شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المياه بمكة في أدوارها التاريخية (1)
تمهيد:
اعتنى مؤرخو الحجاز عناية كبيرة بذكر الأماكن الأثرية في الحجاز وفضلها وما كان يعتريها من تخريب وتعمير، فقل أن تجد مؤلفاً عن تاريخ الحجاز إلا وتجده قد ملئ بذكر ذلك في سعة وبسطة.
وبقدر ما اعتنى مؤرخونا بذكر أمثال ذلك أغفلوا تاريخ الحياة الاجتماعية والأدبية.. والاقتصادية وقل أن تجد عرضاً في بحث ما شيئاً عن ذلك، وإنه لفراغ واسع أظن من الصعب ملؤه لأن مريدي إثبات ذلك لا يجدون أسانيد قوية يستندون إليها في بحثهم، وكل ما يستطيعون التوصل إليه هو استنتاجات ضعيفة واستنباطات أضعف وجهود فرد يعمل مستقلاً لا تنجح.
قلت اعتنى مؤرخو الحجاز بذكر الأماكن الأثرية عناية كبرى، وقد كانت عنايتهم بذكر المياه لا بأس بها، إلا أنها كانت مشوشة ومضطربة، والغريب أن اعتناءهم بمدح التبرّع لإجراء عين ماء أو إصلاح خراب أكثر من اعتنائهم بوصف الحادث وإعطاء تفاصيل وافية تشفي الغليل.
زمزم أول ماء بمكة:
قبل نزول السيدة هاجر مكة، كانت مكة غير مسكونة، والسبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى فقدان المياه فيها، وأول من سكن مكة كما عرفه التاريخ هي السيدة هاجر وأول ماء ظهر في مكة كما عرفه التاريخ ماء زمزم وقصة زمزم مشهورة، ولما حدثت حادثة بئر زمزم واستدلت جرهم على وجود الماء في مكة بطيور وأنها عن بعد تحوم حول زمزم ((استغربت ذلك لأنها تعلم أن مكة لا ماء فيها ولا نبع، أتت تستطلع الخبر وبعد حديث طويل سكنت جرهم مكة باتفاق مع السيدة هاجر صاحبة الحق الأولى في زمزم، ومن ذلك التاريخ أهلت بمكة السكان ولكن لا سقياً لهم غير زمزم وحياض ومصانع على رؤوس الجبال وبعض آبار خارج الحرم.
بئر العجول أول الآبار بمكة واستمرت الحال على ذلك حتى زمن قصي بن كلاب وفيها يقول الشاعر:
نروي على العجول ثم ننطلق
قبل صدور الحاج من كل أفق
إن قصياً قد وفى وقد صدق
بالشبع للناس وري مغتبق
وبئر العجول هذه كانت على باب رواق أم هانئ وهو يقع ما بين باب أم هانئ الواقع أمام باب سراي الحكومة (الحميدية) وباب الحزورة المعروف اليوم بباب الوداع وقد ذكر السنجاري في تاريخه أن محمداً المهدي هدمها وأدخلها في المسجد الحرام وذلك في الزيادة الثانية وعمل بدلها بئر البقالية، ونبّه صاحب الأرج المكي والتاريخ المكي على ذلك بقوله ((وبئر العجول بباب رواق أم هانئ فدفنها المهدي العباسي وجعل بدلها البئر التي عند باب الحزورة الكائنة في زماننا بالشرشورة.
أقول بئر البقالية التي بناها المهدي هي البئر التي في غرفة القناديل قديماً وحديثاً غرفة إشعال المصابيح الكهربائية (الأتاريك) وهي على يمين الداخل إلى المسجد من باب الوداع، والشرشورة التي ذكرها صاحب الأرج تقع خلف المدرسة المعروفة اليوم بمدرسة أم هانئ المطلّة على المسجد وقد اتخذ قسم منها بني عليه غرفة القناديل السابقة هي القسم الأخير من الشرشورة، والبئر لا تزال حتى اليوم موجودة وفيها أوساخ كثيرة.
الآبار بمكة..
وقد حفرت بعد بئر العجول آبار كثيرة ذكرها أكثر مؤرخي الحجاز، ولكن هذه الآبار دفن أكثرها وأصبح من المتعذر معرفتها إلا النزر اليسير منها برباط السدرة وحفرها هاشم بن عبد مناف وقيل قصي، وقد نبّه صاحب الإفادة أن رباط السدرة كان من باب السلام إلى باب النبي، وقال القرشي كانت هذه البئر شارعة على المسعى، ومنها بئر سجله حفرها جبير بن مطعم قال إنها دخلت في المسجد وذكر في مكان آخر أنه سعى عليها وذكر صاحب الأرج أنها عند الدرويشية المعروفة بالخاسكية، ومنها بئر بذر في خطم الخندمة حفرها هاشم بن عبد مناف، وقد قال حين حفرها لأجعلنها بلاغاً للناس وقال الأزرقي إنها في خطم الخندمة على فم شعب أبي طالب. وعلى هذا القياس تكون هي البئر المعروفة اليوم ببئر الحمام بأجياد وهي تحت خطم الخندمة الفاصلة اليوم بين سوق الليل والجياد.. ومنها بئر مرمر في ناحية بني سهم، وبنو سهم كانوا ينزلون في جهات باب العمرة باب بني سهم وقد ذكر الأزرقي أن هذه البئر دخلت في المسجد في عمارة أبي جعفر ومنها بئر أبي موسى الأشعري بالمعلاة ذكر الأزرقي أنها على فم شعب أبي دب، وشعب أبي دب هو المكان الذي ينسب بعض الخرافيين أن السيدة آمنة بنت وهب مدفونة فيه وهذه خرافة لا أصل لها في التاريخ الصحيح والبئر المذكورة موجودة حتى يومنا هذا ومنها بئر ميمون بن الحضرمي ويقول صاحب العقد الثمين إنها هي البئر التي بسبيل الست وهذا السبيل معروف بطريق منى ويقول الأزرقي إنها آخر بئر حفرت في الجاهلية ومنها بئر الجماجم وهي في حوطة النسفي وحوطة النسفي بالمعلاة بجوار مسجد الراية وقد دفنت عن قريب وهي بئر جبير بن مطعم وهي التي في الكمالية حفرها قصي ثم دثرت فحفرها جبير بن مطعم فسميت باسمه أما الآبار في الوقت الحاضر فكثيرة وعسى أن تتاح لنا الفرص فنحصيها.
وقد بقي سكان الحرم يشربون من زمزم ومن الآبار التي حفرت من بئر العجول إلى زمن معاوية بن أبي سفيان إذ قد أجمع مؤرخون على أن أول من اعتنى بجر مياه العيون إلى مكة هو معاوية بن أبي سفيان زمن خلافته، وقد ذكر صاحب إفادة الأنام لبعض الأقارب المكيين نقلاً عن الأزرقي ما ملخصه.. ((أن معاوية أجرى في الحرم عشر عيون واتخذ لها جيافاً، فكانت حوايط وهي (1) حايط الحمام (2) حايط عوف (3) حايط الصفا (4) حايط مورش نسبة إلى رجل كان قائماً عليه (5) حايط خرمان (6) حايط حراء (7) حايط ابن طارق (8) حايط فخ (9) حايط بلدح (10) حايط مقيصرة)).
وقد أصبحت هذه الأماكن غير الرشيد، والحقيقة أن السيدة زبيدة أجرت عيناً إلى البئر المسماة قديماً ببئر زبيدة وحديثاً ببئر الجن، وتقع هذه البئر بالقرب من المفجر الصغير الكائن خلف الجبال الجنوبية من منى، وعين زبيدة الحقيقية والتي أوصلتها إلى مكة هي عين حنين وعين حنين تعرف اليوم بعين الزعفرانة التي هي في الأصل بركة صنعت لتقوية عين حنين، فقوي ماؤها وتغلب اسمها على اسم عين حنين أو الأصح عين زبيدة الأساسية.
وعين حنين أو عين زبيدة تنبع من جبل شاهق يقال له ((طاد)) ويقع بين جبال سود عاليات تسمى جبال ثقبة، تقع في طريق الطائف من مكة، وكان هذا النبع يسقي نخلاً ومزارع في أرض حنين وهذا سبب نسبتها لحنين. اشترت السيدة زبيدة تلك المواضع ثم قال ((ويروى أنه لما تم عملها اجتمع المباشرون والعمّال وكانت زبيدة ساعة ذاك في قصر عالٍ مطل على الدجلة فأمرت بالدفاتر يلقى بها في الدجلة وقالت: تركنا الحساب ليوم الحساب فمن بقي عنده شيء من بقية المال فهو له، ومن بقي له عندنا شيء أعطيناه وألبستهم الخلع الثمينة)).
وهذه العبارة نقلها أكثر من ذكروا خبر عين حنين، وعين نعمان إلا أنهم ذكروها بعد الانتهاء من خبر إجراء عين حنين، ونعتقد أن ما ذهب إليه صاحب مرآة الحرمين هو الصحيح.
والغريب أنه بالرغم من اعتناء أكثر المؤرخين بخبر هذا الإنشاء فإنهم قد أهملوا ذكر التاريخ الذي تم فيه الفعل الخيري وبالرغم من البحث الدقيق الذي قمت به لم أعثر على شيء جازم. غير أني رأيت في الأزرقي أن أم جعفر عملت بركة في المعلا سنة 194 هـ وأجرت لها عيناً من الحرم وهذه العين بلا شك غير عين حنين لأن عين حنين من الحل وعلى هذا يكون مشروع السيدة زبيدة العظيم لم يبدأ به إلا بعد عام 194 هـ وقد جاء في الارتسامات.
وقد أصبحت هذه الأماكن غير معروفة الآن ولم أعثر على شيء أستدل به ولو بعض الدلالة.
وأورد صاحب الإصابة أن عبد الله بن عامر بن كريز حجّ وجمع العيون وصرفها في عين واحدة وذكر أنه أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى إليها الماء.
وذكر صاحب بغية الراغبين ما نصه: أنه في آخر زمن بني أمية انقطع الماء عن مكة فصاروا يجلبون الماء إلى مكة من الخارج حتى بلغت قيمة البدرة الصغيرة عشرة دراهم أو أكثر.
والعشرة دراهم توازي ربع جنيه إنجليزي، وذكر صاحب مرآة الحرمين إبراهيم رفعت باشا: أن ذلك الانقطاع كان في عام 132 هـ وأن الناس رجعوا إلى مياه الآبار كما بدأوا، وأنهم استمروا على ذلك إلى خلافة هارون الرشيد سنة 170 ـ 193 هـ فأمر بإصلاح ما تخرب من العيون ولكن لم تلبث حتى قطعت فأصاب من جرّاء ذلك موتة شديدة.
شاع إطلاق عين زبيدة على عين نعمان وهذا نسبة لكون عين نعمان من صنع السيدة زبيدة أم جعفر زوجة هارون، وهذا سبب نسبها لحنين.
اشترت السيدة ذلك الموضع وأجرت الماء في قنوات إلى مكة، وأضافت إليها البرك التي صنعت لتتجمع فيها أمطار بعض الجبال، وقد تحولت تلك البرك بعد التعمير والتحسين إلى عيون فأطلق على كل بركة منها (عين) والسبع عيون أو السبع برك هي: مشاش وميمونة، والزعفران، والبرود، والطرف، وثقبة، والخريبان، وتصب مياهها جميعاً في مجرى عين حنين التي هي عين زبيدة الحقيقية.
وقد جاء في تاريخ مكة المسمى بالإعلام بأعلام بيت الله الحرام للقطبي أن السيدة زبيدة أنفقت على عملها ألفاً وسبعمائة ألف مثقال من الذهب أي (000،700،1). ونميل إلى أن هذا المبلغ لم ينفق على عين حنين وحدها بل على عين عرفات أيضاً، لأنه لم يذكر أحد من المؤرخين ما أنفق على عين عرفات.
وكل المؤرخين الذين ذكروا هذا الخبر كانوا يسوقون خبر عين حنين، ثم ذكر المبلغ ثم خبر عين نعمان مما يوهم أن هذا المبلغ صرف على عين حنين وحدها وقد انفرد صاحب مرآة الحرمين ـ في مشروع السيدة زبيدة العظيم بأنه لم يبدأ به إلا بعد عام 194 هـ وقد جاء في الإرتسامات اللطاف للأمير شكيب أرسلان أن البركة كانت قبل مشروع جرّ المياه من الجبل. أما العين التي أجرتها من الحرم وموقعها فلم أقف على شيء من ذلك ولربما تكون إحدى عيون معاوية.
هذه الطريق تسمى اليوم (القناطر) وتسلكها السيارات في أيام الحج، وطريق ضب هذا هو الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، في ذهابه إلى عرفة وضب تأتي من الجبل الذي في أصله مسجد الخيف. والقطبي نفسه ذكر في مكان آخر خبر عين حنين أولاً ثم قفا عليه بخبر عين نعمان. والذي نميل إليه ونجزم به هو أن السيدة زبيدة قامت بمشروع عين حنين أولاً وبعد الانتهاء منه قامت بمشروع عين نعمان وأرادت إيصالها إلى مكة لاعتقادها أن عين حنين وحدها لا تكفي لسقيا مكة فحالت الموانع دون ذلك.
1 ـ عين نعمان المعروفة اليوم بعين زبيدة:
فحص العيون: وقف عمل السيدة زبيدة عند الحد الذي ذكرناه فبقيت عين نعمان مقتصرة على عرفة وكان يتسرّب إليها الخراب من السيول، فكان تارة يلتفت إليه بعض أهل الخير من ملوك المسلمين وأغنيائهم، وأخرى يهمل أمره فيقاسي الحجيج آلاماً شديدة في عرفة ومنى ومكة وسنأتي على ذلك في محله.
وفي سنة 965 هـ قلّت الأمطار فجفت العيون ونزحت الآبار فكانت سنوات عجاف انقطعت فيها العيون إلا عين نعمان فإنها لم تنقطع، ولكن قلّ جريانها فعرضت أحوال المياه إلى الدولة العثمانية فصدر الأمر بفحصها ففحصت، وأجمعت الآراء على أن أقوى العيون هي عين نعمان، وأن دبولها موجودة على ظهر الأرض، إلى بئر زبيدة ومن بعدها تحت الأرض وفي يوم 23/11/969 هـ يقول القطبي ((وأتي بالآلات العمارة من مصر من مكاتل ومساحي ومجاريف وحديد وبولار ونحاس ورصاص وغير ذلك)).
وبدأ عمله بعد الكشف على الدبول وخيّم في الأوجر من نعمان وكتب في هذا العمل نحو ألف نفس من العمال والبنائين، والمهندسين وذهب القطبي إلى أنه جلب قسم من المهندسين وخبراء العيون والآبار من مصر والشام واستانبول، وعين لكل طائفة قطعة من الأرض لحفرها وتنظيف ما فيها، واستمر في عمله إلى أن وصل إلى بئر زبيدة، يقول القرطبي: ((واستمر هذا الجد والاجتهاد إلى أن اتصل عمله بعمل زبيدة إلى البئر التي انتهى عملها إليها ولم يوجد بعده دبل ولا آثار عمل وضاق ذرعه بذلك وعلم أن الخطب عظيم، والعمل كبير إلى أن قال إنه يحتاج من بئر زبيدة إلى دبل منقور تحت الأرض في الحجر الصوان طوله ألفا ذراع بذراع البنائين حتى يصل بدبل عين حنين وينصب فيه ويصل إلى مكة إلى أن قال وصار لا يمكن ترك ذلك بعد الشروع فيه حفظاً لناموس السلطنة الشريفة فما وجد الأمير إبراهيم حيلة غير أن يحفر وجه الأرض إلى أن يصل إلى الحجر الصوّان ثم يوقد عليه بنار مقدار مائة حمل من الحطب الجزل ليلة كاملة في مقدار سبعة أذرع في عرض خمسة أذرع من وجه الأرض، والنار لا تعمل إلا في العلوّ لكونها تعمل عملاً يسيراً من جانب السفل مقدار قيراطين من أربعة وعشرين قيراطاً من ذراع فيكسر بالحديد إلى أن يوصل إلى الحجر الصلب الشديد فيوقد عليه بالحطب الجزل ليلة أخرى إلى أن ينزل ذلك الحجر مقدار خمسين في العمق في عرض خمسة أذرع إلى أن يستوفي ألفي ذراع على هذا الحكم، وذلك يحتاج إلى عمر نوح ومال قارون وصبر أيوب وما رأى عن ذلك محيصاً فأقدم عليه إلى أن فرغ الحطب من جميع جبال مكة فصار يجلب من المسافات البعيدة وغلا سعره وضاق الناس بذلك وتعب الأمير إبراهيم لذلك وذهبت أمواله وخدّامه وأولاده وممالكيه واستمر على ذلك أكثر من خمسمائة ألف دينار ذهباً، إلى أن قال وجاءه الأجل فمضى إلى ربه في ليلة الاثنين ثاني رجب سنة 974 هـ )).
فالقطبي صاحب هذه الرواية من المعاصرين لهذا العمل، ومن وصفه هذا نعرف الصعاب التي لاقاها الأمير إبراهيم والمشاق التي تكبدها في عمله، ونفهم جيداً الأسباب القاهرة التي أوقفت السيدة زبيدة عن إتمام مشروعها الذي لا نعتقد إلا أنها كانت تريد إيصاله إلى مكة فحالت دون ذلك الموانع، كما أننا لا نشك في أن ما قام به الأمير إبراهيم من التغلب على تلك المصاعب كان مسوقاً إليه بدافع الضرورة والخير ويعلّل القطبي ذلك بقوله:
وصار لا يمكن ترك ذلك بعد الشروع فيه حفظاً..
ومن بعدها تحت الأرض.
ويقول القطبي وهو من معاصري ذلك الإصلاح: ((وأنها مخفية تحت الأرض (أي الدبول) وأنها تحتاج إلى الكشف عنها والحفر إلى أن تظهر لأن زبيدة لما بنت الدبول من عرفة إلى بئرها المشهورة خلف منى التي جميعها ظاهر على وجه الأرض، فالباقي أيضاً من ذلك المحل إلى مكة مبنى أيضاً إلا أنه خاف تحت الأرض واستغني عنه بعين حنين وتركت هذه فطمست وغفل عنها، هكذا ظنوا وخمنوا وقدر لذلك 30،000 دينار، إلى أن قال وهذا الذي تخيّلوه من وجود بقية الدبل تحت الأرض لم يوجد في كتب التاريخ وإنما أداهم إلى ذلك مجرد الظن بحسب القرائن.
تبرع فاطمة هانم بالعمل:
وحين عرض هذا على الدولة العثمانية تقدمت فاطمة هانم كريمة السلطان سليمان خان (والقطبي ذكرها خاتم سلطان ولعلّه تحريف من الناسخ) واستأْذنت في القيام بهذا العمل على حسابها فأذن لها.
2 ـ عين نعمان المعروفة اليوم بعين زبيدة (2)
عمل الأمير محمد بك زاده
ثم أسند عمل النظر في العمار إلى السنجق محمد بك المكجي زاده وقد جاء في إفادة الأنام نقلاً عن القطبي ما يلي: ((أنه كان من أعيان الأمراء والسناجق الكبراء له عقل تام ورأي ثاقب ووصل إلى هذه الخدمة الشاقة وبذل فيها نفسه وماله وأظهر تجمله وتحمله واحتماله وما بلغ التمام إلى أن وافاه الحمام وانتقل إلى رحمة الله تعالى سنة 976 هـ)).
ولم يذكر صاحب مرآة الحرمين خبر هذه المباشرة، كما أنه لم يرد في النسخ المطبوعة لتاريخ القطبي خبرها، لا في طبع المطبعة العثمانية بمصر سنة 1303 هـ ولا في النسخة المطبوعة بالمطبعة الخديوية بمصر سنة 1305 هـ. والذي نميل إليه أن خبر هذه المباشرة محذوف من المطبعتين السالفتي الذكر، لأن الذي يظهر من سياق كلام مطبعتي مصر من مباشرة الأمير قاسم بك ـ وهي بعد الأمير محمد ـ يؤكد ما ذهبنا إليه، إذ جاء في كلتيهما في خبر وفاة قاسم بك فكان ثالث الأميرين السابقين وجاء بمكان آخر خبر الوفاة المذكورة واستوفت العيش ثلاثة من الأمراء السناجق سقاهم الله شراباً طهوراً.
فهاتان الجملتان تؤكدان لنا في وضوح تام أن النقص الموجود في النسختين المطبوعين بمصر هو نقص من النسخة الأهلية لتاريخ القطبي.
بعد كتابة ما تقدم تمكنا من الاطلاع على نسخة خطية لتاريخ القطبي في دار الكتب بمكة مخطوطة بقلم صالح بن يحيى الديوي العبسي بتاريخ 13/5/1004 هـ ولدى مطابقتها بالنسختين المطبوعتين بمصر وجدنا ذلك الخبر مسقطاً منها. ولا نعلم عما إذا كانت هناك أشياء أخرى غير هذه محذوفة أم لا وعسى أن نجد من الوقت فنطابق طبعتي مصر على النسخة الخطية ونكتب حول ذلك.
عمل الأمير قاسم بك:
ثم أسند العمل إلى الأمير قاسم بك ناظراً عليه ولكنه لم يقم بعمل يذكر يقول إبراهيم رفعت في مرآة الحرمين: ((ومخلفه على العمل أمير جدة قاسم بك ولم يقم بكبير عمل لقصور فهمه ومديده وتشبثه برأيه ((ويقول القطبي)) وكان لا يخلو من قصور الفهم وحب الاستقلال وبعض عناء، وما أراد مولانا شيخ الإسلام معارضته فتركه على رأيه هكذا وما أراد الله أن يتم العمل الشريف على يد قاسم بك فكان ثالث الأميرين السابقين فطرقه الأجل وأدركه الحين. وكانت وفاته غرة رجب سنة 979 هـ.
عمل القاضي حسين الحسني:
ثم أسند عمل مباشرة العمارة إلى القاضي حسين الحسني فنمت على يده ويقول القطبي ((فأقدم بهمته العلية أتم إقدام إلى إكمال هذا العمل الشريف بالاهتمام فساعدته السعادة والإقبال على الإتمام والإكمال فتم العمل المبارك في ما دون خمسة أشهر.
وصول الماء إلى مكة:
وبتاريخ 20/11/979 وصل الماء إلى الأبطح وسكب في قناة عين حنين في حرزة بداخل بستان بنونة أمام دكة المنحنى بجانب الشيبيَّة ومن هناك انحدر مع ماء حنين في مجاري عين حنين داخل مكة وقد كان ذلك اليوم عيداً أكبر عند الناس ذبحت فيه الذبائح ووزعت فيه الكساوي وعمل احتفال مهيب بالأبطح جاء في إفادة الأنام أن ما صرف على هذه العمارة بلغ 500,8000 دينار غير أجور إحضار أرباب الصناعات من الحدّادين والقطاعين وغيرهم (أي نفقات سفرية).
واستغرق هذا المشروع عشر سنوات فكادت تكون تامة إذ قد وصل إبراهيم بك تلي جدة يوم 23/11/969 ووصل الماء إلى مكة يوم 3/11/979 وهذه هي الحسنة الوحيدة التي للدولة العثمانية في الحجاز، ولا أعرف لها حسنة غيرها إلا بناء المآثر الشريفة وتأسيس المستشفى وإدارة البريد وبناء الثكنات العسكرية وهذه تمت بجهود عثمان باشا والي الحجاز ولولا ما بذله من جهود ما تم من ذلك شيء في ذمة التاريخ.
عمل مجاري مكة..
ثم اتجهت الأنظار إلى عمل مجرى مستقل لعين نعمان بداخل مكة فتم ذلك، يقول القطبي: ((فشرع في إكمال الدبل المستقل لإجراء عين عرفات وبناء من جهة المدعى ثم مر به من عرض من جهة سويقة ثم عطف به إلى السوق الصغير وأكمله إلى منهاه وبنى قبَّة في الأبطح جعل فيها مسقم عرفات.
عين البطحاء (3)
آسف لكون هذه العين أهمل المؤرخون أمرها، ومنبعها الأصلي، وكل ما جاء عنها هو عرض في ذكر خبر البرك الخمس التي أنشأها صالح بن العباس سنة 210.
جاء في بغية الراغبين: ((فأمر صالح بن العباس في سنة 210 أن تتخذ لهذه العين أي لعين حنين خمس برك في السوق لئلا يتعب أهل أسفل مكة والثنية وأهل أجياد وأن يوصلها إلى بركة أم جعفر بالمعلا وأن يجري أعيناً من بركة أم جعفر من فضل ملئها في (عين تسكب في بركة البطحاء) عند شعب على أمام المولد النبوي.
كلنا يعرف أن الماء الموجود اليوم في ماجل المسفلة (والعامة تقول بركة ماجد) وهو ماء عين جارية وهذا الماء تارة يكثر، وتارة يقل، وكل الهيئات التي ألفت في الزمن السابق لم تلتفت إلى معرفة المجرى الأصلي لهذا الماء ونميل إلى أن السبب الرئيسي لهذا هو كون العين المذكورة خاصة، أقول خاصة بناء على أن الوضع الحاضر يدل على ذلك، أما التاريخ فالذي يفهم منه غير هذا وقد انتقلت الآن إلى علي باشا، وفي عام 1345 هـ اهتم بالأمر بعض مستأجري البستان لقلّة مائها فبحثوا عن منبعها الأصلي، وكان ذلك بإشراف هيئة عين زبيدة، فاستمرت في ذلك إلى أن وصلوا إلى بيت الخزندار في القشاشية، ولم يتمكنوا من التقدم نظراً لكون المجرى واقعاً تحت دارهم، وأن التقدم إلى الأمام يحتاج إلى فتح فتحات في نفس الدار، وأن تلك الفتحات تضر بالدار ولذلك وقف البحث عند هذا الحد وكل الذين ذكروا عين البطحاء قالوا: إنها تنتهي إلى ماجل المسفلة وإنها تسكب في بركة البطحاء (التي قالوا إنها أمام مولد النبي صلى الله عليه وسلم).
وقد ذكر صاحب بغية الراغبين أن ذلك عند باب الوداع والذي أميل إليه أنها عند باب إبراهيم لأن باب إبراهيم هذا يسمى باب الحناطين، وإبراهيم الذي ينسب إليه الباب الآن حناط (نسبة إلى بائعي الحنطة) كان هناك.
والبركة الرابعة عند سكة الثنية دون دار أويس، ولم أعرف سكة الثنية ولا أويس ولا داره، ولم أقف على شيء أستدل منه ولا بعض الاستدلال.
والبركة الخامسة عند سوق الحطب بأسفل مكة، وسوق الحطب هو المكان المعروف اليوم بالهجلة. وقد أوصل صالح بن عباس مجاري هذه البرك الخمس ببركة أم جعفر بالمعلا، فكان فضل مائها مع ماء العين التي تسكب في بركة البطحاء يتصرّف على البرك الخمس، والفائض من حاجة الناس يذهب إلى ماجل المسفلة. وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن صالح بن العباس وقف بوجهاء مكة على تلك البرك حين جريان مائها ونحر عند كل بركة جزوراً وقسم لحمها. وذكر صاحب إفادة الأنام نقلاً عن ابن فهد أن زبيدة لامت صالح بن العباس على هذا وتمنت لو أنه كتب إليها لتقوم به لتتم ما نوت عمله مع أهل حرم الله فاعتذر إليها.
1 ـ بركة السلم (4)
يشاهد الذاهب إلى منى عن يمينه بركة مهدمة تعرف ببركة (السلم) ولا تزال العامة تسميها بهذا الاسم حتى اليوم.
وهذه البركة قديمة جداً ولا يعرف بالتأكيد عمرها ولا تاريخ عمارتها وكل ما نستطيع أن نقوله عنها إنها عمرت في القرن السابع أو قبله، إذ ذكر غير واحد من مؤرخي مكة أن نائب السلطنة بمصر جدد عمارتها سنة 745 هـ وأجرى لها عيناً من منى.
يقول السنجاري: وفي سنة 745 هـ جدد نائب السلطنة بمصر بركة السلم وأجرى العين إلى داخلها من طريق منى ((ويقول الفاسي)) أجرى نائب السلطنة بمصر عيناً من منى إلى بركة السلم سنة 745 هـ، فقول السنجاري جدد نائب السلطنة بمصر بركة السلم أكد لنا أن بركة السلم كانت موجودة قبل سنة 745 هـ وأن نائب السلطنة بمصر جددها وبالطبع لا يكون التجديد إلا بعد التخريب، والخراب لا يكون إلا بعد الإنشاء وأمثال هذه الأشياء لا يعقل أن تخرب قبل مرور مائة عام على أقل تقدير وعلى هذا القياس فلا يستبعد أن تكون بركة السلم من مؤسسات القرن السابع الهجري أو قبله كما أن قول السنجاري أكد لنا أن إجراء العين إليها من منى شيء مستحدث أحدثه نائب السلطنة بمصر سنة 745 هـ ونائب السلطنة هذا الذي يقصده السنجاري هو الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون وهذا القول جعلنا أمام أمر غامض وهو معرفة مورد الماء إلى بركة السلم مرتفعة أنها كانت تملأ من ماء عين حنين لكونها بعيدة عنها وأرض بركة السلم مرتفعة عن مجمع مياهها كما أنه لا يوجد أي أثر قديم يدل على ذلك، ثم لا يعقل أيضاً أنها كانت تملأ من ماء عين زبيدة. إذ ماء عين زبيدة كان حده النهائي في ذلك الحين بئر زبيدة أو بئر الجن والعقبات التي كانت قائمة في طريق وصول ذلك الماء إلى مكة هي العقبات نفسها التي تحول دون وصول الماء إلى بركة السلم (وضحناها في العدد 519 ـ 921) أضف إلى ذلك الجهة التي تقع فيها بركة السلم مرتفعة من الجهة التي تقع فيها مجاري عين زبيدة وهذا الارتفاع هو الذي حال دون دخول مجاري عين زبيدة بمنى ولو لم تستعن عليها جمعية وحدانة بمكنة الضغط الموجودة اليوم في ريع المفجر لما تمكّنت من إدخال الماء إلى منى بمواسير حديدية زد على ذلك أنه لم تكن هناك عيون قريبة من بركة السلم نستطيع أن نقول بأنها كانت تملأ منها بركة السلم، كذلك لم يحدثنا التاريخ بوجود عيون في تلك المنطقة فلذلك لم يبق أمامنا إلا أمر واحد وهو أنها كانت تملأ من ماء المطر، ونستدل على ذلك بوجود شحاحيذ تتصل بفوهة واسعة في الجانب الغربي من البركة أذكر أني رأيتها قبل عشر سنوات تقريباً وقد وقفت عليها قبل بضعة أيام فوجدتها مدفونة إلا أن آثارها ظاهرة وإني أجزم بأن تلك الشحاحيذ التي رأيتها من قديم ليست قديمة بل هي إما أن تكون مستحدثة، وإما أن تكون مجددة وأظنه الثاني.
وكون بركة ((السلم)) كانت تملأ بماء المطر قبل سنة 745 هـ أمراً غير مستبعداً، إذ قد ذكر صاحب الأرج المسكي والتاريخ المكي ما يلي:
ومن البرك بركة السلم وهي في طريق منى بالقرب من عقبتها وملؤها من ماء المطر من جري العين وهي مسبلة لم تكن ملكاً لأحد.
فهذا القول يدلنا على أنها كانت تملأ من ماء المطر، فعليه يكون هذا القياس صحيحاً ـ كما أن الموقع الطبيعي لبركة السلم مسيل، والجبال التي حول البركة تجتمع فيها المياه أيام الأمطار. ولا يعلم بالتأكيد متى قطعت عين منى عنها إلا أنها كانت في القرن الحادي عشر مقطوعة وكانت تملأ من ماء المطر، عرفنا هذا من قول صاحب الأرج المذكور سابقاً وهو من أهل القرن الحادي عشر. يقول صاحب إتحاف فضلاء الزمن ((وفي سنة 745 هـ جدّد نائب السلطنة بمصر بركة السلم وأجرى العين إلى داخلها من طريق منى قلت (القول لصاحب الإتحاف) وقد خربت الآن ولعلّ الله يوفق مريداً للخير يعمرها لينتفع الناس بها)).
وصاحب الإتحاف توفي سنة 1163 هـ رأيت ذلك على غلاف النسخة الخطية الموجودة في المكتبة الماجدية. والخراب الذي نبّه عليه هو خراب في العين لا خراب في البركة وقد أغفل رحمه الله عمران البركة في ذلك الوقت.
وقد بقيت البركة تملأ من ماء المطر إلى زمن قريب ولا يزال المعمرون يذكرون لنا أنهم كانوا يذهبون للسباحة فيها، وقد روى لي غير واحد أنه حصل عند هذه البركة في حدود سنة 1320 هـ فتنة (هوشة) بين أهل محلة شعب عامر، وأهل محلة النقا قتل فيها غير واحد، وبعد الوقعة نزل بعضهم في البركة للاغتسال فيها ـ فهذا يؤكد لنا أن البركة كانت تستعمل إلى زمن قريب. ونميل إلى أن هجر البركة كان بعد أن هجرت بركة الشامي والمصري، وضعف أمر الاعتماد على البرك، وهذا الضعف بدأ في مكة في العشر الأول من هذا القرن أي بعد أن أمنت المحلات بالبازانات واتجهت أنظار الجمعيات التي تولت أمر العيون بمكة إلى العيون والنظر في أمورها دون البرك.
ومكان بركة السلم يسمى الأجرع نبه على ذلك الحضراوي في تاريخه (هذا التاريخ لا توجد منه إلا نسخة واحدة بخط المؤلف وهي اليوم من كنوز المكتبة الماجدية) تاج تواريخ البشر بقوله ((الأجرع يجمع على أجارع الأرض ذات الحزونة كثير الأحجار وقيل للرملة التي لا نبت فيها وهي المحل المتسع للمبنى فيه بركة تعرف ببركة السلم)).
وفي ديوان البارودي ما يلي: ((الأجرع والجرعاء الأرض ذات الحزونة تشاكل كل الرمل وقيل هي الرمل السهلة المستوية، وقال ابن الأثير الأجرع المكان الواسع الذي فيه مرونة وخشونة وفي الأجرع يقول البارودي:
ردي التحية يا مهاة الأجرع
وصلي بحبلك حبل من لم يقطع
ويقول فيه الأمير شكيب:
درعت حسنك بالمكان وفتية
من حول خدرك حاسرين ودرع
وفيه يقول العباس بن مرداس:
وكانت نهايا تلافيتها
بكري على المهر في الأجرع
وفيه يقول أبو صخر الهذلي:
ألا أيها الركب المخبون هل لكم
بساكن أجراع الحمى بعدنا خبر؟
وبركة السلم مستطيلة يقرب طولها من خمسة وعشرين متراً وعرضها من خمسة عشر متراً وعمقها من أربعة أمتار وينزل إليها بتسع درجات من أقصاها وبتسع درجات من أدناها وكلاهما في الجهة الغربية ومصب مجرى العين الذي ذكر التاريخ أن مصدر مائها من منى لا يزال ظاهراً إلا أن داخله مردوم بالتراب، وهو يقع في الجهة الشمالية ومصب ماء المطر على البركة لا يزال موجوداً في الجهة الغربية. أما المصفاة التي تكون عادة قبل المصب فهي مدفونة وكذلك الشحاحيذ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :989  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 61
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.