شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فقط...الموت!
الليل.............
هذا هو موعدنا الحقيقي مع الحياة، ومع الإحساس بالوجود.
هو- أيضاً- تربة أجمل أحلامنا.. نغرس في ساعاته: اللحظات الشذية العبقة في عمرينا- أنت وأنا- ونتوهج، وننسكب، ونبوح ونصدق، ونتحول إلى طفلين- يسبقان ظلهما- كما تقول الأغنية الكلثومية!
حبيبي.. يا تهمتي الجميلة، عمري.. أنت:
هل كنا نواصل حلماً بالألوان، فنركض لأننا نخاف أن تأتي نهايته مروعة؟! أفكر في الأيام التي مضت قريباً.. كنا فيها لا نطيق البعاد، إذا غبت عني اشتقت إليك، وإذا لم ترني فإنك تتحول إلى متوتر، وعصبي.. لا تطيق من تعمل معهم، ولا تلذ لك الحياة!
لذلك... لا نكاد نفترق، وإذا التقينا ألاحظ عليك التوجس من شيء غير محدد.. كأنك تخاف أن يسرقني منك أحد، أو أحب أحداً غيرك!
تردد أصداء صوتك من الأعماق.. أعماقي وأعماق الحياة.. أسمعك تناديني:
ـ حبيبتي، سيدتي، يا أنا:
لماذا يخاف الناس، ويتوجسون.. فيعتقدون أن زمان الحب قصير؟!
عندما وجدتك ثانية- بعد قطيعتك لي- عانيت من تناقض فكرتي عن الحياة وإقبالنا عليها.
عندما عُدتِ إليَّ.. أحببت الحياة من جديد. كرهت أن أموت فجأة، أو بمرض، وقد كنت أنا في غربتك بعيداً عني وفي شعوري بضياعك مني: أغازل الموت، أتمناه... فالحياة كانت بدونك تصفر فيها الريح، باهتة، لا طعم لها ولا لون!
وعندما تبلورت أحلامنا إلى واقع، ولمست في أعماقي حبي الأكبر لك. لم أكره الحياة ولكني صرت أخاف الفقد لك من جديد، ولذلك تمنيت الموت أيضاً.. حتى لا أشهد لحظة تودعينني فيها، أو تفرين مني، أو... حتى لا يقف الملل حائلاً بين نبضي ونبضك وتسأمين مني، أو أن كل حلمي قد تجمّع دفعة واحدة في رغبة أثيرة عندي، وهي: أن أموت فوراً... بعد أن وجدتك وقرت عيناي، وبعد أن ملأني حبك فرحاً وحياة.. وأن يكون موتي- المطلوب مني!- استراحة رأسي على صدرك، وإغماضة عيني على وجهك، واحتواء برودة موتي في دفء كفيك.. ثم أشهق كأنني أغني!...
الليل أتى يا حبيبي... وقد تحقق حلمك أنت!
في موعدنا مع توهج القلب، واشتعال النفس حباً.. يأتيني صوتك الآن!
ـ هل تراك قد ((مت)) بالفعل... وكيف؟!
أكاد لا أصدق... فهنا عطرك. هنا بقايا تبغك. هنا- في ركن هذه الكنبة المستطيلة التي أحدق إليها الآن- أراك في جلستك المعتادة.. في حركتك الدائمة التي لا تهدأ، ولكني أرى مقعد ((الكنبة)) غائراً، كأنه حفرة عميقة..
لن يسمح لأحد غيرك أن يجلس فيه!
عندما تأكد حبك لي.. رحلت!
عندما تأكد عندك حبي لك.. رحلت!
فلماذا نفقد ما نريد... في لحظة اكتشافنا لحاجتنا إليه؟!
لا أصدق موتك- المفاجئ- هذا.. مثلما كنت لا أصدق أن حبك لي هو بهذا العمق والتدفق والصدق!
هل تذكر استفزازي الدائم لك.. حين كنت تسألني مازحاً، أو مشككاً، فتقول لي:
ـ لو اختطفني الموت منك فجأة.. ماذا ستفعلين، هل تبكين علي، هل تحزنين فوق الحزن نفسه، وكيف ستطيقين الحياة بعدي؟!
كنت أصغي إلى سؤالك الذي أصفه مثلك بالجنون، وأقهقه إمعاناً في استفزازك، ثم أجيبك بنبرة غير مبالية:
ـ ولماذا أبكي عليك؟ قد يعزيني الحزن لمدة دقائق، لدقيقة.. ولكني بعد ذلك سأعيش حياتي المعتادة: أخرج وألبي الدعوات، وأتزين، وأسافر.. أمارس حياتي.
كنت أحس بحزن يفيض من عينيك دون أن تعلق.. ثم ما ألبث أن أشدك إلي، وأحتويك وأسكن إليك مطمئنة وادعة كعصفور التجأ إلى عشه من الريح والمطر!
تذكرت عبارتك لي- في الليل الذي تضيئه لقاءاتنا- حين قلت:
ـ لا تنس العبارة المشهورة: ((أكون.. أو لا أكون)).. إنني هكذا دوماً بكل مقوماتي، وبكل عواطفي أيضاً معك، ولو عرفت الآن أنك تحبين رجلاً غيري.. فقد أموت حزناً، لأنني لا أتصوّر أن أخسرك ثانية.. بعد ذلك العذاب الطويل في بعادك عني
* * *
دعني أسألك في الموت:
ـ ترى... هل كان ما بيننا مجرد حلم شاعري، رومانسي.. ثم أيقظني منه سطوع الشمس؟!
ليته كذلك... بشرط أن يستمر بلا موت، أو بلا سأم!
يأسرني هذا الليل ويأخذني إلى ضفاف ممتدة نحو اللامدى.. فأراك هذه اللحظة كياناً مجسداً.. تبعث الحياة في أيامي وعمري، حتى نبدو معاً: نغماً متواصلاً حبيباً!
ترتعش أصابع يدي.. يشتعل كفي، وأنا أحس بدفء يديك اللتين دامتا طويلاً غطاء لكفي، ووشاحاً يدثر كتفي.
أزيح ستارة غرفتي، لأرى الليل وشاحاً أكبر من السواد يجلل زمني.
أحدق إلى البعيد، واسترجع النظر وهو حسير.
وهذا القمر الصحراوي الذي كان هامة لنخلة، طالما وقفنا تحتها أوقاتاً كثيرة.. إذا هو الآن قمر ثلجي، شديد البياض، شديد البرودة في رحيلك! لماذا رحلت وحدك؟!
لماذا عدت إليك.. لأفتقدك؟!
أتطلع إلى النجوم المنثورة في أرجاء السماء الرحبة.. إنها تجمّع لي الآن حكاية عمر تجزّأ، وحكاية حب كان يركض بنا نحو المجهول.. وكنا سعداء بأن تبقى الحياة مجهولاً عندما لا نلتقي، ويصير المجهول واقعاً جميلاً، وضوءاً، وجنوناً، ومعرفة.. عندما يضمنا زمننا القصير هذا الذي نسميه: الليل!
أستمد من النجوم رجع حكايتنا.. منذ أول نبرة تلقاها سمعي من صوتك، وكان ذلك قبل عشرة أعوام.. منذ أول نظرة غرست في صدرك خفقة الحب الأصيل الذي عجزت أن تئده أو تتحرر منه طوال الزمن الهش الذي انفصلت فيه عنك!
فهل مازلت تذكر أول نظرة؟!
كانت بدءاً لحلم جاوز التزامات الواقع كثيراً، وأحياناً معاً.
كان الوقت ليلاً.. عندما احتوتنا الصحراء الساكنة- المتكلمة بوجيب القلوب.
لحظتها... كنت أصر أن أحدق إلى وجهك الطالع في عيني لأول مرة.
أنت الذي وصفت لي ((الليل الأول)) ذلك.. فقلت:
ـ كان القمر الساطع الذي ملأ رحابة الصحراء، وامتزج ضوؤه بسكونها- الهيبة، قد انعكس على ملامح وجهك الأكثر سطوعاً.. خلت أن النسمة الصحراوية زغاريد بين جوانحي، وقبل هذا الدخول إلى صمت الصحراء.. كانت أضواء شوارع المدينة التي تخطيناها بسرعة تزغرد أيضاً في لحظة اتحادنا بالنسمة، وبضوء القمر، وبجلال الصحراء.
تناثرت أسئلة عديدة منك إلي.. وكبحت أجوبة عديدة أردت أن أؤجِّلها لما بعد رؤيتي لأعماقك.
صوتك يأتيني الآن حبيباً.. يردد كلماتك الآيبة من سنوات بعيدة ضوئية... سنوات ((الليل الأول)) وأنت تقول:
ـ عندما طالعني وجهك البشارة لأول مرة. أضاءت جوانحي. صفقت ضلوعي. عثرت في تلك اللحظة على المرأة التي طالما تمنيت أن أناديها: ((حبيبتي)).. وطالما فتشت عنها بكل سنوات عمري التي تغذ بي إلى النضج، وامتلاك الرؤية))!
مازال صوتك يأتيني.. فأتفتح كزهرة، وأنت تقول لي:
ـ ((في عينيك أمرع الفرح.. وفي صدري تمدد الحزن، فلم أكن حينذاك استطيع أن استحوذ على عمرك لي وحدي))!
* * *
أول مرة رأيتُكَ فيها.. كنتُ ((سندريللا)) التي تبحث عن عصر جديد.. عن مملكة تقف في بهائها.. وهي تملك كل شيء.. حتى الأحلام!
لم تكن حياتي أحلاماً.. بل واقعاً أصبغه بالحلم.
الأحلام- يا حبيبي- يطلعها الحب، ولم تكن أنت يومها في ذلك ((الليل الأول)) حلمي.. لم أجد فيك حينذاك ((الحلم)) الذي يطلعه الحب، ولكنك أنت القادم إلي.. قد حفلت نظرتك نحوي بألوان قزحية من الأحلام.. بينما كنت أرى فيك تجربة مبدئية.. مجرد تجربة، ما ألبث أن أقذف بها إلى الذكرى لكني بعد ذلك ((الليل الأول)) انتظرت ليلاً آخر فعالاً.. يضيء جوانحي، وتشعله الأحلام. حتى امتدت بي مشاوير الحياة- طولاً وعرضاً- ومنحت منها ما أردت، وما لم أرد.. مما صغته بعد ذلك ليتلاءم مع رضائي عن الحياة، واقتناص لحظات الفرح، والأحلام!
وركضت بالحياة.. وركض بي العمر!
وهدأت... استقررت في حاجر الليل، أبحث عن حلم قديم لم أتبين ملامحه في نهدة العمر، وما حسبته هو ((الحلم)) الذي يملأ أيامي بالمعاني.
أفرغت ذلك الاستقرار البليد في: الرسم. في القراءة. في الموسيقى. في تذوق الشعر. في السخرية من التناقضات.. وحتى من نفسي أحياناً عندما أكون وحدي!
كان ذلك كله موتاً بليداً.. بينما كنت أفتش عن الموت الذي يبعث الحياة.. الموت في فكرة. الموت في حب غامر. الموت فيك حتى آخر خفقة!
اضطربت، تخلخلت... اكتشفت أنني أريدك وحدك بعد كل ذلك الركض!
وأنك لا بد أن تريدني- وحدي- بكل غربتك الطويلة!
أريد أن أموت، ولكن.. أموت فيك!
أردتك أن تموت، ولكن.. تموت فيّ أنا وحدي لتشعر بجمال الحياة!
وهذا هو الموت الذي يصوغ حياة الأحلام والأماني والمعاني.
وحين أتيت.. انبعث في حياتي هذا ((الليل الآخر)).. الذي يضيء ويشعل أحلامي. لا.. بل أحلامنا- أنت وأنا-!
لقد عثرت عليك، وأنت في الرمق الأخير!
وجدتك تموت أنت الآخر بالاعتياد، وتموت بالعبث وبالضياع، وتموت باليأس دون العثور عليّ!
وفي هذا ((الليل الآخر)).. سألتني لأول مرة:
ـ لماذا تأخرت كثيراً؟!
أجبتك: لأنك أنت أيضاً بعدت عني كثيراً.. ولم تحاول أن تناديني مباشرة!
ـ قلت لي: لقد كان ابتعاد اليأس.. ولم تحاولي أن تناديني مباشرة!
ـ سألتك: والآن؟!
ـ أجبتني: أما الآن.. فدعينا نبني- بالليل- جداراً يصد الفراق. دعينا نغرس بذرة الحب الأقوى في حقل لا ينبت منه إلا وجهك ووجهي. دعينا لا نفترق!
أسرني الصمت.. كأنني أفكر في الغد.. كأنني لم أتأكد بعد من حبك لي.. كأنني لا أضمن المجهول الذي نتطلع أن يتجسد واقعاً جميلاً. وضوءاً، وجنوناً، ومعرفة لحياتنا معاً!
فكيف نفترق يا عمري؟!
هل تذكر عندما قلت لك:
ـ لا أرجوك أن لا تموت الآن... إذا كنت ستموت أجِّل موتك إلى الوقت الذي أكرهك فيه))!
فمن قال لك إنني كرهتك؟!
ـ قلت لي: أعدك بأن لا أموت.. وأنت تعدينني أن لا تكرهيني!
لكنك - يا للأسى - لم تف بوعدك!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1363  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 138 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.