا سألته أجابك باختصار شديد، حتى أن (هدوءه الملحوظ) أثار مرة الكاتب الساخر والشاعر/راشد الحمدان.. فأهداه قصيدة (إخوانية) قال في مطلعها:
- الثلج في الغرب شيء من طبائعهم
والثلج في الشرق شيء اسمه: الداري!!
* * *
التجربة والاستمرار:
هكذا كانت تبدو التجربة في صلب العمل الصحافي، وعندما تضطرك الكتابة أن تصبح هي: حرفتك الوحيدة، ومصدر رزقك.. فإن هذا الاضطرار يعني: أن الكاتب المضطر لا يعيش في بحبوحة!!
البحبوحة: أن أكتب بإيحاء من عقلي ووجداني، وليس اضطراراً لحاجاتي المادية.
أما في العالم المتحضر... فالكتابة: إبداع، وفن، وتميُّز.. يصبح لها قيمة مادية بجانب قيمتها المعنوية!
بمعنى: أن الكاتب في العالم المتحضر يعتبر من المميزين والصفوة.. من الذين لإبداعهم ثمن غال جداً بمقدار غلاء قيمة الكلمة وغلاوتها!
والصحافي المتميز: هو القادر على التواجد في بؤرة الحدث لحظة وقوعه.. وهو القادر على التحليل والاستنتاج والتقصي لصحة الخبر أو الحدث.. وهو النزيه الذي يحفظ للكلمة شرفها، ولا يدنسها بأغراضه الذاتية!!
وكانت "البلاد" قد احتضنتني منذ قدمت "البلاد السعودية"/صفحة دنيا الطلبة، واحتضنتها بين أضلعي وفي هاجسي منذ صرت أحد أفراد أسرتها الكبيرة وجندياً بالقلم على صفحاتها!!
ثم كانت "عكاظ" التي صقلتني وصهرتني، وبلورت في داخلي: الكاتب الأديب القاص، العاشق لفنون الإبداع.
وقالوا عن الصحافي المتميز: أنه عبارة عن كشكول جامعي يأخذ من كل شيء في هذه الدنيا بطرف.
إن التخصص هو سمة العصر، والتركيز في فن واحد: أجدى وأكثر عطاء وتجويداً، ولكن لا بد من "المعلومات العامة" أو من كل علم بطرف، حتى تستقيم قدرة الصحافي على الحوار!
إن العمل الصحافي يتطلب أولاً: الموهبة، ثم العشق الشديد له، ثم الدراسة... أثافي ثلاث لا بد للشاب الراغب في العمل الصحافي أو الإعلامي أن تتوفر فيه.
والمؤسسات الصحافية -بكل صراحة- تتوارى عن استقبال واحتضان هؤلاء الخريجين -على قلة نسبتهم!- وذلك تنصلاً من واجب: تدريبهم عملياً، ومنحهم رواتب "كريمة".. فبعض المؤسسات يهمها: كم يكون دخلها من الإعلانات، ولا يهمها: كيف ستكون مطبوعتها؟!
أيام السجن:
...... وبدأت رحلة عذاب النفس والروح، والخوف من تعذيب الجسد في داخل هذا السجن الذي أطلقوا عليه: السجن السياسي، وكان مقره "شمال المربع" بالرياض.. وقد أمضيت داخل غرفتين فيه عاماً ونصف... الغرفة الأولى سميت: السجن الانفرادي، والغرفة الأخرى: السجن الجماعي/عشت داخلها أنا وزملائي في التهمة: محمد سعيد طيب، ورشاد شاولي، ومحمد علي سليماني، وفيصل سجيني: الذي اقتحمه مرض السرطان وبقي يتألم ويركض أهله إلى "الملك فيصل" الذي تفهم الوضع الصحي الحرج بعد زيارات ومراجعات أهله المتكررة للملك، فأطلق سراح "فيصل سجيني"، وبادر أهله بنقله إلى القاهرة لعلاجه في مركز متخصص لعلاج السرطان... ولكن هذا الشاب الوسيم والأنيق الذي كان يهوى الرسم فأبدع عدة لوحات جميلة، ويهوى الموسيقى ويرتاح إليها نفسياً... لم تطل مقاومته للمرض، وبلغنا الخبر في سجننا: فيصل مات!!!
وأمضينا نحن زملاء الغرفة الواحدة ساعات من الوجوم والذهول والألم النفسي، والترحم عليه والدعاء له... فقد كان "فيصل سجيني" بالنسبة لنا: إنساناً جميل الروح والنفس، يميل إلى المرح والانطلاق، عفوياً في تعبيره، ملتزماً بآرائه التي يدافع عنها لأنها: قناعاته ومبادئه.
وعدنا إلى حياتنا المعتقلة معنا... وكان (أهلنا) أشد إحساساً بالسجن، كأنهم مثل الذين داخله.. وعانوا كثيراً من وضعنا، أو (رميتنا) في هذا السجن في صمت.
وأمضت معي رفيقة مشوار العمر/أم وجدي أيام وشهور السجن وهي خارج أسواره كل ما كنت أعاني منه نفسياً... فكانت تركض وراء قضيتي كأنها تمارس رياضة (الماراثون) بين الرياض وجدة... تبقى في جدة داخل بيت أخيها وفي رعاية أمها، وتعود إلى الرياض في كنف أختها وزوجها القريب لها وهي في نضارة شبابها تحضن وتربي طفليها/فلذة كبدها وكبدي: زين ووجدي.. وتواصل ركض مراجعاتها للأمير/فهد يوم كان وزيراً للداخلية، وتدخل على الملك فيصل الذي كان يطمئنها دائماً ويعدها!
كان ركضها ذلك أقسى من حياة السجن التي كنت أعاني منها.. فقد لاقت صنوف التعب، وهي تراوح ما بين الأمل والخوف من المجهول وكانت تحتمل مكوكيتها الدائمة ما بين الرياض وجدة، وصعوبة لقائها بالملك الذي قالت له في آخر مقابلة لها معه:
- إنني لن أزعجك بمراجعاتي بعد اليوم، فأنت في كل مرة أزورك فيها تطمئنني، وأنتظر ولكن يبقى الأمر: مكانك سر... لذلك سأعود إلى جدة وأنتظر الفرج من الله.
- قال لها الملك: تأكدي أن انتظارك لن يطول بإذن الله.
وعادت "أم وجدي" إلى جدة في كنف أمها وأخيها.. وبعد شهر من لقائها الأخير مع الملك فيصل/خاتمة لقاءاتها المكوكية... صدر الأمر في غرة رمضان بالإفراج عنا بعد أخذ التعهد المتداول: بعدم العودة إلى مثلها!!
والآن... كلما عاودني شبح ذلك السجن.. لا بد أن أسترجع صوراً وجدانية كانت ملامحها قد استقرت في عمق النفس وما زالت حتى اليوم.. وأكثر ما عانيت منه في سجني: ما تكبدت "أم وجدي" من طرق أبواب أعلى سلطة، وتلك الدموع في شعورها بالخوف من نهَّازي الفرص، أو من بقائها داخل هذه الوحدة النفسية وهي تضم طفلين تخاف عليهما... أما زملائي في السجن فقد أطلقوا على "أم وجدي" صفة أو مسمى: المرأة/الرجل.. بمعنى الرجولة.. وبقيت "أم وجدي" نموذجاً تقتدي به زوجات المسجونين، وتتحدثن عن وقفتها العظيمة وركضها الذي يفسر معنى حربها في معركة لا بد أن تنتصر فيها.
ومنذ اللحظة الأولى لاعتقالي بعد منتصف الليل في جدة، وكنت (أباً) جديداً رزقني الله بابنتي الكبرى/زين التي بقيت صورتها وحركاتها الطفولية في عمق مشاعري تدر دمعي بين جدران سجن مباحث جدة (الانفرادي)... فأتخيلها: كيف كانت تركض مثل (البطريق) إلى الباب تستقبلني لحظة عودتي من العمل.. وكيف كانت تقفز إلى صدري: تكركر، وقد كانت ذات طفولة مرحة، حتى أطلقت عليها الأسرة صفة: (كريكره) بلهجة أهل الحجاز.. وكانت تفاجئني من وراء باب الشقة بكلمة: (بخ).. وأركض وراءها على امتداد الشقة الصغيرة المكونة من ثلاث غرف: الأولى للجلسة أو المعيشة، والثانية للضيوف، والثالثة للنوم.
وقبل أن يقتحم رجال المباحث بيتي واعتقالي، ثم توجيه تهمة (الناصرية) والقومية العربية لي.. كان ابني (وجدي) قد أطل على دنيانا، فزاد حياتنا بهجة، ولم يكن قد أكمل عامه الأول، لكن لثغته الطفولية كانت تستنبت الفرحة والضحك، ونحن نحرضه على نطق أسمائنا ومن يقرب لنا بلهجته وكلماته التي أخذ يبدأ بها الكلام... فكان "وجدي" يشيع النشوة في حياتنا في غمرة هذا الضوء المعبر عن الفرح بقدومه.. وتذكرته داخل جدران السجن، ورددت:
- ما أحلاك أيها الطفل الذي أدفأ أسرة بوجوده.
* * *
وطويت صفحة أيام الاعتقال في مباحث جدة بعد أكثر من شهر، كنت محبوساً داخل غرفة موصدة الشبابيك والباب.. حتى جاء قرار ترحيلي إلى الرياض للانضمام إلى مجموعة كبيرة من شباب هذا الوطن المعتقلين بعدة تهم.. ومع نقلي إلى الرياض بدأ ماراثون العذاب الذي ركضته رفيقة العمر "أم وجدي" لمدة عام ونصف وما بعدهما من ضيق ذات اليد، بعد صدور قرار فصلي من عملي في وزارة الإعلام!!
ولكن... كما قيل: "للخوف نهاية، وللمعاناة نهاية".. وقد تذكرت هذه الصورة بمعناها حين كنت أقرأ لكاتب عربي قوله هذا.
- "هناك نهاية القدرة على الخوف حين يصل الخائف إلى آخر الخوف.. وبجنون هادئ يخرج من الاختباء كاشفاً صدره وظهره ماشياً في عرض الطريق"!!
وانتهى العام والنصف.. وخرجت من السجن إلى الشارع، بلا عمل، ولا دخل لمعيشتي وزوجتي وطفلي، فتكثفت غربة في داخلي!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :746  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 39
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج