شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
( 16 )
غربة...
مصر قطر عربي يزيد في تأكيد عروبته الرسمية ـ باللغة القانونية ـ اليوم تزعمه الحركة العربية وشعوبها.. فالإدراك، والشعور بذلك وسيلتا اطمئنان لعدم الإحساس بالغربة للقاصد العربي إليه، والضارب في زحمة حياته، ومجاليها المختلفة..
فهل هو كذلك في كل هاته النواحي العامة، والعالية منها على الأخص؟؟
إنه في المألوف العادي والبسيط المرتقب.. كذلك.. ولكنه فيما عداه ـ وهو أجمل ما في أجمل مدنه ـ.. بل إنه لتشعر، لتعدد اللغات والرطانات، إنك في بلد أجنبي يزوره عرب متمصرون ومصريون معدودون.
فالإفرنسية، واليونانية، والإيطالية، والإنجليزية ـ وهي أقلها وأقواها فأعجب! ـ و. و.. هي البابلية التي تصافح سمعك باستمرار في قلب شارع فؤاد الأول وسليمان باشا، وعماد الدين، وبمصر الجديدة. وما قام مقامها..
والأسماء اللامعة البارزة للمحلات التجارية والاقتصادية كلها أو أغلبيتها الساحقة، إفرنجية أجنبية. حتى الساكن هناك للاستثمار والسكن لهؤلاء.. فليس بين الفنادق، والبانسيونات يملكها أو يقوم عليها مصري أو مصرية.. وعلى الجملة فقد تداخل عنصر الاقتصاد المركّز للأجانب، وتقرير ذاتيتهم في كل شيء هناك.. فاحتلوا من البلد أزهاها، وأرقاها، وأكثرها غربة عنها..
ولقد يهون الأمر سماعك هؤلاء الأجانب يتكلمون العربية باللهجة المصرية الصميمة أو مع تكسير فيها.. ولكن الذي يفزع أن كثيرين منهم موجودون من زمن طويل.. أو مولودون بمصر ولكنهم يجهلون العربية لأنهم متكتلون، مقتصرون، لا يتفاهمون إلاّ بلغتهم. ومن الطريف اصطدامنا بالحادثة التالية:
سكنت وزميل لي في بنسيون تديره امرأة روسية ـ حتى الروس أيضاً.. فسجل ياسيفور كما يقول أناتول فرانس ـ وتعذر علينا التفاهم معها إلاّ بواسطة الخادم وكانت لها شرائط وترتيبات لا بدّ للساكن من مراعاتها بدقة ونظام صارمين. جلاء أو محاربة للعادات المصرية والعربية. وحين أفهمناها تجنيها في أنها ما دامت تقيم بمصر من ستة وعشرين عاماً.. وأنها تدير نزلاً عاماً لا يحتكر به الأجانب وحدهم.. لزم أن تكون إعلانات برنامجها هذا باللغتين العربية أولاً. والإفرنسية مثلاً والإنجليزية أجابتنا: أنها لا تستطيع تعلم اللغة العربية لأنها عسيرة جداً، قلنا فاقتصري على فهم الألفاظ ونطقها، وما أسهل هذا لمن تقيم المدة التي ذكرت فقالت: حبذا لو فطنتم وفطن المصريون إلى ضرورة جعل كتابة الألفاظ العربية بالحروف اللاتينية كما فعلت تركيا أنكم بذلك تضمنون شيوع لغتكم..
فقلنا: هذا شرط كنا نفرضه عكساً.. لو أننا في مركز القوة وأنتم في خط الضعف وإلاّ فما ضر أو يضر راغبي تعلم لغة ما من تلقيها بكامل وضعيتها.. كما يفعل العرب الآن حين يدرسون أية لغة أجنبية.. وكما كان الأوربيون يدرسون اللغة التركية الشائعة بينهم أيام السلاطين.. أو بين قسم كبير منهم. وبينكم أنتم أيها الروسيون على الأخص. لقد كانت هذه ـ المدام ـ نصيراً مجهولاً متحمساً للأستاذ الكبير عبد العزيز فهمي باشا. ولكنه النصير الذي ينظر من أعلى الشرفة إلى من يدبون على وجه الأرض في استخذاء، ونظرة جانبية لمن فوق. فيها الإكبار. والشعور بالعجز، ونحمد الله أننا لم نقض أكثر من يومين بهذا النزل.. وإلاّ لآمنا أننا في قلب "كييف" أو موسكو..
إن هذه الحالة تدعو الإنسان ـ مع إيمانه بحق مصر ـ لتعديل النظرة إلى دعوة الجلاء العسكرية، وحبه أن تستبقها دعوة جلاء "الأجنبية" اقتصاداً، ومظهراً وتركيزاً؛ تمهيداً عملياً لتلك الدعوة المقدّسة. وإن ذلك لهو أساس البناء الاستقلالي الصادق..
أليس في إمكان الحكومة المصرية ـ وقد بدأت ذلك، كما لمسنا الضيق من شكوى الأجانب من الضريبة، وتقرير العربية ـ التعجيل بتمصير هذه القوات الهائلة أو إجلائها تدريجياً والأخذ بيد المصري لإحلاله المحل الأول، أو المنظور في بلده؟
إننا لم نر صالوناً، أو دكاناً، أو بنكاً، أو فندقاً، أو نزلاً، أو، أو، في كل هذه الشوارع والأماكن الفخمة إلاّ وأصحاب كل من ذلك "خواجات" وخدمه مصريون!!
إنها نكبة إن كانت لوجودها المبررات الكثيرة البائدة، فقد آن أن لا تبقى كابوساً مزعجاً حتى الآن.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :698  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.