شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(12)
حور حرائر
ومع ذلك.. فقد شاهدنا من بداية صعودنا (كرا) الجبل الغنى.. أنواعاً مختلفة من الحجارة والحصا. والصخور.. ونشهد في ألوانها.. وأشكالها.. وأحجامها نادرة وعزيزة.. وإن قسماً كبيراً منها يشير نظرياً دون فحص كيمائي وتجريبي إلى احتوائه على أنواع من المعادن الخام المطمورة.. أو المندسة بقصد عنا لأننا لم نبذل في سبيل رؤيتها النور إلى جهد مشكور منها أو منا..
وتلك الصخور.. وما يتفرع منها.. حصا.. أو حجارة.. أو على الدقة ما هو أصل لها.. بداية بتكوينها الصخري لا يحتاج فيما سجلته لنا روايات العارفين القدماء من شيوخ الطائف ومكة وما بينها إلاّ أن نتعلم علم الخواجات الجديد.. فنصبح حالاً أغنياء بالحديد وبالصلب وبالنحاس وبالذهب كذلك.
وعلى ذكر الذهب.. فلا بد هنا من استناده على أقرب صخرة لنربط بحبل من الخيال بين ما هو موجود من هذا المعدن الذي ترخص في سبيله الأرواح في بلادنا في المهد، بطريق المدينة المنورة، وما هو موجود فعلاً وإن كان مخبوءاً للآن في هذه التربة تربط بين أجزائها عروق المحبة لم تجد بعد من يتحسس شرايينها.. وينصت إلى دفقاتها الذهبية والبلاتينية.. كذلك..
وكنت أظن بغروري المدرسي الفلاحي.. أن الجدابي الحمّار الصغير غافل عما أنا فيه ـ وأنه لا يتابع أحاسيسي وتحسساتي سواء ما تعلق منها بانبجاس الماء من بين الصخور.. أو بتفرّد القردة بميزاتها المحلية والعالمية أو بمميزات أعشابنا ومزروعاتنا.. أم بما تحمله وتحفل به أحجارنا وتربتنا من كنوز.. وكنوز.. ولكني اكتشفت أنني مخطئ في الظن.. فقد أمطرنا بكثير من المعلومات والروايات المتعلّقة بكل بند من هذه البنود في أسلوب بسيط وتشبيهات حية.. وتعبيرات تتجه للقصد رأساً في كلمات كأنها طلقات الرصاص في سرعتها وصحة تسديدها للهدف.
وسرعان.. ما استعدت الجملة القديمة القائلة.. رب جوهرة في مزبلة.. وكان الجدابي الصغير جوهرة حقيقية.. لكنها في وسط جبل.. لا في مزبلة.. كما تقول تلك الجملة في تعبيرها غير المهذب.. وغير الديموقراطي ـ حتماً ـ فلقد بدأ بعد أن استوعب بالبحث والشرح والإفاضة الماديات السالفة الذكر ماء، وقردة، وأعشاباً وحجارة.. أن يعرج على المعنويات حين لاحظ تشبثي بجعلها في المرتبة الأولى من نفسي وعواطفي ووجداني وذلك باستشهادي بالمناسبة.. وبدونها ببيت أو بأبيات من الشعر العربي قديمه وحديثه فكان في هذا المجال الفني ندا خطيراً.. وإن كان الفرق بيني وبينه شكلياً وجوهرياً معاً؛ فهو يستشهد بالأقوال البدوية.. وبالشعر الحميني.. وبالأمثال والنوادر عربية قحة في مصدرها.. وقولها.. وعنصرها.. بينما أنا أستشهد بذلك كله أو بعضه وبما وعته الذاكرة نقلاً عن كراريس مدرسية كنت حديث العهد بحفظ ما فيها كالببغاء.. فأصبحت المقلّد.. حين كان هذا الغلام.. الأصل.. دون تقليد.. وهذا الذي أقوله عنه في مجال المعنويات الشعرية سجادة حريرية أبسطها له ليتربع عليها وسط الجبل.. وليقص على فيما يقص.. شيئاً عن القاعدة القلبية لتلك المعنويات.. بل ولكون النفوس عامة.. وللكون بذاته.. شيئاً عن الحب.. وسيرة الحب والمحبين.. مبتدئاً بالتغنّي بالجهل البشري في أوديتهم.. بعد التغنِّي بالجمال الطبيعي فيها.. وفي جبلهم هذا.
وكانت الشرارة الدفينة التي أشعلت فيه هذا اللهب الإنساني الخالد أنني ترنّمت في المناسبات المتفرّعة والمناسبة طبعاً.. ببعض الأبيات الشعرية.. أذكر منها هذه الأبيات:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا.. ثم لم يحيين قتلانا
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد.. وحولي أذخر وجليل
ولما قضينا من منى كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا وأعطينا الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح
وكان يسمع ويعي صامتاً.. متنهداً.. ولكنني لم أكد أقول:
حور حرائر ما هممن بريبة
كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام فواسقا
ويصدهن عن الخنى الإسلام
* * *
حتى انطلق في حديثه الدافق وكأنه يخشى مزاحمة بنات مكة أو أندادهن بما يعتبره وقفاً على بنات جبله وواديه.. وحزم لا يناسب كل ذلك سنه.. وذلك بعد أن ابتدأ قائلاً بهدوء ووقار: وماذا عساك ستقول في ظباء أوديتنا البشرية حين تراه؟.. وعندما يسلطن عليك النظرات السريعة الرواية.. البريئة المؤدى؟.. إنني سأقف بجانبك قطعاً ـ لأنك ـ ورع.. حضري.. يعني ولد صغير من أولاد المدن.. ولكنني أحببتك حيث زاملتك وألفتك.. وقد أوصاني والدك من وراء ظهرك عليك.. كما أوصاني أخي الأكبر.. بدوره على أن ألاحظك.. عندما تتخطّى أو تتسلق الصخور!..
إنهن ـ أي بنات أوديتنا ـ صبيحات الوجوه.. سود العيون.. سواد شعرهن الملفوف في غدائره.. غزلانيات القدود.. ساحرات الكلمات وإن انطلقت من أفواههن العقيقية انطلاق السهام المتتالية في فصاحة وجرأة.. يتبيّن حلاوتها ودلالتها من تذوق الجمال البريء في منبته.. وأظنك ستكون كذلك.. فقد رأيت فيك هذا التذوق أمام بعض أعشابنا.. وزهراتنا البرية.. في الجبل.. قبل قليل.
وأحب أن ألفت نظرك من الآن.. وقد تبين لي أنك تحب الشعر وربما تقوله.. إلى البنت مزنه بالذات.. فمزنة يا رفيقي الحضري.. هي وردة وادينا.. وادي الأعمق!..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :789  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج