شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة معالي الأستاذ الدكتور عبد الله يوسف الغنيم))
أيها الحفل الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد:
فخالص الشكر وجزيل الامتنان لجميع الذين تفضلوا بالحضور في هذا المساء ((الاثنيني)) المبارك. وأخص بالشكر سعادة الأستاذ عبد المقصود خوجه رائد هذا الجمع وواسطة عقده. وكنت قد اطلعت على جانب من فعاليات هذا المنتدى، متمثلاً في الدوريات والمطبوعات التي صدرت عنه، وأنبأت عن نخبة من نجوم الأدب والمعرفة التي أضاءت هذا المكان منذ نحو ربع قرن، فلكم مني ومن كل أولئك الذين تفضلتم بدعوتهم أعمق المودة والتقدير، داعياً الله تعالى أن يكلل جهودكم بالنجاح والتوفيق، وأن يظل هذا المنتدى دوماً روضة من رياض العلم تذكرنا بعهود سلفت كان فيها لمجالس العلماء شأن كبير.
لقد تركتم لي حرية الحديث إليكم فيما أراه مفيداً في مسيرتي العلمية، وهو أمر مشكور، غير أنه من الصعب أن يختزل الإنسان عشرات من السنين في مدة لا تتجاوز الساعة.. ومع ذلك فسوف أبذل جهدي حتى أقدم إلماحات فيما قد يكون مفيداً من خلال تلك المسيرة.
تندرج بحوثي ودراساتي في ثلاثة مسارات رئيسية يربط بينها جميعاً التراث العربي بعناصره الموسوعية المختلفة:
أولها: جغرافية شبه الجزيرة العربية.
وثانيها: التراث الجغرافي العربي بوجه عام، والجانب الطبيعي بشكل خاص.
وثالثها: المخطوطات الجغرافية العربية، فهرسةً وتحليلاً وتحقيقاً.
أولاً ـ جغرافية شبه الجزيرة العربية:
لقد استهوتني الجزيرة العربية وتنوّع أشكال سطحها وطبوغرافيتها منذ أن كنت في العاشرة من عمري، فقد رحلت مع والدي رحمه الله إلى الحج مرتين، الأولى سنة 1957م والثانية في السنة التي تلتها، وكان الطريق قبل تعبيده من الكويت إلى المدينة المنورة ومنها إلى جدة فمكة يستغرق نحو عشرة أيام، وكان يمر بعديد من القرى والمناهل التي اتسعت الآن وأصبحت غير ما كانت عليه بالأمس مثل قرية ومعقلة ورماح ومرآة والرس وعرجا وغيرها، وقد انطبعت في ذهني صورة رمال الدهناء وجالات نجد وحرات الحجاز. وأخذت منذ تلك الفترة المتقدمة أجمع كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات حول تلك الأرض، وزاد ذلك بعد أن أنهيت دراستي الثانوية وانتقلت للدراسة الجامعية في القاهرة، ولهذا لم يكن غريباً أن يكون أول بحث يُنشر لي بعنوان ((الدحلان في شبه الجزيرة العربية)) هذا الذي نُشر في مجلة البيان ـ مجلة رابطة الأدباء بالكويت ـ عام 1969م، وهو نفس العام الذي تخرجت فيه في الجامعة. والدحلان هي جمع دحل، عبارة عن حفر ومغارات تتعمق في الصخور الجيرية، وتنشأ نتيجة إذابة المياه للمادة الكلسية، وكانت في الماضي من موارد المياه في منطقة الصمان والمناطق الجيرية (أو الكارستية) المجاورة. وحول معقلة التي مررت بها في طريق الحج عام 1957م عشرات الدحول من أبرزها دحل فتاخ الذي تكرر ذكره في شعر ذي الرمة ودحل الهاشمي، ثم زرت هذه المنطقة بعد ذلك في أثناء إعدادي للدكتوراه ودخلت بعض تلك الدحول وصوَّرتها، وصحبت طلابي إليها في أكثر من رحلة دراسية لقسم الجغرافيا في جامعة الكويت خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
وانشغلت في العام التالي لنشر المقال المذكور في التحضير لرسالة الماجستير من قسم الجغرافيا في جامعة القاهرة، وكان موضوعها ((الجغرافي العربي أبو عبيد البكري)) مع تحقيق الجزء المتعلق بالجزيرة العربية من كتابه المسالك والممالك. وكان هذا لقاء آخر مع شبه الجزيرة العربية وارتباطاً أكثر وثاقة، فقد قرأت من أجل تلك الدراسة معظم ما كتبه القدماء والمحدثون عن جزيرة العرب أو عن المملكة العربية السعودية، واشتغلت بتحقيق المواضع الواردة في الكتاب ورسم خرائط الطرق والمعالم المهمة التي ذكرها البكري.
وفي هذه الفترة تعرفت على عدد من المحققين والمشتغلين بالتراث العربي، تتلمذت عليهم وقرأت على يديهم واستفدت منهم فائدة لم أجدها بين جدران الجامعة. وأخص بالذكر منهم علاَّمة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر (يرحمه الله) الذي أفادني بقيّم نصحه وتوجيهه، وقد تفضل عليّ بقراءة أجزاء كبيرة من كتاب ((معجم ما استعجم)) للبكري، وأشار إلى مواطن التصحيف فيه، وكانت أعماله العلمية وتحقيقاته المتعلقة بالمواضع في شبه الجزيرة العربية خير عون لي. وفي كتابي ((حمد الجاسر، سيرته وجهوده في التعريف بالنبات في شبه الجزيرة العربية)) الذي صدر في العام الماضي بيان عن علاقتي به رحمه الله وعما استفدته منه، مع إطلالة على جانب مجهول من علمه المتصل بنباتات الجزيرة العربية.
أما الشخصية الثانية فهو العلاَّمة المحقق الأستاذ محمود محمد شاكر (يرحمه الله) الذي لم يضن عليّ بوقته الثمين في توجيهي نحو مصادر التراث العربي ومنابعه الحقيقية، وتعريفي بأصول قراءة النصوص القديمة وحلّ مشكلاتها، وقد تعرفت في مجلسه على مجموعة كبيرة من علماء الأمة مثل الأستاذ عبد الله كنون، ومحمد بن شريفة، وعبد الله الطيب، وأحمد راتب النفاخ، وشاكر الفحام، وناصر الدين الأسد، وغيرهم رحم الله من انتقل إلى رحمته، وأمد في عمر الآخرين.
وقد أثمر عملي في الماجستير عدة كتب، فقد نشرت (مصادر البكري ومنهجه الجغرافي) الذي طبع حتى الآن ثلاث طبعات كان آخرها عام 1996م، وفيها زيادات كثيرة. وتشتمل على دراسات تفصيلية تتعلق بالجزيرة العربية في كتابَيِ المسالك والممالك ومعجم ما استعجم للبكري.
والكتاب الثاني ((جزيرة العرب من كتاب المسالك والممالك)) للبكري، ويتضمن دراسة جغرافية تفصيلية لما جاء عند البكري عن جزيرة العرب إضافة إلى تحقيق النص المذكور.
والكتاب الثالث هو ((مصر من كتاب المسالك والممالك للبكري)) وهو أيضاً دراسة وتحقيق للجزء المتعلق بمصر من الكتاب المذكور.
أما الكتاب الرابع فهو تحقيق كتاب ((النبات)) لعبد الملك بن قريب الأصمعي، الذي نشرته عام 1971 في القاهرة أي قبل حصولي على درجة الماجستير. وقد تعرفت من خلاله على نباتات شبه الجزيرة العربية، أنواعها وتوزيعها الجغرافي، وكان هذا من الأمور التي كنت في حاجة إليها لمعرفة ما جاء في كتب البكري في هذا المجال.
وكان عملي في الماجستير هو المدخل لعمل آخر مرتبط بشبه الجزيرة العربية، فقد كنت خلال ذلك العمل أجمع كل ما يتعلق بمصطلحات أشكال الأرض الواردة في كتب الأدب والشعر والمعاجم اللغوية والجغرافية. فلم أكد أناقش الماجستير حتى كان لدي حصيلة من المادة العلمية مكنتني من التسجيل للدكتوراه فور حصولي على الماجستير.
وقد هدفت في دراستي للدكتوراه إلى هدفين رئيسين: أولهما: دراسة أشكال سطح الأرض في شبه الجزيرة العربية بالاعتماد على التراث العربي القديم، ومعالجة ذلك وفق منظور عصري.
ثانيهما: جمع المصطلحات الجغرافية العربية في هذا الشأن واقتراح ما يمكن استخدامه في كتاباتنا الحديثة.
وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف قمت بالسفر إلى إنجلترا في يناير سنة 1974م، وأقمت في مدينة كمبردج قُرابة السنة اتصلت خلالها بالأستاذ الدكتور ريتشارد تشورلي من قسم الجغرافيا بجامعة كمبردج، وازددت معرفة بمناهج البحث الحديثة في هذا الميدان والاطلاع على أحدث المصادر الجيمورفولوجية ذات العلاقة بالصحاري والمناطق الجافة.
والتحقت في نفس العام بالدراسة الميدانية التي نظَّمها قسم الجغرافيا في الجامعة الأردنية خلال شهري يوليو وأغسطس، وشملت تلك الدراسة معظم المناطق الأردنية، وقد ساعد تنوّع الأشكال الأرضية في الأردن وطبيعة الدراسة المقررة على استفادتي فائدة كبيرة في الناحيتين العلمية والتدريبية.
وفي الفترة من 15 يناير سنة 1975م إلى 14 مارس من نفس السنة، قمت بدراسة ميدانية مكثفة في المملكة العربية السعودية بالتعاون مع جامعة الملك سعود، طفت خلالها في معظم أرجاء المملكة، وحرصت على تجميع المرادفات المحلية للمصطلحات الجيمورفولوجية مع تحقيق الأشكال الواردة في كتب الأقدمين على الطبيعة وتصويرها وجمع العينات منها.
وأتبعت تلك الرحلات برحلات متفرقة أخرى إلى دول الخليج العربية الأخرى واليمن، وكنت أسجل ملحوظاتي في كل موقع، وأبحث عن العلاقات السببية بين نشأة شبه الجزيرة العربية من الناحية الجيولوجية، والأشكال الأرضية الماثلة أمامنا الآن، وأحاول الربط أيضاً بين تلك الأشكال والنشاط البشري، فهناك الكثير من الروابط بين الأودية ومسارات الطرق القديمة (طرق الحج وطرق التجارة) وهناك ارتباط بين تلك الأودية وحدود القبائل المنتشرة في شبه الجزيرة العربية، وهناك ارتباط ما بين تلك الأودية وانتشار العمران.
وأحسب أنني قدمت من خلال تلك الرسالة صورة ميدانية حيّة لشبه الجزيرة العربية قبل نحو ثلاثين سنة، وهو في حد ذاته أمر مطلوب بالنسبة للدارسين والباحثين، وخصوصاً وأن البوادي العربية قد تعرضت لكثير من التغييرات التي كان لا بد من توثيقها.
وكما هي الحال بالنسبة للماجستير، فقد فتحت الدكتوراه مجالات متعددة للبحث، لعلّ من أبرزها اهتمامي بأحداث الزلازل وآثارها في المصادر العربية، ففي خلال دراساتي الميدانية الآنفة الذكر شدتني تلك المساحات البازلتية التي يطلق عليها (الحرات) والتي تمتد في معظم المناطق الغربية من شبه الجزيرة العربية، وفي الصحراء الأردنية، بالإضافة إلى الفوهات البركانية الواسعة، ومخاريط الرماد والقواطع والسدود الصخرية المختلفة الأشكال، التي تدل على مقدار النشاط الباطني، الذي تعرضت له الأجزاء الغربية من شبه الجزيرة العربية في المملكة العربية السعودية واليمن في مراحل مختلفة من تاريخها الجيولوجي.
وبناء على ذلك بدأت بجمع الأخبار المتعلقة بالزلازل من كتب التراث، وبخاصة الحوليات التاريخية، والرسائل التي كتبت في هذا الموضوع، ثم كان للزلزال المدمر الذي حدث في اليمن 1982م، أثره في دفعي إلى تجميع وتسجيل كل ما ورد في المصادر العربية القديمة من أخبار الزلازل. وقمت بنشر بعض النتائج التي توصلت إليها في مجلة المجمع العلمي العراقي عام 1985م، ثم عرضت مجموعة من الأفكار الأساسية في هذا الموضوع في الحلقة الدراسية العربية الثالثة للعلوم الزلزالية المنعقدة في الرياض في مارس عام 1986م، وكان ذلك نقطة تحوُّل في معالجة الموضوع من مجرد قضية فكرية مرتبطة بدراسات التراث العربي، أو تاريخ العلوم عند العرب، إلى قضية علمية مرتبطة بالدراسات الزلزالية المعاصرة، وما يرتبط بها من آثار جغرافية على منطقتنا العربية بشكل عام، وعلى شبه الجزيرة العربية بشكل خاص، وكانت فرصتي في الوصول إلى ذلك حينما قضيت النصف الثاني من عام 1986م في تفرُّغ علمي من جامعة الكويت انصرفت فيها انصرافاً تاماً إلى جمع مزيد من المعلومات حول هذا الموضوع في مكتبة من أشهر المكتبات العلمية وأغناها، وهي مكتبة جامعة هارفارد، حيث اكتملت صورة البحث في شكل سجل موثق يعتمد على أدق المصادر حول هذا الموضوع، يمتد تاريخه من القرن الأول الهجري إلى الربع الأول من القرن الرابع الهجري. وقد تم نشر هذا العمل ضمن إصدارات الجمعية الجغرافية الكويتية عام 2002م تحت عنوان ((سجل الزلازل العربي)) وظني أنني قدمت في هذا الكتاب مادة جديدة تقدم مؤشرات مهمة خاصة بأعمال التنبؤ بالزلازل والتعريف بمناطق الضعف القشري في المنطقة العربية والإسلامية.
ثانياً ـ التراث الجغرافي العربي:
يُعدّ موضوع اللؤلؤ في التراث الجغرافي العربي من أبرز الأعمال التي اهتممت بها في هذا المجال، فقد كان الغوص على اللؤلؤ في الخليج العربي حتى وقت قريب ظاهرة اقتصادية لها أثرها الكبير في مجتمعات هذه المنطقة، ويعدّ من مصادر رزقها الرئيسية، وتفصل سنوات الأربعين من القرن الماضي بين عصرين اقتصاديين مهمين، هما عصر اللؤلؤ بامتداده الزمني البعيد وعصر البترول الذي ينشر ظلاله على مجتمعات هذه المنطقة في الوقت الحاضر. وكان فضل الله على هذه المنطقة عظيماً، فقد جاءت الثروة البترولية بعد أن بدأت ثروة اللؤلؤ في الاضمحلال نتيجة اكتشاف طريقة استثارة حيوان اللؤلؤ وزراعته، والتمكّن من الحصول على اللآلئ بكميات تجارية كبيرة وبمجهودات لا تقارن مع تلك المشاق التي كان يبذلها الآباء والأجداد في هذه المنطقة من أجل الحصول على اللؤلؤ. فلم يكد يصل عقد الأربعينيات من القرن العشرين حتى كان اللؤلؤ المزروع في اليابان صاحب الغلبة في تجارة اللؤلؤ الدولية، ولم تعد حرفة الغوص على اللؤلؤ في الخليج العربي تؤتي العائد المأمول منها، فانصرف الناس إلى النعمة الجديدة التي أفاء الله بها على سكان الخليج، فشرعوا في العمل في حقول النفط والمناشط الحضارية التي استتبعت ظهوره.
وقد حفزني لتوثيق عصر اللؤلؤ ما سمعته من قصص كثيرة رواها لي والدي ـ رحمه الله ـ وهو ممن عاش الحقبة الأخيرة لذلك العصر، فقد امتهن حرفة الغوص مع كثير من أبناء جيله، وعرفت منه مقدار المعاناة والأخطار التي كانوا يواجهونها مدة أشهر الصيف الطويلة أملاً في الحصول ـ من بين آلاف المحار ـ على لؤلؤة يسد ثمنها بعض مطالب الحياة في بلدهم. وكان في إمكانهم أن يتركوا هذه الحرفة المتعبة، ويلجؤوا إلى بعض البلاد المجاورة حيث الأنهار والمزارع التي لا يتطلب العيش في رحابها مثل تلك المعاناة، إلا أن حب الوطن جعلهم يحرصون على أرضهم الطيبة، ويتشبثون بها، ويقبلون كل صعب في سبيل البقاء على ثراها.
وفي سبيل توثيق ذلك العصر بدأت منذ أكثر من ربع قرن في تجميع كل ما يقع تحت يدي عن اللؤلؤ قديماً وحديثاً، كما اطلعت خلال هذه الفترة على مئات المصادر والمراجع، فلما تجمعت لدي مادة طيبة حول ((الغوص على اللؤلؤ في المصادر العربية القديمة)) قمت بنشر كتابي الذي حمل العنوان المذكور وذلك عام 1973م. وقد شجعني على المضي في متابعة دراسة هذا الموضوع ما وجده الكتاب من صدى طيب لدى عدد من العلماء والباحثين. فكان أن تابعت جمع المادة العلمية عن اللؤلؤ بشكل عام، وقد أتيحت لي فرصة قضاء فترة في مكتبة جامعة كمبردج البريطانية حيث تيسر لي الاطلاع على عشرات الكتب الأجنبية التي تناولت موضوع اللؤلؤ حتى توافرت لدي مادة مضاعفة تعدت في المضمون ما ورد في المصادر العربية القديمة إلى ما ورد في التراث اليوناني والمصادر الأوروبية الوسطية، إضافة إلى الدراسات الحديثة. وصولاً إلى زراعة اللؤلؤ في بداية هذا القرن والتقنيات الحديثة التي أدت إلى اختفاء صورة حرفة الغوص على اللؤلؤ وتنظيماتها التي استمرت على مدى قرون في منطقة الخليج العربي والبحار الدافئة في مختلف أنحاء العالم.
وقد صدر هذا الكتاب في صورته الجديدة عام 1998م وأسميته ((كتاب اللؤلؤ)) لاشتماله على ما قد يحتاج إليه القارئ من معرفة عن اللؤلؤ، ذلك الجوهر الجميل الذي أثار اهتمام الناس ومشاعرهم قروناً طويلة، فقد كان موحياً للشعراء ومطلباً ملحاً للملوك والكبراء، شغل الفقراء بالبحث عنه في لجج البحار، وشغل العلماء بالبحث عن سر تكوينه ونشأته، حتى إذا ما توصلوا إلى ذلك تلاشت تلك الصورة الشاعرية التي أحاطت بنشأة اللؤلؤ، كما اختفت صورة الغواص الذي يكدح بين الأمل والرجاء عدة اشهر في السنة في سبيل الحصول على الدرة ((رغيبة الدهر)) التي قال في وصفها المسيَّب بن علس:
حتى إذا ما ساء ظنُّهمُ
ومضى بهم شهر إلى شهر
ألقى مراسيه بتهلكة
ثبتت مراسيها فما تجري
فانصبّ اسقفُ رأسه لبد
نُزعت رباعيتاه للصبر
أشغى يمج الزيت ملتمسٌ
ظمآن مُلتهبٌ من الفقر
قتلت أباه فقال أتبعه
أو أستفيد رغيبة الدهر
واختفى بذلك كله نظام اجتماعي واقتصادي كامل في منطقة الخليج العربي، وخليج منار في المحيط الهندي والبحر الأحمر وفي غيرها من المغاصات القديمة. ومع كل ذلك استمر اللؤلؤ في ظل الصناعة الجديدة المعتمدة على زراعة اللؤلؤ واحداً من أهم الحلي التي تشيء أعناق النساء في العالم.
وخلال إعدادي لهذا العمل وقبله وبعده نشرت العديد من البحوث وألقيت الكثير من المحاضرات التي تناولت الفكر الجغرافي العربي رغبة في تأصيل ذلك الفكر، وتوثيق صلة طلبة البحث بمصادره ومعطياته العلمية. وقد تنوّعت تلك البحوث، فمنها ما يتصل بتقويم الدراسات المتعلقة بالتراث الجغرافي، وتقدير مدى الحاجة إلى إعادة نشر الكتب التي سبق تحقيقها ونشرها في القرنين الماضيين، وإبداء الرأي في بعض الكتب التي تم تحقيقها في العقود الثلاثة الأخيرة، وبيان دور الجغرافي المختص في تحقيق النصوص وتحليلها والإفادة من مصطلحاتها ومصوراتها الجغرافية القديمة.
وتناولت تلك الدراسات بعض القضايا المتخصصة مثل:
ـ تبادل اليابس والماء ـ الأصول اليونانية والإضافات العربية.
ـ آطام النيران أو البراكين في التراث العربي.
ـ استنباط المصطلحات الجغرافية للأشكال الأرضية.
وجميع تلك الدراسات وغيرها مما لم أذكره هنا ـ تستهدف وضع منهج لدراسة التراث الجغرافي العربي من حيث الأفكار والنظريات أو الأشكال الأرضية التي عالجها ذلك التراث، مع التركيز في كل ذلك على أهمية دراسة المصطلح الجغرافي، سواء ما جاء في كتب التراث العربي بعامة أو من خلال الدراسة الميدانية أو من خلال التعريب الذي ينبغي أن يبنى على دراسة متأنية تأخذ في اعتبارها جميع العوامل المؤثرة في وضع المصطلح، والتي شرحت في الدراسات المذكورة بالتفصيل.
وتحت الطبع الآن جانب من تلك الدراسات جُمعتْ معاً رغبة في إتاحتها للباحثين بشكل مناسب، وستصدر تحت عنوان ((بحوث ومطالعات في التراث الجغرافي العربي)).
ثالثاً ـ المخطوطات الجغرافية العربية:
يعود اشتغالي بهذا الموضوع إلى فترة دراستي في القاهرة، حيث كنت أتردد باستمرار على معهد المخطوطات العربية، وقد وجدت من الباحثين في ذلك المعهد آنذاك كل تشجيع، وأخص منهم أخاً كريماً كان من أعلام معهد المخطوطات العربية في الستينيات والسبعينيات هو المرحوم الأستاذ محمد رشاد عبد المطلب الذي كان آية في معرفة المخطوطات العربية ونوادرها ومظانها المختلفة. لقد سعدت بمعرفته واستفدت من علمه الكثير وكان رحمه الله عفيفاً كريماً طيب القلب. وقد تمنيت عليه مراراً أن يسجل ملاحظاته ومعلوماته التي تحوي الكثير من الاستدراكات على كتاب بروكلمان. وكان الكثير من المستشرقين ومراكز الدراسات العربية في مختلف أنحاء العالم يقدرون رشاد عبد المطلب ويبعثون بطلابهم إليه ليستفيدوا من خبرته. ومع ذلك فلم يكن له حظ في بلاده وقديماً قالوا: ((زامر الحي لا يطرب)).
وصلة بموضوع المخطوطات قمت بجولة استغرقت نحو ثلاثة أشهر في أوائل عام 1971م حيث زرت كلاً من لندن وباريس ومدريد والرباط وتونس للتعرف على المخطوطات الجغرافية وقضيت في مكتبة المتحف البريطاني نحو شهرين. وقد كانت من أنفس المكتبات الأوروبية في ذلك الوقت حيث اطلعت على عدد كبير من المخطوطات الجغرافية العربية وسجلت الكثير من الملاحظات وصفاً واستدراكاً وتعليقاً. وقد نشرت ذلك في صورة تقرير في مجلة معهد المخطوطات العربية الصادرة في القاهرة في نوفمبر 1971م وفي عام 1977م عَهدَ إليَّ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب أن أتولى إنشاء قسم للتراث العربي بالمجلس وكجزء من الإعداد لهذا القسم قمت بزيارة إلى لندن صوَّرت فيها معظم فهارس المخطوطات العربية المحفوظة في مكتبة المتحف البريطاني ومكتبة كلية الدراسات الإفريقية والآسيوية (SOAS) بالإضافة إلى منتخبات لعديد من المخطوطات العربية والمراجع التي لا بد منها لقسم التراث. واقتطعت جزءاً من الوقت لأستكمل ما فاتني الاطلاع عليه من المخطوطات الجغرافية العربية، فأتممت إعداد فهرس لمعظم المخطوطات الجغرافية المحفوظة في مكتبة المتحف، وتم طبع ذلك في كتاب مستقل نشر ضمن إصدارات قسم التراث العربي عام 1980م.
وبعد مضي نحو عشرين عاماً على إصدار الكتاب رأيت أن أعيد النظر فيه، بخاصة وقد تغير وضع مكتبة المتحف البريطاني، حيث انضمت مع مكتبة الهند India Offce وأصبح الاسم الجديد الذي ينبغي أن يشار إليه هو المكتبة البريطانية. وفي صيف عام 1999م قمت بعدة زيارات للمكتبة المذكورة وراجعت بعض ما كان محل شك عندي، وأضفت المخطوطات الجغرافية التي كانت محفوظة في مكتبة الهند. وقد رأيت زيادة في الفائدة أن أضيف إلى هذا العمل المخطوطات الجغرافية المحفوظة في مكتبة جامعة كامبردج، وهي واحدة من أغنى المكتبات البريطانية في مصادر التراث العربي المخطوط، وقد ساعدتني زياراتي السنوية للمكتبة المذكورة التي امتدت أكثر من خمسة وعشرين عاماً على أن أنجز هذا العمل على النحو المأمول الذي توخيته. وقد أبقيت ملاحظاتي الموجزة الخاصة بما تحتويه المكتبة الأهلية في باريس من مخطوطات جغرافية معروضة في هذا الكتاب، وهو أمر لا شك في فائدته لجمهرة المهتمين بالتراث الجغرافي العربي. وقد صدر الكتاب في نهاية عام 1999م تحت عنوان ((المخطوطات الجغرافية العربية في المكتبة البريطانية ومكتبة جامعة كامبردج)).
ومتابعة لعملي في هذا المجال وبدعوة كريمة من مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية في جامعة أوكسفورد البريطانية قضيت صيف عام 2002م أستاذاً زائراً للمركز المذكور، وقد أتاح لي الأخ الكريم البرفسور فرحان نظامي رئيس المركز أن أقوم خلال هذه الزيارة بدراسة المخطوطات الجغرافية العربية المحفوظة في مكتبة البودليان، وهي من المكتبات العريقة التي تحتفظ خزانتها بآلاف من المخطوطات العربية والشرقية بوجه عام.
وقد قضيت نحو ثلاثة أشهر كاملة في البحث والاطلاع على المخطوطات الجغرافية العربية، وساعدتني كثيراً على إنجاز مهمتي هذه صلتي القديمة والوثيقة بهذا الموضوع من خلال تخصصي العلمي من جهة، ومعرفتي بالمخطوطات العربية المحفوظة في كل من المكتبة البريطانية، ومكتبة جامعة كمبردج، والمكتبة الأهلية في باريس.
وقد يرى البعض أن مثل هذه الدراسة التي قمت بها قد حظيت بجهود بعض المستشرقين والباحثين، ومن ثم فهي قد تكون نوعاً من التكرار في مجال بحث سبقني إليه غيري، ولكن الواقع أن مثل هذه الدراسة التفصيلية لكثير من محتويات هذه المخطوطات قد كشفت عن الكثير من الجوانب العلمية غير المسبوقة في هذا المجال، ومن أمثلة ذلك:
ـ أن الأعمال التي تحتفظ بها مكتبة البودليان من مؤلفات أحمد بن ماجد وأراجيزه لم يتم استخدامها أو الإفادة منها أو التعريف بها من قِبَل جميع الذين اهتموا بنشر تراث ابن ماجد من المستشرقين والعرب على حد سواء. وبعض الأراجيز والقصائد لم تعرف أو تنشر في أي مكان على الرغم من اهتمام المستشرقين والعرب بأعمال ابن ماجد ومخطوطاته في كثير من بلدان العالم.
ـ كما أن الكتاب الذي يحمل عنوان ((إتحاف الأخصّا في فضائل المسجد الأقصى)) والمنسوب إلى المنهاجي الأسيوطي في فهرس المكتبة البودلية هو في واقع الأمر نسخة مهمة من كتاب ((فضائل بيت المقدس)) لأبي المعالي مشرف ابن المرجي من علماء القرن الخامس الهجري، علماً بأن الذي نشر الكتاب عام 1995م اعتمد على نسخة ظنَّها فريدة من الكتاب، وهي تلك المحفوظة في مكتبة (توبنجن) ونال عنها درجة الدكتوراه، ولو تيسر للباحث الاطلاع على نسخة (البودليان) لتفادى الكثير من التصحيفات والتحريفات التي وردت في مخطوطة (توبنجن).
وهذه بعض الأمثلة التي وردت في الدراسة المذكورة التي لا يمكن وصفها بأنها مجرد فهرس للمخطوطات فحسب، ولكنها تعريف موسّع بالكاتب والمخطوط، وبيان لقيمة المخطوط مقارنة بالنسخ الموجودة منه في مكتبات العالم، كما عنيت ـ الدراسة ـ كذلك بالكشف عن الدراسات التي كتبت عن هذه المخطوطات وما طبع منها مجزَّأً أو كاملاً، وأشارت إلى مدى الحاجة إلى طبعة جديدة في ضوء هذا التحليل والتوصيف الشامل.
وتنقسم الدراسة إلى عدة موضوعات تبدأ بتمهيد عن نشأة مكتبة البودليان، ثم التعريف بالمجموعة العربية المخطوطة، ومصادرها، مع التركيز على أهم الشخصيات التي أسهمت في جمع هذه المخطوطات وتقديمها إلى المكتبة بيعاً أو إهداء.
وكذلك معرفة الأسلوب الذي انتقلت به المخطوطات العربية من موطنها الأصلي إلى هذه المكتبة، مع بيان الجهود التي بذلت في سبيل ذلك. ثم يرد وصف المخطوطات ودراستها وفقاً للحقول الجغرافية المعروفة كالجغرافية الإقليمية والطبيعية وكتب البلدان والرحلات الجغرافية والمعاجم وغير ذلك، والكتاب الآن مهيأ للطباعة، وقد يصدر في غضون الشهرين القادمين تحت عنوان ((المخطوطات الجغرافية العربية في مكتبة البودليان)).
أيها الحفل الكريم:
هذا ما يسمح به الوقت الآن مما أراه دالاً على معالم الطريق الذي اخترت، والتوجه العلمي الذي هيأني الله له، وما أحسب ذلك كله إلا بتوفيق من الله وعون منه.
أرجو أن يكون وافياً بالهدف الذي تحدثت إليكم من أجله، ولا يسعني إلا أن أكرر الشكر والتقدير لكم جميعاً، والحمد لله رب العالمين.
معالي الدكتور محمود بن محمد سفر: شكراً جزيلاً لمعالي الأستاذ الدكتور عبد الله الغنيم على هذه السياحة العلمية القيمة ما بين طبوغرافية الأرض ولؤلؤ البحار والمخطوطات وأسرارها.
وصلتني أسئلة عامة في البداية ولكن بعد أن استرسل معالي الدكتور في كلمته وصلتني أسئلة متخصصة ونحن لن نستثني هذه من تلك ولكن سنتلوها مثل ما وردت وبحسب أولوياتها، ولكن قبل أن يبدأ عريف الحفل في قراءة الأسئلة أستأذن معالي الدكتور أن تكون إجاباته بقدر الإمكان مركزة ومختصرة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1578  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 119 من 252
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .