شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(23)
المكرّر يحلو
ولكلمة التاجر.. في منطوقها، ومفعولها العربيين قيمة أكبر شرفاً وارتباطاً بها من كلمة.. "ويرد" الإنجليزية.. فقد يرتبط بكلمته ببيع صنف لا يلبث بعدها أن يرتفع ثمنه إلى رقم مغري.. فلا يرجع فيها بالرغم من عدم دفع المشتري عربوناً.. أو ثمناً.. أو اتخاذ أية إجراءات ملزمة.. كما لم يكن هناك بند باستلام النقود تنوب الثقة والأمانة عنه أو عن الشهادة والشهود وهكذا إلى آخر المميزات البارزة لبلد كان كل سكانه وكأنما يكوِّنون عائلة أو جسداً واحداً إن تألم تألمت له بقية الأعضاء فعلاً.. (تلك نطة قصيرة.. لم يكن بد من أن تسبق ذكرياتي عن أم القرى وأولها أن أول ما لفت نظري وهالني فيها قامات وقوام الرجال المكيين الأشداء طولاً وعرضاً ومتانة بنيان تذكرنا.. أو تعطينا صورة حية.. للعمالقة ثم البشاك لكل بشكة منها مركزها اليومي بمقهاها المفضّل.. وثانيها حلقات ـ الجوك ـ ولعلَّ الكلمة الفصحى ـ الجوقة ـ كأصل لها.. تسمع فيها.. يا غصن نقا.. ويا صفا الأزمان.. وما إليهما في أصوات قوية منغمة رائقة.. تزيد في روعتها ضربات الأكف صفقة مرتبة في خلالها ولدى كل مقطع.. ونهاية!
وأخيراً.. لا آخراً.. تلك الملامح لأهالي كل محلة بذاتها.. وروح المرح الشائع وفنية الحياة الضاحكة.. في سلاسل إنسانية تشكل في مجموعها مجتمعاً بشرياً يتجلّى فيها ظرف الحجاز تومئ إليه سطور وسطور من التاريخ القديم لأجدادهم الأوائل في واديهم المبارك.. وشعابهم الصلداء.
وبعد.. وبعد أن طوينا المسافة من قمة كرا.. إلى شعاب مكة، فسهل جدة الفسيح.. وفرح بعودتنا الأهل والجيران وصلت إليهم في تباسيها وبقشها الهدايا مشعرة بقدومنا الميمون.. واستمتعوا بما حفلت به من القلادة.. والحمصية، واللدو لذوي العلاقة الضعيفة ـ إلى النغاري في أقفاصها منادية ـ خديجة ـ خديجة.. غدا.. غدا.. خد.. لأصحاب العلاقة الوثيقة، فقد حق للعائد أن يتيه على زملائه وأترابه راوياً مكرراً ومعيداً.. ما شاهد.. وصادف.. وما قامر لأجله وما غامر به في رحلته إلى قمة الجبل.. وما وراءها.. ولم يكن ذلك الذي فعل باليسير في عصره البطيء.. ومع ذلك فقد جرأته تلك الرحلة الأولى إلى كرا.. أن قبل بصدر رحب وشهامة بالغة قيادة ركب جديد إليه في العام التالي مباشرة.. ركب مؤلف من سيدة كبيرة وقورة كانت تشغل في جدة مركز أكبر قابلة.. داية.. فيها، وكان يصحبها ولدها وزوجته..
وللألفة وللصلة الوثيقة التي ارتبطت بها مع الجدابيين نفسيهما فقد كانت حمرها غير الوحشية هي مطايا ركبنا الجديد.. وهكذا تكررت مقابلتي مع الجبل للمرة الثانية صاعداً على قدمي فيه.. فأصبحت بيننا والحالة هذه ـ مكررة تحلو ـ معرفة، وألفة وصداقة، وحب بدأت كلها في يوم ما.. من شهر ذي الحجة المبارك، في عام ما، من الأعوام الهجرية المجهولة النسب في عالم الأرقام.
ولا أجد داعياً أو مبرراً الآن لأية قفزة جديدة، أو نطة إنجليزية أو عربية، لأسرد مكرراً ما أسلفت بالطريق للجبل أو فيه، أو على قمّته، أو بوديانه، وبوادي الأعمق الجميل، حيث ظلّ القلب وهواه، معلقاً حائماً حول مربعة أنيقة رشيقة تسكنها مزنة ذات القصة الغرامية يضمها في صفحات شعرية غلاف وردي حبيب.
وتمرّ الأيام.. تطوى الشهور.. تدور بها الأعوام.. في نتائج وأرقام.. فإذا أنا في الهدا.. في أوائل عام 1384 هجرية مدعواً للغداء، فالإقامة إن شئت لدى الصديق القديم الأستاذ محمد عمر توفيق، في مرابيعه الصفراء، بلون الكركم، وسط بستان أخضر، ولن تكون البساتين إلا خضراء.. ولكنه تقليد الوصف الملزم الملتزم به..
وبعد أن قشرنا آذان بعضهم في قهوة صن رائقة، قرأنا ما تيسّر من قصيدة حلمنتشية طويلة بعنوان ـ رحلة الصيف ـ نشرب بالمركاز دائم الذكر.. مبدئين ومعيدين ما جاء بتاليها خاصاً بـ:
بمرابع "التوفيق".. في بستانه
في البيت.. مرشوشاً بلون الكركم
فلربما صعد المحب إلى الهدا
وحبيبه في جنبه.. كالأبكم
سرحان.. فكر في الطريق مسفلتا
ومعبد الأطراف.. غير مكمكم
متذكراً عهد البهائم.. صاعداً
نحو الشفا في حيرة المحرنجم
أو هابطاً نحو السلامة من كرا
أو ساقطاً تحت البرادع يرتمى!
* * *
وأؤكد أنه لم ترد كلمة (البرادع) عفواً في العجز الأخير، فقد أسهبنا يومها في سيرة البرادع ـ أيام زمان ـ مقترنة بسيرة الحمير البلدية الفارهة والمنقرضة في تاريخنا الحديث تقريباً.. فلقد كان لكل حمار بردعته الغالية يتفنن صاحبها وصاحبه في جعلها مخملية مرتفعة الصدر مسبلة العجز.. تتفق وما كان يناله الحمار المدلل ذاته من قص شعره لدى الحلاقين ـ قصاصي الحمير كما كانوا يسمون ـ على أحدث طراز.. كوفيري.. قديم.. كما كانت الحناء الوسيلة الوحيدة للتوليت ولزينة ينهق لها نهيقاً رقيقاً تيهاً بهما على زملائه.. حتى استطردنا إلى الحسرة على ما كان ينفق على الشعر لشوشة الحمار.. وعلى البردعة لظهره من دخل قومي تلاشى هباء.. في تلك الأحقاب الجاهلية..
وانحدرنا إلى ما تلاه من وسائط النقل.. لا تحتاج اليوم إلى تلك الزينة يشارك بها البهيم الإنسان.
ومن استطرادة لأخرى.. جاء ذكر حبيبي وصديقي وزميلي.. كرا ـ الجبل الذي صار سهلاً.. وحيث أني لم أنسه قط.. فقد انحدرت تلقائياً بعض العبرات تكفيراً عن خطيئة التقصير في حقّه.. وكان منى على بضع خطوات.. أو أمتار.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :733  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج