شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إنه... أبي!!

لأنه أبي

فهو الرجل الأنبل.

وهو الأكبر.

هو المثل.. والأمثل.

هو القدوة.. والأكرم.

هو الطيبة.. والأطيب.

هو الأعز.. والأحب

هو الأكبر.. وأنا الأصغر

هو الأشياء الكبرى.. وأنا الأشياء الصغرى

لأني مؤمن.. ولأني مسلم

فالله هو الكمال.. وهو الأكمل.

قال الشاعر: ((كل فتاة بأبيها معجبةٌ))!

سامحك الله ياشاعر.

قد كانت لك بنت تُعجبُ بك.

قلت كلاماً أبوياً فيه شعر.

والشعر، كلام كالأحلام.

سراب كالأضغاث.

أو أضغاث كالأحلام.

أسقطتَ من شعرك فتى.

هو بأبيه معجب.

وهو لأبيه الأجمل والأقرب.

وهو لأبيه الأحبَبْ.

هو اليوم له.. وغداً أكثر.

هو من أجله يشقى، يتعب.

ولأسقامه يتعذَّب.

ولأفراحه يستعذب.

من مثلك يا ابن الأب.

لو تعرف حبه لك أكثر من نفسه.

لا يوجد حبٌ للغير.. أغلى من حب الابن!!

معذرة إذا بدأت حديثي عن أبي شعراً، أو شيئاً كالشعر، كل ما يفتقده الإنسان، أو يخسره يمكن تعويضه إلا فقد الأب، وخسارته، ومهما قدَّمْتَ له في حياته فأنت الرابح، والأربح، وكلما تقدِّمه له في آخرته فهو زيادة على الربح، وعلى الأربح!!
لم يأت إلى الحياة وفي فمه ملعقة ألماس، رضع حليب الأم، لا اللبن المستورد، أكل التمر مع القهوة، شرب العسل بكثرة، عسلاً طبيعياً لا مستورداً، لم يعرف في حياته وجبة ((الساندوتش))، ولا وجبات علب مستوردة!!
عاش حياة طبيعية، حياة هادئة ساكنة، حياة لا تعرف الإحن والشحناء، أو الكذب والرياء، أو الخصومة والبغضاء، حياة يملؤها الأمن والإيمان، عاش حياته كأنه سيعيش أبداً، ويومه كأنه سيموت غداً.
بدأ حياته العملية من ((حانوت)) صغير، متواضع في موجوداته، كانت سلعته الكبرى التي عُرف بها في مدينته الصغيرة هو ((الصدق))، والتعامل مع زبائنه بكل صدق، وأسعار لا تقوم على الجشع، والطمع، والربح السريع، لأن حكمته في حياته كلها ما يأتي بسهولة، وبسرعة، يذهب، ويتلاشى بسرعة، وسهولة، والبقاء عنده للمتوسط، والأوسط، لم يكن يحلم كثيراً، كان واقعياً، لهذا عاش حياته مرتاح النفس، ينام مبكِّراً، ويصحو مع أذان الفجر، وصياح الديكة ((الفَجْرية)).
كان اعتماده على نفسه كبيراً، لهذا كان يطبخ ويتناول وجبات طعامه في حانوته الصغير بنفسه، لأن مواقيت عمله لا تتناسب مع مواقيت طعام الأسرة التي كان يعولها بعد وفاة أبيه وأمه قبل أن يشهد أيام مستقبله.
أمي، كانت صغيرة في السن قبل مرحلة سن الحجاب، أهلها من جيرانه الأقربين، حين نما عمله فتح حانوتاً أكبر، كثر زبائنه، زادت موجوداته، كل إخلاصه يتجسَّد في إيمانه العميق، وإخلاصه في عمله، وعيناه العاشقتان المحبتان بعذرية على أمي التي انقطعت عن المجيئ لحانوته للتسوق بعد أن شبَّت عن الطوق، وبلغت سن الرشد.
كانت تجمعه بأسرتها أواصر النسب، وعلاقات ((الجيرة))، تقدَّم لأهلها طالباً الزواج منها، وكان هناك خيط سري غير مرئي، ربطهما ببعض إسمه ((الإعجاب)) لا يسمونه كما هو حال اليوم ((الحب)) الذي ينشأ في غياب سلطة الأسرة، ورقابتها، ولأن حب اليوم ينشأ نشأة خاطئة مغلَّفة بالخداع، والخديعة، فإنه لا تقوم عليه علاقة طبيعية وينتهي بالطلاق، لأنها لم تكن علاقة إنسانية يباركها الله، والشرع، بل كانت مجرد ((نزوة)) خاضعة لسيطرة ((الغريزة الحيوانية))، وكلما ينشأ على خطأ، ينتهي بالخطأ!!
وكل علاقة تحكمها الخديعة، والخداع، لا تتحقق لها (( الديمومة ))، لقد انتهت علاقة الحب النبيلة في عصرنا بحيث تحوَّلت إلى نوع من ((الانحراف))، وبخاصة إذا كانت ((المصالح المادية)) تقف خلف هذه العلاقة الأنبل، والأسمى، والأجمل في حياة البشر!!
اجتمع أبي، وأمي بالزواج الذي كلما مرت به السنون، كبر فيه الحب، وتقوَّت وتوثَّقت خلالها عرى الارتباط القائم على التفاهم، والاحترام، ومعرفة كل طرف حقوقه، وواجباته الشرعية ديناً ودنيا.
يحدِّثني عن أمي التي انتقلت إلى رحمة الله، وأنا في الثانية من عمري ـ ودموعه تسبق حديثه حزناً عليها ـ قائلاً: إنه لم يحدث في أي يوم، أو ليلة خَلَقَت لي مشكلة، بل كنتُ أحياناً أخطئ في حقها عن غير قصد، وأمتنع عن الكلام معها، لكن لا تنام إلا من بعد أن تغسل ما علق بنفسي، فأقول لها، وأنا في حالة لا أستطيع وصفها لك: يفترض بصفتي المخطئ أن يكون الإعتذار من جانبي، فترد بكل ود وحنان الدنيا: لا فرق أن تعتذر لي أنت، أو اعتذر لك أنا فكل منا يكمل الآخر، نحن قلب واحد في جسدين!! وهي صادقة في مشاعرها لأنها لو لم تسبقني بالاعتذار، لاعتذرت لها أنا بنفسي، لكنها كانت تحسِّسني بأنني أب أبنائها، ورفيق عمرها، لقد عشتُ سنيناً طويلة من عمري معها هي أسعد وأغلى مراحل عمري التي لم، ولن أنساها ما حييت، ولا تتصور حجم الحزن الذي سيطر على عقلي، وروحي، وما يزال حتى ألحق بها، وقد لحق بها تغمدها الله بواسع رحمته، وأسكنهما فسيح جناته.
لا تتصوروا أنني برواية ما قاله أبي لي أمتدحها لأنها أمي، ذلك لأنني لم أعرفها، ولم أر حتى صورة ((فوتوغرافية)) لها، لعدم وجود ((كاميرات)) وقتها.. وأبي ليس في حاجة، وليس مطالباً بالحديث عنها بهذه الصورة الجميلة، فهو قد تزوَّج بعد وفاتها أربع مرات، كل ما يقوله عنهن إنهن لسن كمثلها، ولهذا كان الطلاق نهايتهن، دون أن يدخل في التفصيلات لأنه يرى أن العلاقات الزوجية علاقات مقدَّسة، يعاب الرجل على إفشائها، أو الحديث عنها!!
هذه صورة عن حياته العائلية، أما حياته العملية، فهو كما أسلفت اتجه إلى ((التجارة)) لإيمانه بأنها تسعة أعشار الرزق، كما جاء في الحديث الشريف، فبارك الله له في سعيه، وأصبح من التجار المعروفين، إلى حد أنه كان يستورد بضاعته من ((عدن)) على عصر الاستعمار الإنجليزي لها، وكانت بثغرها البحري الدولي (( المُعَلاّ )) مركزاً لاستيراد السلع من أوروبا، والهند، بواسطة البواخر الكبيرة، حيث تصدَّر هذه السلع إلى كل مناطق الجزيرة العربية، قبل توسعة ميناء ((جدة)) ثغر المدينتين المقدستين التاريخي (مكة المكرمة، والمدينة المنورة) في العهد السعودي.
ولأن مسيرة حياته ليس فيها ما يستحق الإشارة، اللهم إلا مزيداً من مشاعر وأحاسيس ابن نحو أبيه، وهي قاسم مشترك بين الأبناء، وآبائهم، فقد كان أباً حنوناً، عطوفاً، لم يبخل على أبنائه بشيء مما كان يمتلكه، وأختصر القول عنه إنه كان عصامياً كوَّن نفسه، وبنى مركزه الاجتماعي دون مساعدة أحد مع تمسكه الشديد بعقيدته الإسلامية وتعاليمها.
قد يسأل القارئ، وماذا عن تجارته؟ ورغم خصوصية السؤال إلا أنني لا أرى ما يمنع الحديث عنها، لقد كانت السلع التي يطلبها تأتي على سفن شراعية، قبل معرفة البواخر الكبيرة الحديثة، ولم تكن تُوجد شركات تأمين، ولو وُجدت لرفض التعامل معها انطلاقاً من إيمانه بقدر الله.
وقد أصيب بالنكسة الأولى حين تعرَّضت السفينة التي تحمل سلعه، وكلها من المواد الغذائية التي تتلف إذا تعرَّضت للماء، حين تعرَّضت للأمواج العاتية في وسط البحر، بحيث غطَّت مياهها ليس سلعه فحسب، بل سلع غيره، فخسرها، وكانت قيمتها تشكِّل نصف ثروته، فاستسلم لقدر الله وقضائه، وصلى ركعتين لله سبحانه وتعالى احتساباً، وامتثالاً!! وحين جمع بقية ما يمتلكه حَدَثَ ما حَدَثَ للسفينه الأولى، فعادت حياته كما بدأت إلى الصفر في الوقت الذي بلغ من العمر سناً لا تساعده على البداية من الصفر، وخوض تجربة تجارة تحتاج إلى دماء الشباب، وجهد الشباب، إضافة إلى أن ظروف المعاملات، والعلاقات التجارية، وماهيتها، وطرق أساليبها قد تغيَّرت، ومع كبر سنه أصيب بمرض ((الربو)) مما يتطلب عناية صحية خاصة، فأقنعناه بالخلود إلى الراحة، بعد أن أصبحنا نحن أولاده جميعاً موظفين وغير متزوجين ولنا دخولنا الطيبة، فنقلناه من مدينة ((جيزان))، إلى مدينة ((جدة)) لتوفر العناية الصحية من خلال إشراف طبيب خاص.
كان متفهِّماً لكل ما يحيط به فوافق عن قناعة، واقتناع متفرغاً لعبادة الخالق، وكان محل عناية ورعاية واهتمام أخي الذي يصغرني ((أحمد)) وبالنسبة لي فقد كانت التزاماتي العملية، والصحافية، والأدبية لا تسمح لي بالانتقال إلى ((جدة)) فبقيتُ في ((الرياض))، وأقضي إجازتي في جدة بجواره.
وفي أحد الأيام من عام 1392هـ كما أذكر، كنتُ يومها خارجاً للتو من المستشفى بعد إجراء عملية استئصال (( اللوزتين ))، رنَّ جرس هاتف شقتي قبل أن أخلع ملابسي الخارجية، وحين رفعتُ السماعة إذا بأحد الأصدقاء لا ينقل لي خبراً، وإنما أنزل عليَّ صاعقة زلزت كياني، وأرتعدت لها مفاصلي، شعرتُ بداور عنيف يلف رأسي، لقد انتقل أبي إلى رحمة الله، فانتقلت معه روح الشباب المرحة، وافترش الحزن نفسي، وطريقي في الحياة كما يقول شاعر، وبعد أن أفتقدتُ أبي لم يعد يهمني، ولا يقلقني ما أفقده في حياتي، كَبُرَ، أم صَغُرَ، وقد حضرتُ دفنه في مقبرة (( الأسد )) بجدة داعياً الله أن يتغمده بواسع مغفرته، وينزل عليه شآبيب رحمته، ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، ومثل ذلك لأمي التي رحلت إلى الأبد، قبل أن أعرف ((الرحيل الأبدي))، وهذا الدعاء بعض من أبعاض ما أسعى للقيام به في السر والعلن، سائلاً الله مرة أخرى أن يكونا راضيين عني، وعن جميع أخواني، وأخواتي.
كان في حياته كأي أب يحلم أن يرى أبناءه على مستوى رفيع من العلم، وأن يكونوا في مجتمعهم نجوماً متلألئة بالنور، وعلامات لها دورها الفاعل المؤِّثر في مفاصل هذه المجتمع، فهو رغم تواضع تعليمه، وسعة رزقه، وكبر حجم تجارته، لم يدر بخلده أن يُعْرَف أبناؤه، من خلال مواقعهم المالية، وكبر أحجام تجارتهم، لأنه بحكم التجربة التي مرَّ بها في حياته أدرك أن المال مصيره الزوال، والتجارة لا تدوم، إذن ما البديل؟
البديل عنده في (( العلم والتعليم )) ، كان يردِّد دائماً حكمة خالدة تقول (( المال تحرسه، والعلم يحرسك )) ، كأنه يريد أن يقول من خلال هذه الحكمةإن العلم يخلد بخلود صاحبه، بل يذهب به معه إلى القبر، العلم لا تخشى عليه من السطو، والحيلة، والاحتيال، ولا يتعرَّض إلى (( الرشوة والإرتشاء )) ، أو التعامل بالربا!!
العلم يجعل الآخرين يتعاملون معك لذاتك، لا لمالك، والعِلم نسب من لا نسب له، والإنسان بعلمه لا بماله، ووجاهته المادية.
إن في العالم ملايين الأغنياء، وأصحاب الثروات الطائلة لكنهم غير سعداء في حياتهم، وبعضهم لا يعرف النوم إلا بواسطة ((الحبوب المهدِّئة)) لأن عقولهم مزحومة بالأرقام، مسكونة بالصفقات التجارية، وهم في حالة سفر دائم من بلد إلى آخر، محرومين من متعة العيش مع أسرهم، وأطفالهم الذين يحسون باليتم بسبب الغياب المستمر.
إنها حكمة بالغة الأثر، والتأثير، ولها دلالاتها، وأبعادها في حياتي، وأحرص على غرسها في أذهان أبنائي بالقول، والعمل، فالعلم (( خزانة )) مغلقة مفتاحها الأوحد (( القراءاة والقراءة، والقراءة )) دون كلل أو ملل، ولكلٍ من جهده نصيب.
بعد وفاته مباشرة كان الحزن الحزين يجثم على صدري بأثقاله.. وتفكيري يتنازعه الألم الأليم بعنفه.. يكبِّل نشاطه بسلاسل من حديد، فلم أستطع أن أكتب عن مصابي الجلل بفقده، إلا بعد مرور عام، فالمصيبة تبدأ كبيرة، ثم تصغر بمرور الزمن.
لهذا فقد صوَّرت مشاعري الصادقة في كلمة بعنوان ((وداعاً.. يا حبيب)) نُشرت في جريدة ((عكاظ)) بتاريخ 20/9/1394هـ ضممتها إلى كتابي (يا زمان العجائب) ص 146 ـ 149، الصادر عام 1409هـ الموافق 1989م عن (دار الصافي للثقافة والنشر بالرياض) ط (1).. وهذا نص الكلمة المسكونة بالحزن، المغسولة بالألم، المتدثِّرة بالكمد.
* * *
والموت نقَّادٌ على كفِّه
جواهرٌ يختار منها الجِيَاد
رحلت عنها أيها الفارس، أتعبت فرسك ولم تتعب!!
غاب عنا وجهك إلى الأبد، لم يبق لنا وجه كوجهك الناصع بالصدق، وحب الناس، فأطلقوا عليك (( ياحبيب )).
كضيف رحلتَ بسرعة، تركتَ الدار وأهله يرددون مع السمَّار حكاية هذا الضيف الرائع الذي خلَّف وراءه الشوق، والقلوب الملتاعة.
فرحان جذلان رحلتَ، ساقاك الشوق، صدرك الإيمان، وعيناك الحب والفرح. لم تشا أن يشهد رحيلك أحد، حتى أخي الصغير طلبت إليه أن يذهب ليدعوني إليك بواسطة هاتف الجيران، كأنك لا ترغب أن يرى لقاءك بالموت، لا تريد له الهلع والفزع!!
أخي الصغير هذا قال لي حين جئتُ من (( الرياض )) إلى (( جدة )) كطائر مقصوص الجناحين مهزوماً: أنظر ـ وكان يشير إلى جثمانك الطاهر المسجى على السرير ـ لقد مات أبونا، لم يعد لي أباً أضع رأسي على صدره في هذه الحياة، أصبحتُ يتيماً، أنظر هذه آثار يده ما تزال على ساعدي حين أمسك به وطلب إليَّ في حنان ومودة أن أدعوك بالهاتف لتحضر من الرياض إلى جدة التي شهدت موته!!
ضممتُ أخي، الصغير إلى صدري، وعيناي مسمرتان على جثمان والدي، وخيول الحزن تعبثُ بغبار حوافرها في صدري، لقد كان الموقف مهيباً وجللاً يهد الجبال الشم، لكنني تصبَّرت بالإيمان، ووقفتُ على رجليَّ بالإيمان، قوتي الإيمان، واحتمالي الموقف الرهيب بالإيمان، فما أحوجنا إلى الإيمان، والتحلي بالصبر في مواقف الشدة!!
قلت لأخي الصغير: إن أبانا لم يمت، لقد ذهب للقاء ربه، كان منذ زمن بعيد يمنيّ نفسه بهذه الرحلة لأنه أعد لها العدة عبادات وأعمالاً صالحات.
ردَّا أخي الصغير في براءة الأطفال: ولِمَ لم يأخذنا معه؟
قلتُ له: سوف يكون ذلك في المستقبل حين يدعوك ربك لملاقاته أملاً في أن تكون مؤمناً كأبيك، صالحاً فاضلاً تقياً مثله إن شاء الله.
توقَّف أخي الصغير عن أسئلته، التصق بي أكثر، لم يتركني قائلاً: أنت بعد اليوم أب لي!! حين قال ذلك شعرت بعبء وثقل المسؤولية والأمانة اللتين حملنيها.
سرحت بي الأفكار، تصوَّرتُ نفسي ـ أبتاه ـ طفلاً لم يبلغ الثانية من عمره حين رحلت أمي إلى دار الآخرة، لم أكن أدرك شيئاً من وما حولي، لكنني تصوَّرتُ موقفك جيشاً من الحزن، وأطناناً من القهر تسكن قلبك الكبير المؤمن بقدر الله وقدرته.
تصوَّرتُ ذلك، دارت بي الأرض، كدتُ أقع، أحسست أن الأرض سُحبت من تحت قدمي، وأنني معلق في الهواء، فإذا بصوتك ـ كما خيّل إليّ ـ يأتيني مشرقاً في جلال الرجال الصالحين الأقوياء ليقول لي: الرجال ـ يا بني الغالي ـ يحزنون لكنهم لا يقعون، المؤمنون لا تضعفهم المصائب، بل تزيدهم ثباتاً وقوة ))!!
صحوتُ، انتصرتُ على لحظة ضعفي، لكن أخي الصغير ما يزال متشبثاً بصدري.
ياحبيب:
كلمة كنتُ تدعو بها الناس كلهم، فأصبحت هذه الصفة (( يا حبيب )) يناديك بها الناس، الأقربون والأبعدون، فقد فتحتَ عيوننا ـ نحن أبناءك ـ على الحب، علَّمتنا كيف نحب الجميع، كيف نسامح، كيف لا نحقد، وكيف نكون رجالاً في مواقفنا.
علَّمتنا أن الرجال مواقف ومعادن، منها الجيد، ومنها الرديىء، وأن نتعامل مع الآخرين كما هم عليه، لا كما نريد نحن، لأن الناس نزعات ومشارب مختلفة حيناً، ومتضادة أحياناً آخر!!
يا حبيب:
ذهبتَ تحمل جنازتك قلوب أحبتك عن صدق، ودَّعتك في حزن صامت، سارت بك على أكتافهم وهاماتهم تسبقهم عبارة إيمانية روحانية (( لا إله إلاَّ الله، الحي الدائم إلا الله )).
لم تكن زعيماً، ولا قائداً مشهوراً تتناقل وكالات الأنباء العالمية، والإذاعات والصحف الدولية خبر وفاتك، لكنك كنتَ في حياتك زعامة (( رجل )) وأخلاق (( سيِّد )) بين أبنائك وأهلك وأصدقائك ومحبيك وعشيرتك.
جنازتك لم يسر خلفها زعيم أو قائد أو أمير، لكن حملتها كل القلوب التي أحببتها، كل القلوب التي أحبَّتك، كانت مسيرة جنازتك تركض مسرعة كأنها ذاهبة إلى عرس!!
خيِّل إليَّ وقتها وأنا أسير مع السائرين أن زرافات من العصافير والحمام البيض تحلِّق فوق جنازتك، كنتُ أسمع تغريدها، لا أدري من أين جاءت، ولماذا جاءت؟ والسماء كانت يغطيها الغيم الذي حجب الشمس، ولطَّف من حرارتها!!
أصوات العصافير، وتغريد الحمام البيض كانت كالفرح، شكلها كالفرح، ترى هل ضقتَ بدنياك كي يكون رحيلك الأبدي أشبه بالفرح؟
إذا كنتَ قد رحلت فقد تركتَ لبلادك وأمتك رجالاً يحملون أحلامك ومواقفك، ويسعون أن يكونوا خير خلف لخير سلف.
هؤلاء الرجال هم أبناؤك الذين زرعتَ في حقول نفوسهم شتلات الخير، وفي بيادر قلوبهم سنابل العطاء المثمر، وعلى صفحات عقولهم قيم النبل والكرم والتسامح.
حزنتُ، وحزنتُ ـ أبتاه ـ وليس للرجال في الشدائد إلا الحزن على الرجال أمثالك !!
الحزن قدرنا، نأتي إلى الحياة فلتطمنا بأحزانها، ونودِّعها تشيِّعنا صفعات الحزن المبرقة المرعدة!!
لك الله ـ أبتاه ـ ومغفرته التي وسُعت كل شيء، فقد كنت رجلاً من الصالحين، والصالحون لهم الجنة، والله على كل شيء قدير.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :731  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.