شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ما بعد الطفولة
أسرتي قبل الزواج: كانت تتكون من: والدي وعمات أربع لي، فقد ودعتنا أمي -رحمها الله- حين خطوت إلى قفلة السنة الأولى من عمري، فتكفَلتني (عماتي) واحدة إثر أخرى... حتى تخطيت العاشرة، فاقترن أبي بامرأة من المدينة المنورة، صارت لي "أماً" بحق، واهتمت برعايتي، ووقفت في صفي كلما ثار أبي في وجهي... وأنجبت له من الأولاد: علوي، أمين، محمد، عادل، عدنان، ومن البنات: سميرة، مصباح، هدى.
وهكذا تراءت في مخيلتي أيام الطفولة التي تمخضت عن: حسرة الإنسان الذي يكبر في غير حضن أمه، واكتشاف جفاف الحياة في غياب حنان الأم.
ولا بد أن حصيلة إنسان من جيلي يحاول أن يجسر الهوة التي تحجب البعض عن فهم الألفية الجديدة اليوم: تحضنا أن نعرف مدى استعدادنا، ومدى وعينا وفهمنا لما يجري حولنا.. وأن نفهم أنفسنا.. ماذا نريد بالضبط، وما هي قدراتنا، وما هي أبعاد تطورنا وارتقائنا.. وبذلك قد نتجاوز الهوة ونخرج من الخنادق والأنفاق!
إن "الرغبات" في الإنسان طغت اليوم على أفكاره، أو أن أفكاره قد انحصرت في الرغبات التي ما تكون غالباً ذاتية (شخصانية)، وهذا ما يجعلنا ننظر فكأننا نرى الناس آحاداً وإن ماجوا ملايين!
* * *
ابن مكة وعاشقها:
ولا شك أبداً في اعتزازي بأنني ابن من أبناء مكة المكرمة وعاشقها/مسقط رأسي، وملاعب طفولتي وصباي، والإشعاع الروحي الذي كنا نستمده ونحن طلبة نتجمع في حصوات المسجد الحرام قبل تبليطها، ونستقبل الكعبة المشرفة، ونصلي جماعة، ونذاكر دروسنا المدرسية.
ولن ننسى أول ملتقى لنا بعد خروجنا من الطفولة إلى الفتوة والصبا.. جمعنا فيه معلمنا الشاعر الكبير/عاشق الأطفال: طاهر زمخشري، أو: بابا طاهر، كما كنا نناديه، وقد شكل منا فريق تمثيل وتقديم إذاعي للمشاركة في برنامجَي: الأطفال المشرف عليه "بابا طاهر"، والأسرة الذي أشرف عليه معلمنا المربي/قاسم فلمبان... وفي مبنى الإذاعة الكائن حينذاك في "جبل هندي": كان يستقبلنا مدير فرع الإذاعة بمكة المكرمة/الشريف محمد بن شاهين: عاشق النغم بصوته الشجي الذي كان يشدنا إليه ترديده لأغاني/محمد عبدالوهاب، وكنا نطلب منه -ونحن نتحلق حوله- أن يغني لنا من أغاني عبدالوهاب بصوته الشبيه جداً، فيعلو صوته: يا وابور قلي رايح على فين، جفنه علم الغزل، يا شراعاً وراء دجلة، مضناك!!
وما يلبث "بابا طاهر" أن يصادرنا من الشريف ليدخلنا الأستوديو، ومثله كان الأستاذ/قاسم فلمبان الذي كان يستفيد من أصواتنا الصغيرة لأداء دور المرأة!!!
وقد صقلتنا هذه المرحلة بالتعلم من أساتذة ومربين تولوا توجيهنا إلى عشق القراءة والكتاب وهواية التمثيل وتصفية أسماعنا بالإصغاء للنغم الراقي.
* * *
أشهر مجلس للبشكة:
وفي مرحلة الدراسة -إعدادي وثانوي بعد أن كبرنا قليلاً- شكلنا مجلساً لنا نحن زملاء الدراسة، ما لبث أن انضم إلينا فيه بعض العلماء والأدباء ممن هم أكبر سناً... فكان أول صالون أدبي يقيمه طلبة في مكة المكرمة.
كان مجلسنا في الدور الأول من منزل الشيخ/إسماعيل جوهرجي: والد زميلنا في المدرسة/محمد جوهرجي، في طلعة "جبل هندي"، ويتكون المجلس (أو المقعد) كما يسمّيه أهل مكة من: مجلس، و "صفة"، وخزين، وحمام، ووضع عليه صاحب البيت/محمد جوهرجي: قفلاً بالأرقام، أي واحد من رواد المجلس يأتي مبكراً، لا بد أن يعرف أرقام القفل ويستطيع الدخول في أي وقت، وكل أدوات الشاي، وشيش الجراك متوفرة، مع: ورق البلوت، والضومنه، والكيرم.. مع ركن خاص يحتوي على مجموعة من الكتب لمن شاء القراءة والتزود.
وكان هناك مداومون في البشكة يومياً، وهم: محمد صالح باخطمة/الشاعر الرومانسي وحتى اليوم، والسفير السابق، و/د. محمد عبده يماني: كاتب القصة بالأمس، ووزير الإعلام الأسبق، والداعية الإسلامي اليوم، ومحمد سعيد طيب: رئيس مؤسسة تهامة للإعلان والنشر، والمثقف اللامع بيننا، ومحمد إسماعيل جوهرجي: أستاذ الأدب واللغة في المرحلة الثانوية، وأول مدير لثانوية الثغر النموذجية بعد فصلها عن القسم المتوسط، ويحيى مطهر: عمل في رابطة العالم الإسلامي مسئولاً عن الإعلام، ومحمد عبدالله مليباري: كان مديراً لبريد مكة المكرمة، وكاتب قصة قصيرة، وباحث دؤوب، وعبدالله الداري: صحافي متفرغ، عمل مديراً لتحرير عكاظ، ورئيساً للتحرير، وأحمد العامودي/عمل مساعد وكيل وزارة الحج لشئون المكتبات، ويعمل اليوم نائباً للدكتور/محمد عبده يماني بشركة "دله"، وعبدالحليم رضوي/رائد الفن التشكيلي، وقد اشتهرت لوحاته في العالم بمشاركاته في معارض دولية، ورشدي دهلوي/عمل في بترومين حتى وصل إلى مرتبة وكيل وزارة، وسليمان الغاطي: عاشق للتاريخ، تخصص في قراءة أبعاده، ومات شاباً، وحسين قرملي: عضو منتدب في بترومين، وأبو تراب الظاهري: علامة الجزيرة العربية في اللغة، وسليمان توفيق: أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك عبدالعزيز، وحسن دهلوي: موظف كبير بوزارة الحج، وحسين بلخي/من رجال الأعمال، وعثمان مليباري: كاتب قصة قصيرة، ومعلم، ومدير مدرسة، وعبدالرحمن إسماعيل خياط: عمل في إدارة صحيفة البلاد، وتوفيق إبراهيم توفيق: وصل إلى مرتبة وزير، وشغل منصب: رئيس ديوان المراقبة العامة، وعدنان طباع/من كبار موظفي الخطوط الجوية العربية السعودية، وعبدالله خياط/رئيس تحرير "عكاظ" والصحافي الكبير، والأديب محمد جميل فضل، والشاعر الكبير/عبدالغني قستي، مدير تحرير "البلاد".
ويبدأ التجمع في المجلس من بعد العصر حتى منتصف الليل لمن أراد السهر مثل زميلنا وصديقنا: محمد سعيد طيب... وكانت مجريات الحوارات تتناول غالباً ما يخص الدراسة والمناهج، ورواية بعض المواقف التي تحدث لبعضنا في المدرسة.. وكنا طلاباً في المدرسة الرحمانية تحت إدارة المربي المميز والعظيم/محمد عبدالصمد فدا، الذي كان يتعامل معنا كصديق، ومربٍ صارم.
ولقد غرست هذه الاجتماعات فينا: سلوكيات التواصل الحميمية التي نعتز بها حتى يومنا هذا، لأنها قامت على إحساس صادق من المودة، والمحبة، واحترام الآخر.
أما منافساتنا ومناوشاتنا على صفحة (دنيا الطلبة) الشهيرة في صحيفة (البلاد)، والتي احتضنت مواهبنا.. فما هي إلا إثارات كانت تنمي فينا روح التنافس، وتجلو معالم الطريق.. وكنا نحتفي بها ولا نتخذها نفاراً من بعضنا البعض!
وكنا نصدر مجلة: (صوت الرحمانية) بإشراف معلمينا، وهي المجلة الحائطية الأولى بالمدرسة.. كنا نكتب فيها مواضيع مثيرة... نذكر منها خبر: صعود "الكلبة لايكا" إلى القمر (!!) فكتبنا مانشيتاً يقول: (لايكا تنقض على صوت الرحمانية) مما أثار دهشة كبيرة لدى الأساتذة والزملاء، فاستدعانا مدير المدرسة وهو يضحك قائلاً: اشرحوا لي كيف انقضت الكلبة بنت الكلب على صوت الرحمانية؟!
وتلمسنا من سؤاله عين الرضا على ما فعلناه، وقال: هذا مانشيت صحافي مهم جداً!!
* * *
ليالي سمرنا:
أما ليالي سمرنا المميزة والخاصة بنا.. فكنا نقيمها في أول كل شهر مع حلول موعد حفلة "أم كلثوم" الشهرية، فنتجمع في سيارة صديقنا/محمد صالح باخطمة، الذي كان وحده يملك سيارة (سيارة والده) ولا يعرف قيادتها، فيقودها السائق، ونتزاحم داخلها، وتنقل (البشكة) إلى فضاء "عرفه" لنقضي شطراً طويلاً من الليل في سماع (الست)، وكان زميلنا/محمد إسماعيل جوهرجي يقوم بمهمة الطبخ، وينضج لنا (عربي متقون)، و.... الباي كان: (ريالين) على كل واحد!!
* * *
وهكذا كانت حياتنا تسير.
وفي عهد المربي القدير/مدير مدرسة الرحمانية التي احتضنتنا، ورعت مواهبنا: الأستاذ/محمد عبدالصمد فدا، قدمت المدرسة مسرحية تاريخية، كان عنوانها: (عمر بن عبدالعزيز) في ختام النشاط المدرسي السنوي، حضرها رجال التربية والتعليم وعلى رأسهم آنذاك: الأستاذ/ناصر المنقور... ونالت المسرحية إعجاب الحضور من حيث: الموضوع، والإخراج، والأداء التمثيلي، حتى أن الإذاعة حرصت على نقلها وإذاعتها آنذاك، والله أعلم: أين نسختها اليوم من أرشيف الإذاعة!!
وزيادة على ما كان في مجلس "الجوهرجي" الذي اشتهر، من قراءة، وتحصيل، وحوارات.. كانت هناك فترات للعب البلوت، والكيرم، والضومنه.. وكنا نقوم برحلات نصف شهرية إلى: وادي فاطمة، سولة، المضيق، نقضي يوماً كاملاً من الصباح إلى المساء كمتنفس طبيعي نستأنس فيه بالرفقة والصحبة، بعيدين عن المناخ الدراسي، نخوض في أحاديث حميمية، ونلعب بين الأشجار والنخيل، ومنا من كان يسبح في (برك) السباحة.. وكنا أنفسنا نتولى مهمة الطهو وإعداد الطعام وغسل الأواني بكل ترحاب ورضا.. تعلو ضحكاتنا بصفاء، حتى إذا حان وقت الصلاة يتولى كبيرنا إمامتنا، وغالباً ما يكون شيخنا/أبو تراب الظاهري.
* * *
عائلات مكة المكرمة:
وقد أبرزت مكة المكرمة عائلات كريمة اشتهرت كل عائلة بمهنة أو دور اجتماعي، أو نشاط، ومن أشهر هذه العائلات:
- الجفري، الحبشي، الطيب، السجيني، العامودي، يماني، قدس، عاشور، باخطمه، الخياط، الجوهرجي، الأشعري، الدمنهوري، القزاز، الفارسي، بدر، الفدا، الغزاوي، عائلة أبو سليمان، الآشي، المالكي، الكتبي، الصبان، المجددي، المغربي، المشَّاط، الفيروزي، المرداد، الرواس، أمان، الشاولي، خوجه، البشاوري.
وأرجو أن لا يغضب مني من فاضت به الذاكرة.. فتاريخ (الأسر) في مكة المكرمة حفظته كتب التاريخ والسيرة، واحتضنت مكة المكرمة أنبل الأسر.
* * *
الفرق بين الماضي والحاضر:
فكر أبي في "بلورتي" رجلاً وأباً، عندما دخلت سن التاسعة عشرة، وكنت في نهاية الدراسة الثانوية... وفي ذلك العمر داخل مجتمع مكة المكرمة: راقت لي الفكرة، ورأى والدي رحمه الله أن الزواج: حصن، حتى لا انفلت بدوافع عمري الغض وعطش تجربتي العاطفية في مجتمع مغلق على نفسه!
وهكذا نشأت أسرتي الصغيرة يومها في زورق يمخر عباب وأمواج الحياة بمجدافين تمسك بالأول يداي، وبالآخر: يدا زوجتي/عروستي يومها وهي -حتى اليوم- أم أولادي وبناتي، ورفيقة مشوار العمر بحلوه ومره.. بأحلامه وارتطاماته (أم وجدي) التي حافظت على هذا البيت بثباتها وصبرها، ورعت هؤلاء الأبناء والبنات حتى هذا العمر الذي صرنا فيه: نفخر بأبنائنا وبناتنا وما حققوه لحياتهم، وبتربيتنا لهم، والحمد لله.
وحين رأى والدي -رحمه الله- أن زواجي قد وجب ولا بد منه، كان القلب حينذاك قد اختار، وانتخب الأخت الصغرى لزوجة أبي، وكنا نترعرع معاً ما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتمسكت بها ولم أبلغ العشرين من العمر بعد، وهي تخطو إلى السادسة عشر... وفي هذا التكوين العاطفي الخاص تحولنا معاً -زوجتي وأنا- إلى أم وأب، فأهدتني ابنتنا البكر الصديقة/زين، ثم وجدي (الحكيم) كما يصفه صديقي/يحيى باجنيد، فتبلور حكيماً في نضوج فكره.. وبعد توقف قصير انشغالاً بامتحانات الدنيا: أهدتني ابنتنا/عبير فازداد تضوُّع هذا العش بالعبير، ثم جاءت "العنود" بشخصيتها المتميزة... وأذكر يومها سؤال أبي الروحي/محمد حسين زيدان، مازحاً: وأين الأولاد الرجال يا ولد؟!!
وحين كانت الحياة تمضي، وتنضج بنا: أهدتني "أم وجدي" كما يناديها كل الأهل والأصدقاء، و "أم زين" كما يطلق عليها أستاذنا الرائد/محمد عمر توفيق/رحمه الله، وأخي على امتداد العمر/محمد سعيد طيب، وصديقي الشيخ/عبدالمقصود خوجه... فأنجبت (نضال) وخلفه في العام التالي: (إياد) وكأنهما توأمان، أعلنا في أسرتنا عن دخول عصر جديد ساد فيه الكومبيوتر أو الحاسوب، والدش، حتى الإنترنت/يا ألطاف الله.
وتبقي (أم وجدي): العز... التي رفعت عمد هذا البيت، وتحملت مسئولية تربية هؤلاء الأقمار الذين نعتز بكل واحد وواحدة فيهم... فهي الزوجة الأنموذج، والأم الحنون الأنضج، ورفيقة مشوار العمر حتى ثمالته إن شاء الله.
* * *
وهكذا تبلورت علاقتي بأسرتي: الأب المسئول -ما زلت- عن زورق البيت فوق الموج وتبدل الطقس، والحرارة والبرودة.. ومع أبنائي وبناتي: صرت "الصديق" لكل واحد منهم ومنهن.. لا أفرض رأياً ولا أخضعهم لقرار، ليس عن ضعف أمامهم، بل عن: محبة تحزمنا، وعن ثقة في تفكيرهم ورؤيتهم للحياة، و..... "إذا كبر ابنك: خاويه"!!
أما "البنت": فهي: رشة العطر في حياتي، سواء كانت: ابنتي أو حفيدتي، مثلما "الولد" فهو: الأمل والخوف معاً.. الأمل في تنشئته مواطناً صالحاً منتجاً مبدعاً، والخوف عليه من جنون القوة وهوان الضعف في عصر هوان العدل وتفشي الظلم!!
والآن: صار لكل ابن وابنة بيته الخاص به، وقد كون أسرة له.. أما (أمنيتي) فقد تركزت منذ نهدة العمر في (الحلم) الذي حملته معي في صدري كل هذا المشوار، أحافظ عليه وأحميه من أن يفسد!!
لذلك أقول لأبنائي وبناتي: احرصوا.. تمسكوا "بالحلم" واحموه أن تفسده ماديات الحياة، ومنزلقاتها، وأهواء النفس.. حافظوا على "الحلم" كأنه اسم كل واحد منكم!!
هذا هو الفرق بين الماضي والحاضر.. كان الماضي شمعة محبة، وهمسة ألفة، والتئام أسرة لا ينظر أي فرد فيها إلى ساعة معصمه حتى لا يبيع اطمئنانه للقلق، ولا ينثر أوراق شجرة محبته مهدرة على الأرض.
أما الحاضر.. فإنه: تكثيف بشع للأنا، وللدمعة الخاوية من القلب، وللرغبة الذاتية للحضة التي لا يمكن أن تدع الأزهار تتنامى!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :717  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 39
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.