شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(13)
وشرب من المَعْسَل
إن مزنة البنت القروية هي بالإجماع الريحانة العطرية في وادينا وستراها به.. ستراها في الصباح عندما ترد البئر لتملأ قربتها منه ـ وفي الضحى حينما تهبط البستان تساعد في بعض الأعمال به.. وفي المساء بينما نكون جلوساً في رحبة البيت نتسامر.. أو في إحدى الليالي عندما يحتفل بكم أخي الأكبر محمد على رأس الفتيات في صفهن برقصة ـ الخليطي ـ ترتجل الشعر.. وتقود الفرقة من بنات جنسها للرد على الفتى الأول بين الفتيان..
إنني يا رفيق الدرب في الجبل الآن وعابر الوادي ـ لا أريد أن أملأ رأسك بصورتها ـ تتخيلها.. ولكني وأنا أفضل أن ترى مزنة بذاتها.. لا بد وأن أعطيك الإشارة عنها ـ إشارة الخطر ـ لتكون على حذر ـ وأطبق أحمد فمه، فلم يقل جديداً عن مزنة بعد ذلك.
وأحمد هو زميلي الجدابي الصغير شقيق أخيه محمد صاحب الحمير، فقد نسبت طيلة المدة السابقة أن أسميه.. وقد عللت الحب الوثيق غير المفقود بيني وبينه.. في أول العهد به أنه ربما كان للتسمية المشتركة في الاسم دخل في قذف حبه بقلبي، ولكنني حللت الأمر منطقياً وروحياً وتجريبياً على ضوء من الحديث الشريف.. الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف.. وما تناكر منها اختلف..
وهذه حالة صادقة مجربة ـ فأنت قد ترى إنساناً ما، فإذا قلبك ينفتح له وروحك تهش لرؤيته.. وعينك تؤكد لك ألفة مرآه ـ حتى لكأنك عشت معه الحياة من قبل فعلاً، كما قد يحدث العكس ـ حينما ترى شخصاً ليست لك به معرفة أو اختلاط أو معاملة سابقة فإذا إحساسك ينفر منه، أو يتهيبه.. أو لا تطيقه.. ولعل تعبيراتنا الشائعة على الألسنة والصادرة من القلوب مثل أنا أكره.. هادا الشخص من الله.. أو هادا الشخص ما ينبلع لي من زور.. أو ـ ما أطيق رؤيته يخويا ـ كدا.. بس لله في لله..
بشيء.. من هذا التفسير لحبي الطبيعي للفتى الجدابي.. أو بدونه.. دون أن أفكر في الداعين لقبول فكرة تناسخ الأرواح تستند إلى ركن من جدار متداعي.. فلقد توثقت بيننا المودة والألفة حتى لقد أصبحنا في أيام ـ وكأنما هما ذخيرتا سنوات ونسيجا عمر طويل ـ واستمر تسلقنا بعض الصخور بالجبل أو تسللنا من بينها.. أو سيرنا أحياناً بالسهل في الدرب الخاص نشرف على بقية الركب.. وتمر بنا الرحلة حلوة جميلة.. جامعة مانعة.. كما يقول المناطقة في فكرة السلم الذي كنت حديث عهد بقراءته في الفلاح.. وهو كتيب مدرسي صغير ـ من كتب المنطق كما كانوا يسمونه.. أو الفلسفة في التعبير العلمي والعصري خارج الحدود، حتى جاءت اللحظة التي أشار لي فيها بالتوقف في انتظار القافلة ولما سألته ولم؟ أشار إلى نقطة بعيدة ـ قريبة.. وقال لا بد أن تكون الفرحة بها جماعية مشتركة..
وفعلاً.. فقد انتظرنا الركب، حتى إذا تكامل بنا أو بهم جمعنا علمت أننا على مقربة من بركة المعسل، أي من هامة الجبل.. وكلمة "المعسل" كافية لأن تعطي لبركته شهرتها التاريخية.. وسرنا سوية.. على بركة الله ـ حتى إذا وصلناها ـ تبادلنا التهنئة ـ والعناق بالأعين والنظرات الشاكرة.. في حمد وتسبيح، وتهليل وتكبير..
ثم أخذنا في الاستعداد للشرب المباح من ماء المعسل، ومن المنسرب الصخري للمنبع مباشرة.. فقام الحمّار وأخوه وبعض أفراد الركب من أهل الديرة بجمع بعض أوراق الشجر الخاص بتسهيل عملية الشرب.. من مسرب المنبع الذي هو عبارة عن فتحة صغيرة في صخر ملتصق يتسرب منه الماء.. وقد استعملت كسواي، بعض تلك الأوراق لتسهيل جمع ومرور الماء من الصخر إلى الفم..
وكان كل من تلك الأوراق عبارة عن ورقة نباتية محدود به الوسط طولياً.. لها حجم وصورة الكرته، أو اللبيسة، المسهلة لمرور القدم وتسهيل دخول عقبه إلى الحذاء.. ومعذرة شديدة في هذا التشبيه المكروه أو المحرم ذوقياً.. ولكن معذرتي في اللجوء القسري إليه أن تلك الورقة النباتية الخضراء لا شبيه لها في الوضع وفي الموضوع إلاّ ما ذكرت.. أعزّ الله السامعين..
ولعلَّنا من الوقع في هذا المأزق البياني البسيط نعطي النعنعة كاملة لمن يحرصون على نقل الصورة الفنية مهما كلفهم الأمر من خروج على مألوف.. أو خدشاً لذوق عام ـ في سبيل الدقة لتشبيه صادق..
وابتدأنا الشرب من المعسل.. وأقسم أنه كان حلواً.. زلالاً.. بارداً كأنما كان خارجاً مما يسمونه "الفريزا" في هذه الثلاجات العصرية التي عرفناها واستعملناها في حياتنا الحاضرة فيما بعد، بعد أكثر من ربع قرن من رحلتنا هذه.. وشربنا هنيئاً مريئاً.. وفي اعتدال من الترشف.. فقهنا به دلالة كلمة رشف.. اللطيفة أداء ومعنى.. الشعرية.. تردد أبداً في حالات الرضا والوصال.. ورشف الرضاب.. وذلك ما كنا نلتذ به من فم الصخرة.. ماء مثلجاً بقدرة الله سبحانه وتعالى.. ثم بفعل مروره باطن الأرض واختزانه بقلوب الصخور.. محتفظاً ببرودته الطبيعية المدهشة..
وربما وردت في هذا الباب إشارة لطيفة إلى إمكان قيامنا.. خلوياً.. بعملية تبريد صخرية للماء.. نجهل حتى الآن كيفية تركيب وتصنيع أجزائها المختلفة.. أسوة بما كنا نقوم به من عمليات تبريد طبيعية في المدن.. بواسطة الزير المغربي.. والشراب الفخار.. فنشرب الماء بارداً دون أي ضرر منه.. فقد علمنا عرضاً وبطريق الصدفة من بعض المشتغلين بالطب.. وبالتخصص في علاج مرض ـ القداد ـ بالذات وتوابعه أن للثلج والمثلّجات الاصطناعية الخارجية بعض الأذى.. فضلاً عن أن الإكثار من "البارد" غير الطبيعي.. يسبب بروز الكرش.. بروزاً يؤدّي إلى الشك في حمل صاحبه حملاً يستدعي ببلوغه أشهره الأخيرة الانتقال لأقرب مستشفى لإجراء عملية عادية.. أو قيصرية إن تعسّرت الولادة واستدعى الوضع إجراءها في الحال..
وحرصاً على أداء الأمانة التاريخية.. وللنفع العام.. نودّ بهذه المناسبة أن نشرح لأبنائنا من أبناء الجيل الحاضر الطريقة التي كنا نشاهد أمهاتنا وجداتنا يقمن بها بالبيت في أيام الصيف في بساطة ويسر ونظام بيتي لتأمين ماء الشرب البارد.. لكل من فيه..
لقد كان كل بيت من بيوتنا يحتوي في أثاثه على أزيار الماء الفخار المصنوعة محلياً ـ وتلك صناعة بادت دون لزوم ـ وكان أحسن تلك الأزيارما يطلق عليه "الزير المغربي" وإن كنت لا أدري رغم وطنية تلك الأزيار جملة من أين وردت صفة المغربية لأزيارنا؟
وربما تمكن أحد المؤرّخين والمنقبين عن الآثار أمثال الأنصاري والزيدان ومن نحا نحوهما من تحقيق هذه النسبة في التسمية الزيرية.. حرصاً على نقاء تراثنا البلدي الصميم من الشوائب..
كما كان لكل زير غطاء.. ولكل زير كذلك مغراف.. ومن هنا فيما نظن وفي مناسبة اصطلاحنا ولد المثل الشعبي القديم القائل.. كلما دق الزير في المغراف.. واعتقد أن شرح مضمونه ومناسبته معلومان للجميع..!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :905  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج