شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أول الحوار!
تتراكم الخفقات في صدور الناس وتهدأ.. كالحزن البارد في عمر الذين تحولت أشواقهم إلى رخام، وتطلعاتهم إلى ذاكرة صدئة!
يصبح توالد الأشياء أكثر صعوبة من تاكيد الصدق، ونقاء الفكر.
تكثفت الدهشة في وعي الإنسان حتى تحولت إلى اعتياد محترق..
في الأذهان الآن.. لم تعد الروح هي الانبعاث الإنساني المتجدد.. الذي يصهر الشعور، ويتألق بالمعاني إلى ذوق العشق، والتأمل للحياة بما تنميه أواصر الإنسان بالإنسان!
ذلك محور فكري تعيس.. قبل أن يكون معطيات عاطفة إنسانية متألقة..
ذلك يكون هو الصوت والصدى الذي يضيع في فلاة العمر..
العالم لا يمارس العبث، ولكنه يبتكره.. ثم يضيع فيه!!
ولقد حاولوا أن يناقشوا أسباب غياب الفكر، وانسحاق الإبداع بالمعاني التي يطمح إليها الإنسان استشراقاً لحياة الفرح..
فهل فقد الإنسان معطيات روحه؟!
هل ترمدت تطلعاته.. فلم يعد قادراً على التطلع والتعبير؟!
هل أصبحت الماديات وحدها هي التي تصب متاعبها في صدر الإنسان، وفي ترجمة لغته، وفي حضوره؟!
وكيف تتحدد مشاعر الناس.. متجاوزة غربة الروح.. متفرقة على ألوان الارتطامات النفسية بسبب الانشغال المريع بالماديات؟!
لقد اتحد الحزن في مشاعر رجال زحف العمر بهم إلى الشيخوخة، فالتقوا ذات مساء تحت سقف بيت ريفي: عازف بيانو، وشاعر، وكاتب قصة، ورسام، وممثل قديم في السينما، وحارس متقاعد كان يعمل من بداية المساء حتى الصباح حارساً في حديقة ((الهايدبارك)) قبل أن يضاجعها العنف بالقنابل، وعندما كانت ملتقى الحوار الديمقراطي .. فكان الحارس الذي يحافظ على العشب من عبث الواطئين عليه.
وابتدأ حوار غريب.. لكنه ممتع:
* * *
ـ قال عازف البيانو: كنت في عنفوان شبابي أدخل إلى الصالونات الفخمة، وبمثل ما ألحظه من ترف في الأثاث والديكور.. كان أيضاً هناك ترف ينضح من وجوه الذين اجتمعوا في الصالون.. كان التهذيب لمحة تطول في الانطباع.. حتى إذا بدأت العزف كان إصغاؤهم فناً يضاهي براعتي الفنية في العزف.. ذلك لأنهم يفهمون معنى أن يرتفع صوت ((النغم)) فيجذب اهتمامهم ويحلق بمشاعرهم، فكأن كل أذن لحظتها هي (ريكوردر) يحتفظ بالقطعة الموسيقية ويعيدها لأنها غذاء روحه. أما اليوم.. فإنني لا أطيق هذا الصراخ الذي يسمونه موسيقى، إن الإنسان يجن.. تسمعه يغني كأنه يشتم أذنك، ويوتر أعصابك، وأصبحت الجملة الموسيقية لا أكثر من خناقة في منتصف حي ((سوهو))!.. لقد أهدرت القيمة التي تعطيها الموسيقى لوجدان الإنسان!!
* * *
ـ وقال الشاعر: أشعر أن كلماتي تتوهج في الصدر كالجمر، لكن.. لم يعد هناك من يسمعها.. من يشاركني احتراق الصدر.. ليس لأن كلماتي لم تعد تجذب إصغاء الناس، وإنما لأن آذانهم بعيدة جداً عن صدورهم، إن الناس اليوم أهملوا الإصغاء إلى الداخل.. وركزوا إنصاتهم لكل ما يدور في خارجهم ومن حولهم. إنني أقرأ لشعراء من الشباب، فأحس أنهم يضاجعون الكلمة دون أن يعرفونها.. كأن الكلمة لا أكثر من ((مومس)) تهدئ غرائزهم فقط في حدة الانفعالات، وقد كانت الكلمة هي فضيلة التفكير.. يهمس بها الشاعر فتلتئم جراح النفس. إن شعراء اليوم لا يبحثون عن التراث. لقد كنا نعتقد بعد انتهاء الحرب العالمية، وشبابنا في توجهه، إننا نبتكر غرابة لا يرضى عنها جيل آبائنا، وكنا نتطلع إلى عدة حركات تجديدية استقلالية في التعبير، وظهرت السريالية، والدادائية، والتكعيبية والمستقبلية. لكن ما نقرأه الآن هو ((تصدع)) في كل الحركات التجديدية، وفي نفسية الجيل ذاته. إنهم ينفلشون، ثم لا يجمعهم عمق، وإنني أتلفت حولي فأستغرب أن لا يطلع من تحت ركام القلق العالمي، ومن خلف التغرب النفسي شاعر مبدع يكسو الكلمة بمعنى من الحس، ومن التجربة، ومن الانصهار في أوجاع العالم، حتى دواوين الشعر قليلة، والصحف والمجلات المتخصصة تحاول - بركاكة - أن تصعد بموهبة جديدة.. ما تلبث أن تنطوي!
* * *
ـ وقال كاتب القصة: أعتقد أننا نجنح إلى المغالاة قليلاً في التصور. فليس العالم كله من المجانين، والمرضى، والمذعورين من المفاجآت. صحيح أن أوروبا، وأمريكا يعاني جيليهما من حدة الرفض للموروثات والتقليد، ولكن هذه المواقف يستطيع الكاتب الفنان أن يعكسها. القصة مثلاً من الممكن أن نعتبرها الآن تعيش أزهى فترة ((تحشيد)).. ذلك لأن هذه الفترة التي نحياها تفيض رؤى وشواهد، وتحتوي على ((مادة)) جيدة لكتابة القصة. قد تقولون: نحن لا نختلف في هذا ولكننا نبحث عن كاتب القصة الجيد، وسأجيبكم: بأن القصة ربما كانت هي ((الفن)) المحفوظ الذي ما زال يتطور، وينضج كتّاباً مبدعين. إن في العالم بعض الذين أجادوا في هذ الفن، ولكن ربما تخلخلت الرؤية واهتزت عندهم لمظاهر العنف التي يتسم بها هذا العصر، ودورهم هو أن يصوروا هذه المعاناة.
ولكن كيف ارتفع بالإبداع. وأنتج أكثر.. إذا كانت الصحف تدلل الكاتب السياسي وتمنحه مكافأة أكبر.. لأن القراء يهمهم التحليل السياسي.. مفضلاً على القصة، أو القصيدة. إنهم بالضرورة يتلفتون إلى أوجاع الإنسان في هذا الزخم الهائل من الكوارث والحروب. والتفكك الاجتماعي!!
* * *
ـ وقال الرسام: ما قاله كاتب القصة يدفعني لمزيد من الإصغاء. هناك موقف أرغب أن أحدده، وهو ملتصق بالقارئ، أو الباحث عن الفكر والفن.. ذلك هو ((الانغماس)) الغامر في جنون البحث عن حقيقة، والركض وراء ((الحدة)) ذاتها، وأعطيكم مثالاً: فأنا أرسم لوحة لمنظر طبيعي يبقى معلقاً على الحائط حتى يهن خيط الإطار.. بينما أرسم امرأة عارية وأطلب فيها المبلغ الذي أفرضه. لا أقول إن هذا هو الجنوح عن طبيعة الإنسان، ولكنني أرى أنه تفريغ اللذة من المعنى وحصرها في الممارسة الواقعية، وربما كان وجه المرأة الذي رسمت قبيحاً.. لكن الإثارة هي سمة العصر، فإذا أردت توضيح شيء، أو تعميمه فالوسيلة هي الإثارة.. أن تفضح ما تريد فيحدث الضجيج. بمعنى أن ((الروح)) في الإنسان قد تبلدت حتى أصبحت لا أكثر من نبض وشرايين. ذلك يعني - أيضاً - أن الفنان نفسه قد سقط في فخ قاتل.. بانسياقه وراء المطالب المادية، فإذا لم أقبض ثمن اللوحة ربما بقيت جائعاً، فلا بد أن أرسم ما تريده انفعالات الناس، وربما - أيضاً - أن الفنان في جيل ما قبلنا يحتمل فراغ جيبه ومعدته ولكن القسوة عليه أن يفرغ وجدانه من الحس، ومن الإصرار على تنبيه الناس إلى ما يحترق في أعماقهم!!
* * *
ـ وقال ممثل السينما: أعتقد أن الهجوم لا بد أن يتركز أغلبه على السينما.. فهي أقرب وسائل التوعية إلى أذهان ومشاعر الناس. لقد مثلت ما ينوف على المائة فيلم.. سقط القليل منها ونجح الأكثر، ولم يكن مرتكز أفلامنا العري كما نشاهد اليوم، فلا بد أن نخاطب عقول ووجدان الناس، ولا نخاطب غرائزهم بل نرتفع بها إلى معنى الترابط الإنساني. كما نمثل القصة العاطفية والتاريخية بنزاهة وبإحساس.
الآن ((يمارسون)) خصوصيات الإنسان علنا لمزيد من احتقار الإنسان!
وإلا... فهل ترضى أية امرأة أن تكون - فقط - متعة للغريزة.. هل هذا دورها الوحيد؟!!
السينما تشير إلى ذلك رغم سعي المرأة الحثيث إلى أن تكون رئيسة الدولة، ورئيس العمل، ومع ذلك فإنك تشاهد النساء في صالات عرض الأفلام يقبلن على هذا التشويه لوظائفهن الإنسانية. إنني أشير إلى فيلم ((قصة حب)) وكان متفوقاً.. متحديا لكل موجات الجنس والتقليعات الآن، ونجح الفيلم.. لأنه جاء هزة لضمير ووعي الإنسان. وحاربوه لأنه يفسد الحقيقة المادية البحتة. حتى الأفلام التاريخية تبدو خاضعة للسياسة فتشوه التاريخ لأن ((الممول)) للفيلم يقصد فكرة عقائدية. والشيء الذي يدعو إلى السخرية أكثر أن يحرص هؤلاء الذين يصنعون الأفلام على اختيار أنثى مثيرة للجنس بدل أن يختار قصة جيدة تعالج بعض ما يخذل تطلعات الإنسان ويسحقه!!
* * *
ـ وتنهد حارس حديقة ((الهايد بارك)) المتقاعد، وصمت قليلاً، ثم قال: يخيل إلي أنكم تبعثون من قبوركم!... كأن هذا العصر ليس عصركم، وإنكم خارج الزمن. إن كل ما ناقشتموه يبقى - في كل الأحوال ، مسئوليتكم، فإن العمل المبدع هو الذي يجذب إليه الإصغاء والتأمل والانتصار له.
لو ثابرتم على إعطاء مزيد من العمل الأدبي والفني المبدع فأنتم بذلك تحاربون كل هذه التشوهات. قبلنا جاءت أجيال مليئة بالأخطاء وبالتصدع.. وكان دور المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين عظيماً ومؤثراً. إنني رجل أقرب إلى ((الأمية)) إذا قورن تفكيري بتفكيركم.. لكن عملي كحارس لحديقة ((هايد بارك)) جعلني أقرأ كثيراً في الكتب والصحف، وفي وجوه الناس. هل أذكركم بمن سمّوه في أمريكا بـ ((المواطن توم بين))؟!.. لقد جاء بعد صراع، وتصدع.. بعد الحروب الأهلية، وخلف ((إبراهام لنكولن)) وبعد أزمة العبيد وتحريرهم، أقسى زمن.. يفوق ما عانينا أثناء الحرب العالمية.. لكنه استطاع أن يؤثر في الناس بإصراره وثقافته وبراعته في الحوار والإقناع، وأصبحت كلمات ((توم بين)) شمعة أضاءت للأجيال. هذا دوركم ، فلا بد أن يتعرض الناس لهزات، وإذا كانت المادة هي السائدة الآن، فلأن الماديين أذكياء ولأن الفلوس ذكية ولكن الفكر والفن هما أذكى من المادة إذا نجحا في شق عقول الناس.. بمعنى أن كل جيل يأتي بملامحه ومتطلباته، لكن الفكر والفن هما الوسيلة لصقل الإنسان وتهذيبه.
لقد عملت حارساً في حديقة ((هايد بارك)). وقبل ثلاثين عاماً.. كنت أفعل مثل هؤلاء الشباب، ولكن بوعي، وباعتبارات إنسانية وعقلانية تصهرني كإنسان. إنني معكم أن السياسة أحرقت صدور الشباب، وزرعت فيها القلق، والحيرة. مثلاً: ترى في الشارع فتى وفتاة يتعانقان بوقاحة، الحركة هي شيء طبيعي، ولكن ليس أمام الناس.. فهذا زمن الوقاحة، أو زمن وقح.. وكيف ينجح الأديب والفنان في التوعية؟!.. إنني رجل ((أمي)) لا أقدر أن أقول رأياً ناضجاً، ولكن أنتم من الممكن أن تقولوا في المعاناة لكل أشكال هذا العصر، إنني أرى اليوم شاباً متحمساً ومخطئاً يخطب في وسط الحديقة، ويدور الكلام كله عن السياسة، لم أسمع واحداً يتحدث عن الإنسان في مطحنة الحروب والتصدع الاجتماعي، ولكنهم جميعاً يتحدثون بالخوف، وبالتمرد المنسحق!!
* * *
ـ قال عازف البيانو: لكن كيف أجذبهم.. كيف أقنع شاباً أو فتاة أن تصغي إلى مقطوعة ((الدانوب الأزرق)) مثلاً، وتنصرف عن سماع ((توم جونز))؟!.. ذلك هو العجز والحيرة. ربما كان الكاتب أكثر قدرة، ولكن الموسيقى أعمق وأسرع تأثيراً، ورغم ذلك لا أضمن النجاح الذي يعيد الإنسان إلى جوهره!!
وأخلدوا جميعاً للصمت.. إلا حارس الحديقة الذي تطلع إلى وجوههم مبتسماً، ثم قال - المشكلة هي غياب الأعمال الأدبية والفنية الجيدة.. التي تتفوق على الماديات والفلوس. فإذا كان العالم يمارس العبث، فإن ممارسة العجز في الصمت.. أكثر خطورة على عقول وأرواح الشباب!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2136  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 366 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج