شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بين رعاية الأمير سلمان وحفاوة آل حافظ ووفاء الخوجه
الشيخ عبد الله بلخير في رحلة التأريخ والتاريخ (1)
كتب/ د. خالد محمد باطرفي
عندما التقيت معالي الشيخ عبد الله بلخير لأوّل مرة، عام 1984، كانت أمامي مهمة محدّدة: أن أدفعه إلى الكلام، وأن أسجل ذكرياته وأنشرها في جريدة الشرق الأوسط، باهتمام شخصي من الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي كان مهتماً بتكريم رجل من رجالات الملك عبد العزيز وتسجيل ذكرياته مع الزعيم الموحّد.
وكان قد سبقني إلى المحاولة السيد عبد الله الجفري، ولكن يبدو أن لطف السيد وأسلوبه المخملي في المتابعة لم ينجح مع تشدّد الشيخ بلخير وتردده الشديد في التحدّث عن نفسه وعن تاريخه. فكان أن أرسلت أنا لأكمل ما بدأه السيد الجفري من المحاولة. ولم يطلعني الناشران السيدان هشام ومحمد علي حافظ وقتها على المحاولة السابقة، ولكنهما شددا على أهمية الأمر واهتمام الأمير سلمان بإنجاز المهمة وحرصهما الشخصي على تكريم هذه الشخصية الجليلة والاحتفاء بها وبتاريخها.
واجهتني في المرات الأولى التي التقيت فيها بالشيخ الجليل المعضلة نفسها التي بلا شك واجهت من حاولوا قبلي. فأبا يعرب كان يتحدّث عن التاريخ وكأنما هو حقل ألغام لا حديقة ذكريات. ورغم أن ذاكرته كانت أكثر من فوتوغرافية، وأزيد من جلية حد التفاصيل الصغيرة والتواريخ الدقيقة، إلا أنه كان يخشى أن يغفل معلومة فيخل بالسياق، أو يورد أخرى فيغضب طرفاً من أطراف الواقعة. وكان يحسب أنه استطاع خلال عمره الطويل، وقد بلغ الثمانين وقتها، أن يقيم علاقاته مع الجميع، بغضّ النظر عما قد يقوم أو يستجد من التلاقيات والتقاطعات في العلاقة بين بعض الأطراف، على نحو دقيق من التوازن والتوافق والتوارد يخرجه من دائرة الميل والتحيّز إلى إيجابية الحياد. ولم يرد في هذه المرحلة التي أسمها النهائية من حياته الحافلة أن يفسد ما تحقق له في صلاته من نسيج دقيق جميل.
تغلّبت أخيراً على تردّده بعد أن خضت في أرشيفه وخرجت بمعلومات نادرة عن الحياة الدراسية والاجتماعية في مكة المكرّمة في بداية القرن العشرين، وصغتها على هيئة ذكريات نشرتها على حلقات أسبوعية في جريدة الشرق الأوسط التي كنت أعمل مسئولاً لتحريرها في جدة في منتصف الثمانينيات الميلادية. ولأن ردود الفعل كانت أكثر وأجمل مما تصوّره، فقد شجّعه ذلك على أن يواصل معي مشوار الذكريات من حيث انتهت إليه الحلقات الأولى، فدعاني لزيارته في ماربيا، أسبانيا، حيث يقضي أشهر الصيف، وحيث يكون في أكثر حالاته صفاء وتحللاً من القيود النفسية التي حالت في جدة بينه وبين المتح من بئر تاريخه الطويل والسير عبر حقول الذكريات التي كان يتخوّف من ألغامها.
بقيت معه في أسبانيا أسابيع، ثم واصلت معه بعد عودته، فاستمرت الحلقات حتى بلغت ثلاثاً وستين حلقة، ولم تتوقف إلا بعد نهاية مشوار عملي مع ((الشرق الأوسط)) عام 1986. وخلال عام ونصف كنت ألتقي بالشيخ مراراً كل أسبوع، وأتحدّث إليه على الهاتف مرات. فقد كان رجلاً شديد الحرص على دقّة العمل الذي ينسب إليه، يعي مراجعته مرة بعد مرة، فنقرأ الحلقة مرتين أو ثلاثاً، والسطر الواحد أكثر من مرة، ونعيد ونزيد في صياغة الكلمات والجمل حتى تخرج بالشكل الذي يرتاح إليه. ثم قد يتصل بي في وقتٍ متأخر من الليل، أو يفاجئني بزيارة في مكتبي في اليوم السابق لصدور الحلقة ليوثق واقعة بتاريخ أدق، أو باستكمال أسماء الحضور، أو ليعيد صياغة جملة مرة أخيرة.
وبعد أن انتهينا من نشر الحلقات وبدأنا العمل على الكتاب الذي يحويها، زاد تردّده بشكلٍ مضاعف، فقد كان رحمه الله حريصاً على أن يراجع بنفسه مادة الكتاب، رغم أنها هي نفسها مادة الحلقات، بعذر الرغبة في ((استئصال الأخطاء المطبعية والتأكد مرة أخيرة من دقة المعلومات، مردداً المقولة التي كان يكثر من تكرارها)) من ألّف فقد استهدف، وموضحاً: الكتاب سجّل تاريخي لا يجب أن يخرج إلى الناس إلاّ وقد صغناه صياغة جواهرجية، فلا خطا ولا نقص ولا زيادة.
وبسبب تردده الطويل فقد تأخر نشر الكتاب من عام 1985 حتى عام 1999 عندما انتزع الشيخ عبد المقصود خوجه أصول المادة مني، وبعث بها إلى المطبعة وقال لي بالنص: لو انتظرنا شيخنا أكثر فلن يرى هذا الكتاب النور، قل له إن ابنكم عبد المقصود مسئوول عن تصحيحه وعن كل خطأ قد يرد فيه. وهكذا صدر الكتاب أخيراً، ووزّع مجاناً في طبعة فاخرة ضمن إصدارات الاثنينية، ووفى الخوجه بوعده فلم يجد الشيخ بلخير في الكتاب خطأ لغوياً واحداً ولا غلطة مطبعية واحدة، ورضي عنه وعنا. ولعلّ الشيخ عبد المقصود يكرّم ذكرى صديق والده وصديقه بإعادة طباعة الكتاب، وقد نفِّذت طبعته الأولى، في نسخة فاخرة كسابقتها يهاديها، وأخرى شعبية تباع في الأسواق لتكون في متناول الجميع.
وكما رويت لابنَي الشيخ بلخير يعرب وقحطان في لقائي الأخير معهما فقد كان والدهما مؤرّخاً سجلت ملحماته الشعرية مراحل هامة من تاريخ الأمة الإسلامية، خصوصاً في الأندلس الذي شغف به فأقام فيه وزار أنحاءه وقرأ تاريخه ثم لخّصه في تلك الملاحم العظيمة، ثم عاد في ذكرياته التي سجّلتها معه فرصد تاريخ هذه البلاد عبر قرن كامل، وامتدّ بالتأريخ إلى ما حولها من بلدان أقام فيها أو زارها أو حقق في تاريخها، فاتصف عمله بما تميّز به عمل المحقّقين الأوائل من دقة وشمولية وحرص شديد على الصحة والتفاصيل.
كما كان رحمه الله إعلامياً قحًّا حتى بعد تقاعده بعقود. فقد كان يحرص على أن يحتفظ في أرشيفه الضخم وفي ملفات منظمة بقصاصات لكل خبر أو مقالة أو تعليق يقرأه ويثير اهتمامه. وعندما كنا في ماربيا لم يكن يحرص على شيء في برنامجه اليومي حرصه على مشوارنا كل مساء إلى وسط المدينة للحصول على الصحف والمجلات العربية التي تباع في أحد أكشاك الصحف، والتي يحجزها مقدماً، ومن بينها صحيفتا ((الشرق الأوسط)) والقبس الدولي اللتين تصلان في اليوم نفسه. ولا يكتمل هذا البرنامج إلا بجلستين: الأولى على مقهى قريب نقرأ فيه الأخبار في هذه الصحف، ونناقشها، والثانية بجلسة في الفندق نناقش فيها المقالات والمواضيع، وآخر ما استمع إليه من نشرات الأخبار التي يكون قد استمع إليها في غرفته من إذاعة لندن ومونتكارلو وصوت أميركا. ثم إذا انتهينا من هذا كله قعدنا لجلستنا المسائية لنتم ما بدأناه في الجلسة الصباحية من أحاديث الذكريات.
وأذكر بهذه المناسبة أنني لم أتمكّن في إحدى هذه الأمسيات من تسجيل ذكرياته لأنه كان في حالة نفسية سيئة، ففي ذلك اليوم قامت إسرائيل بضرب مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وكان يتابع وهو في أشدّ حالات الغضب والتأثر آخر ما تجيء به نشرات الأخبار حول الحدث، معلناً أنه لا يستطيع الكلام ذلك اليوم في أي شأن، أو القيام بأي عمل، وأنه سيعود إلى غرفته مبكراً ليتابع آخر التطورات.
لقد كان أبا يعرب كما عرفته، قومياً عربياً، بقدر ما كان إسلامياً. وكان دائماً ما يروي لي أن رأي العروبة والإسلام يتمثّلان في شخصية ((الموحّد عبد العزيز))، الذي وإن لم يزايد على قوميته أو يسيّس اعتزازه بعروبته إلاّ أنه كان فارساً لا يشق له غبار بين زعماء العرب في ميادين العروبة خلقاً وشهامة وكرامة، كما كان مسلماً حقاً متمسكاً بعالمية الدين، متتبعاً لأحوال المسلمين، مهتماً بأحوالهم وشئونهم في كل أصقاع الدنيا بلا تفريق أو تمييز. ولذا فقد تأكد عند الشيخ منذ نعومة أظافره إحساسه الغامر بتراثه العربي وانتمائه إلى أمة حملة الرسالة، بقدر ما كان اعتزازه بأمته الإسلامية وتاريخها المجيد، ولعلّ في ملحماته الشعرية الإسلامية ما يعبّر بوضوح عن هذا التلاقي بين الاعتزاز بالدم العربي وعزّة المؤمنين.
وكان الشيخ إعلامياً من الطراز الأول، فقد كان يتصل بي من أي مكان في العالم ليسألني عن آخر الأخبار، وهو بذلك لا يعني أخبار العالم التي كان يتابعها في الصحف العربية والأجنبية وعلى شاشات التلفزيون وعبر الإذاعة، ومن خلال اتصاله وتواصله بأصدقائه من الدبلوماسيين والإعلاميين في كل مكان، ولكنه كان يقصد أخبار الوسط الثقافي في المملكة. فكان يسألني على وجه التحديد عن آخر اثنينية لعبد المقصود خوجه حضرتها وما دار فيها، وآخر ((ثالوثية)) لمحمد سعيد طيب كنت فيها وما نوقش فيها من مواضيع. وتطول المكالمة ويطول الكلام عن أصدقائه وأحبائه في الوسط الإعلامي، ولا ينتهي الاتصال حتى يطمئن على كل واحد فيهم ويحيط بأحوالهم وأخص أخبارهم.
كان رحمه الله وفياً، فسخّر الله له الأوفياء. لقد كان الأمير سلمان بن عبد العزيز كما كان إخوته أبناء الملك عبد العزيز حفيّاً بهذا الرجل، مجلاً لمكانته، مقدّراً لتاريخه في خدمة الملك عبد العزيز. وكان موضع حفاوة أبناء الملك فيصل، الذي كان عبد الله بلخير مقرباً لأبيهم، حتى عرف بشاعر الأمير فيصل عندما كان نائباً للملك عبد العزيز على الحجاز، كما كان رفيق سفره في بعض أهم الرحلات التاريخية التي قام بها الفيصل إلى أميركا وأوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية.
وبعد إعلان وفاة الشيخ عبد الله بلخير، سارع الأمير سلمان بن عبد العزيز إلى إرسال مندوبه إلى أبناء الشيخ ليعزيهم وليطلب منهم التعاون مع دارة الملك عبد العزيز في حفظ تراث أبيهم. وتلقيت بدوري اتصالاً من أمين عام الدارة، الدكتور فهد السماري، ليبلغني رغبة الأمير وحرصه على التعاون مع أبناء الفقيد في مهمة تسجيل تراثه ونسخه ليحفظ في سجلات الدارة ويتاح للباحثين والدارسين في تاريخ الملك عبد العزيز ورجالاته المخلصين. وبهذا الموقف الكريم يعود الأمير سلمان مرة أخرى ليحيط تاريخ بلخير بالتقدير الذي يستأهله وليوجه بحفظه والعناية به.
لقد كان أبا يعرب وفياً لبلده محباً لها ولحكامها فسخّر له الله منهم الأوفياء والمحبين. وكان حفياً بأصدقائه ذاكراً لهم حريصاً عليهم، فسخّر الله لهم منهم، أمثال الشيخ عبد المقصود خوجه و د. عبد الله مناع (الذي ننشر له اليوم اللقاء الصحفي الذي أجراه معه قبل أربع سنوات، وكان فيما أعلم آخر لقاء صحفي مع الشيخ) وآل حافظ، من يحتفي به وبتاريخه في حياته ومن بعده. أعاننا الله مع أبنائه البررة يعرب وإخوته على استكمال مشوار هذه المهمة الوطنية فنرصد من تاريخه ما فاتنا تسجيله، ومن تراثه الفكري والشعري الحافل ما يستأهل الحفظ والتسجيل.
ورحم الله فقيدنا وأسكنه فسيح جناته، أنه سميع مجيب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :373  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 142
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[حياته وآثاره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج