شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل السادس
ـ 1 ـ
((جيوفاني فرساشي)) إنه اسم لعطر نسائي، قبل أن تحاول التخمين.. وأنا أعرفك لا تحفظ أسماء العطور، وتقول لي: هذا من أهم عيوبي.. أن لا أحفظ أسماء العطور، ولا أسماء ممثلات وممثلي السينما العالمية!
وكنت أجيبك بسخرية: وعلى إيه.. أنت نجم، أشهر من أولئك الممثلين، وأنت أكثر عبقاً من أشهر عطر!
وتتطلع إليّ بجانب عينك، ثم تقول: بس أنا ما أتغر.. الغواني فقط يغرهن الثناء!
وأستفزك، فأقول لك: يعني صدقت أنك أشهر من الممثلين، وأذكى شذاً من أشهر عطر؟!
ـ تقول: إذا كنت فعلاً تحبينني.. أكون كذلك!
ذلك العطر: ((جيوفاني فرساشي)) اكتشفناه في الصيف الماضي عندما ذهبنا إلى باريس. بعد الظهر.. نزلت مع ابنة أختي إلى السوق.. نبحث عن الجديد في باريس.. الموضة، العطر، حتى الوجوه.. لقد أصبحت الطفرة المالية عاملاً لتغيير الوجوه باستمرار!
ودخلنا محلاً لبيع العطور.. نسأل عن أحدث عطر.. فقدمت لنا الفتاة هذا ((الجيوفاني)).
استنشقت رائحته.. كانت رائعة، وساحرة، وبخلت على نفسي به وأنا وحدي بعيدة عنك.
فلمن أضع العطر؟! لرجل يعبر بجانبي في الشارع؟!.. لا.. لا بد أن أحتفظ بهذه الرائحة الجديدة لك حتى ألقاك فأضع منها.. وتصبح رائحتي الأثيرة الجديدة التي تجعلك تحس بقدومي من مسافة بعيدة.. ألست امرأة مثل باقي النساء أمام الرجل الذي تحب؟!
ولم نطل جلوسنا في باريس.. لأول مرة أشعربالملل، لا أدري.. ربما كنت أنت السبب. هل تذكر ما قلته لي مرة؟
ـ قلت: أذهب إلى باريس لأسهر ولأضيع.. لذلك لا أميل إليها كثيراً.. إنها تشبه الأنثى الغانية التي تجعلني أدفع فلوساً كثيرة في مقابل ليلة واحدة!
ـ سألتك: وماذا تحب من مدن العالم؟!
ـ قلت لي يومها: أحب أي قرية في العالم مكسوة بالأشجار والعشب ومسقوفة بالمطر!
ـ قلت لك: ولكن هذا شعر، خيال، رومانسية.. شيء بعيد عن الواقع!
ـ قلت لي: بل هذه راحة.. حوار مع النفس.. صفاء ونقاء. شيء يعيننا على الصبر، وعلى أن نحتمل الواقع ولا نكفر به!
ولعلني كرهت باريس الصخب والأضواء والموسيقى المجنونة.. لقد أصبتني بالعدوى سامحك الله، وهكذا أصبحت أميل إلى الهدوء، وإلى الطبيعة، وإلى الحقول.. تصور، حتى اللوحات التي دفعت مبالغ كبيرة، ثمناً لها، بدّلتها.. فهي لوحات من الفن الحديث.. وبحثت عن لوحات كلاسيكية ورائعة بالفعل، وعلقتها على جدار بيتي.. فأنت مستعمر أحبه، ولا أطيق رحيله!
وحزمت أمتعتي، وركبت الطائرة متجهة إلى لندن.. والجميع يسألني:
ـ لماذا لندن بالذات.. نحن لا نحبها؟!
ـ قلت لابن أخي ولابنة أختي: ثلاثة أيام فقط، ونذهب إلى حيث تريدون!
ـ قالوا: ولكن.. أخبرينا عن السبب؟!
ولم يكن هناك سبب.. بل هناك حدس بأنني سألتقيك في لندن.. لئيم أنت.. لم تخبرني، ولما عاتبتك بعد ذلك، قلت لي:
ـ لم أكن أعلم.. لقد جاءت رحلة عمل مفاجئة. تصوري سأبقى لمدة ثلاثة أيام فقط.
ـ شيء مرهق جداً!
كنت أحلم بحاستي، وأتخيل أنني وجدتك هناك، وأمسكت بيدك، وتحدثنا، وشربنا الشاي معاً، وأحطت كتفك بذراعي!
-لقد تحقق الحلم بالفعل..
كنت أعرف اسم الفندق الذي تعودت أن تسكن فيه كلما جئت إلى لندن. وسألت عنك بمجرد دخولي إلى الشقة التي نسكنها، وأجابتني موظفة الاستعلامات أنك تسكن بالفعل، ولكنك غير موجود الآن، وسألتني: إن كنت أرغب في ترك رسالة لك. شكرتها وفضلت أن أكون مفاجأتك في ذلك اليوم.. وهكذا في لحظة واحدة أصبحت الدنيا لا تسعني!
سأجدك بلا شك بعد الساعة الخامسة.. ستستريح، ثم تنطلق إلى السهر.. أعرفك، ولك برنامج غير مشوق بالنسبة لي لو كنت وحدي، ولكنه برنامج حافل لو كنا معاً.
إذن.. لقد تحقق حلم آخر: أن أراك في لندن. ومنتهى الجشع لو طلبت أكثر من هذا!!
وحرصت أن أتواجد في بهو الفندق في تمام الخامسة عصراً، لأراك تدخل منهكاً. ولتراني جالسة انتظرك في أكمل زينتي، كشهرزاد!
يوم أن رأيتك هناك.. كان اليوم الذي لا ينسى. دخلت إلى بهو الفندق وأنا أراك دون أن تلحظني، واتجهت لتأخذ مفتاح غرفتك. كان التعب بادياً عليك وتحتاج لحمام دافئ.
أذكر أنني في ذلك اليوم وضعت هذا العطر الجديد الذي قدمت به من باريس.. وحتى اليوم، كلما رأيت الزجاجة، أو تعطرت بعطرها، لا بد أن تكون معي في أي مكان، وفي أي وقت، وكيفما كانت حالتي.. تكون قريباً، وأكاد أشعر بيدك في يدي، وأسمع صوتك!
أقسم لك أن ما أكتبه لك الآن وأقوله، هو الحقيقة، لا الخيال!
حلمت بك البارحة، وليس هذا بجديد، ولكن الحلم جعلني أتصور أنني كنت أحيا، وأن يقظتي هي الحلم. وفي الحلم جئت إلي تقول:
ـ ليلى.. إنني متعب ومرهق، أريد أن أنام، فهل أستطيع؟
ـ قلت لك: تعال معي.. سترتاح على سريري.
أخذتك من يدك، وسرنا معاً، لم تكن ردهة عادية، بل كانت طويلة. ولم يكن هناك ضوء.. تحسسنا طريقنا في الظلام، وعندما وصلنا بعد وقت ليس قصيراً.. اكتشفت أن سريري أكبر من حجمه الطبيعي، ولونه أبيض أبيض، بياضاً غير عادي، ووسادة واحدة في منتصفه!
استلقيت أنت، ووضعت رأسك على الوسادة، وجلست أنا بجوارك.. ودون أن تتكلم، مددت يدك وسحبتني إلى جوارك.
ـ قلت لك: كيف ننام.. ولا توجد غير هذه الوسادة وهي لك؟!
ـ قلت لي: تكفينا معاً.
وأغمضت عينيك أنت.. بينما بقيت أنا أحدق في السقف.
لم يكن هناك سقف.. بل سماء زرقاء، زرقاء.. ونجوم منتشرة بكثرة.
ـ سألتك: أين السقف؟!
فلم تجبني.
ـ أين القمر.. هل سرق، هل سقط من السماء.. ولماذا؟!
فتحت عينيك، ونظرت إلى السماء.. ولكن دون أن تندهش مثلما حدث لي.
ـ أجبتني: القمر هناك!
ـ قلت لك: لا.. إنني لا أراه!
ـ سألتني: هل أنت خائفة؟!
ـ قلت لك: لا.. ولكني مندهشة. هذه الغرفة تشبه غرفتي، ولكن لا أشعر أنها هي.. والسقف، أين هو.. والنور، من أين يأتي هذا النور؟!
وضعت يدك على خصري، وقلت لي:
ـ التفتي إليّ، كلميني!
ـ قلت: لا أستطيع، فإن التفت، وأدرت لك وجهي فسيكون من الصعب علي التلفت!!
ـ قلت لي: حاولي.. جربي.
وعندما استدرت.. رأيت أشياء كثيرة.. كثيرة!!
* * *
ـ 2 ـ
عندما استدرت- وما زال حلماً- انزلقت يدك عن خصري، وانتقلت فوق ظهري.. ورأيت وجهك في هذه اللحظة من الحلم.. كان يبدو كبيراً جداً، لا أستطيع أن أحتضنه بكفيّ.. ورأيت عينيك فيهما عمق واسع جداً، خفت أن أتطلع إلى اتساعهما وعمقهما، ورفعت يدي ألمس بها أرنبة أنفك.. واكتشفت أن أنفك قد تضخم!
وأغمضت عيني.. حاولت أن أقول لك شيئاً، واصطدمت شفتاي بشفتيك!
نمت أو لم أنم.. لم أدر ما الذي حدث بعد ذلك. استيقظت، وكان ما رأيت أكبر من حلم، وقد يدل على تفسيرات عديدة. وفي صحوي تلفت حولي فرأيت سقف حجرتي!
حلمت بك كثيراً.. ولكني دائماً أحلم بك بعيداً.. لم تكن قريباً مني إلى هذا الحد. قد أكون تخيلتك بهذا القرب، ولكني لم أحلم بك من قبل إلا وأنا أحاول التحدث إليك، أو أحاول اللحاق بك، أو لا أراك مع الآخرين وفيهم!
مهما حدث، ومهما كان وسيكون في الغيب.. أرجوك أن تكون قريباً مني، لا تتركني وحدي.
أنت لا تعرف من تكون بالنسبة لي مهما صورتك.. فهل تعرف أنني أَلوم الدنيا والظروف لأنهما أخرا اقترابي منك، ولقائي بك كل هذا الزمن؟!
ما زلت أتمنى لو كنت أنا هذه الأنثى القوية أمامك، التي تستطيع أن تستحوذ عليك قلباً وعقلاً ووقتاً، فأستحق الحب بالفعل، وأنال من رضاك وعطفك ما يغسلني ويطهرني وينتشلني من كل الأحداث التي عانيت منها!
لم أكن امرأة ضعيفة قط طوال حياتي، وبالذات مع الرجل.. كنت قوية، أفرض ما أريد وأرغب وأقرر، وكانت القرارات ملكي وحدي.. لكنني معك تبدلت، أصبحت إنسانة أخرى، حتى القرارات لم تعد ملكي، وأشعر اليوم أن الجميع يريد أن يأكلني لأنه يستضعفني!
لا ألومك أنت. ولكني أتساءل: هل الحب يضعف، أم من المفروض أن يمنح الإنسانة قدرات أعظم ليكون قوياً وفعّالاً؟!
هل تعرف أنني كلما نظرت إلى المرآة بعد أن عرفتك.. تمنيت لو كنت أجمل.. لو كنت أصغر؟!
ذلك يحدث كثيراً.. حتى الفساتين التي اشتريتها، أحب لو ارتديها لك أول مرة.. أحب لو أعرف: هل تعجبك؟!
أحب لو أملك أمر قلبك، كنت وضعت فيه نصف، بل ربع ما يملأ قلبي فلا بد أنه سيكفيني حباً لي، وأتمنى أن يطول عمرك، وتكون سعيداً، وأتمنى أن أموت قبلك.. فأنا لا أتصور، أو أتخيل أن أحيا في الدنيا، وكيف تكون دنيا وأنت غائب عنها، وكيف أحيا وأنت دنياي.. دنياي؟!
لذلك كله.. كثيراً ما تمنيت أن يكون هناك ما يشغلني.. ما يأخذني ويشدني من دائرتك، فيأخذ حيزاً ولو صغيراً من اهتماماتي.. لعلني أرتاح قليلاً، وأدعو ربي أن لا يكون هناك مزيد من الحب.. فالذي لك منه عندي يكفي العالم كله!
* * *
لكن هذه الأمنيات أيضاً لم تعد خالصة في حياتي.. فهناك ما ينغص حتى أحلام اليقظة!
وهل هناك أقسى من ((حسين)) هذا الذي ربط حياتي بإهماله ولا مبالاته حتى يخيل إليّ أنه سيدفن هذه الحياة ببطء حتى آخر رمق لي؟
لقد رفضت أن أراه في أي مكان، رغم كثرة إلحاحات أخي أن نجلس معاً: أنا وأخي، وننظر في مطالبه، فإن وافقت قدرتنا على تنفيذها رضينا بها واتفقنا، وتعود المياه إلى مجاريها، وإن استبد الخلاف كان علينا أن نحل هذه المعضلة المزمنة بالحسنى، وكل واحد يذهب إلى حاله ودنياه ويصبح حراً!
وكنت أتطلع أن يصدر من ((حسين)) أي موقف خاطئ، وأي عناد، وأي إصرار على حماقة يرتكبها، فأردت أن أتحاشاه، فاجتنب ما قد يسببه لي من إهانة، أو سخرية. ويضاف هذا كله إلى تقززي من الجلوس معه أو التحدث إليه!
صدقني.. لقد بت أكرهه.. وأخاف أن تُعدي هذه الكراهية مشاعري نحو كل رجل، فيصيبني بعقدة يصعب الشفاء منها!
ولكني كلما حاورت نفسي.. أفصل ((حسين)) من رجال المجتمع السوي، فهو رجل غير طبيعي. مليء بالعقد، وبالغرور، ويوصله عناده أيضاً إلى الحماقة. عرفته كثيراً وعانيت من هذه المعرفة!
وتركت أخي يذهب إليه في بيته.. بعد أن اتصل به وأخبره أن أمي مريضة، وأنني لا أستطيع الحضور إلى الموعد للتفاهم.
ـ قال لأخي بذلك الغرور والتعالي: لا بأس.. تأتي أو لا تأتي.. أريد أن أتفاهم مع رجال لأبت الموضوع الذي طال وأصاب عفونة!
كانت تعبيراته قذرة دائماً كرائحة نفسه وأفكاره.
ـ أجابه أخي: لا نريد أن نغلط في الكلام ((يا حسين))، فنحن نجتمع في وشيجة دم، والخلاف لا يعني القتل. سآتي إليك مساء الغد في بيتك ومعي صديق الطرفين ((صالح))!
ـ قال حسين: تريده شاهداً.. أنا لا أرجع في كلامي، ولا ألحس كلامي!
ـ أجابه أخي: لا أقصد ذلك،. ألم نقل لا نريد أن نغلط.. ولكن صالح يعرف المشكلة. والواحد منا يتفاءل بواسطة الخير.
ـ قال حسين: وساطة لمين.. لي أنا، أم لزوجتي التي تعصاني وترفض أن تعود إلى بيتها وزوجها؟!
ـ قال أخي: على كل حال لا تفتح الموضوع الآن.. وموعدنا هو مساء الغد الساعة التاسعة.. ما رأيك؟!
وأخبرني أخي بهذا الموعد. وشدني الاستغراب والتساؤل، قلت له:
ـ ولكن.. ما دخل صديقكما ((صالح)) لماذا الغريب، هل تريد أن تحرجه، أم تلزمه بما يقول؟!
ـ قال أخي: لا هذا ولا ذاك.. أريد فقط أن أكشفه أمام أصحابه وأصدقائه، ولا شك أن ((صالح)) سيقول لكل الأصدقاء عن تصرفه الذي سيفعله!
ـ قلت: وهل تتوقع منه تصرفاً مشيناً إلى درجة أنك تكمن له بصالح ليفضحه؟!
ـ قال أخي: إنني لا أتوقع، بل أجزم أنه نذل، ولكني لا أتكهن بالذي سيقوله أو يطلبه في مقابل منحك حريتك بعد سنوات طويلة من هذا التعليق والاهمال!
ـ قلت بأسى: وماذا تتكهن غير أن يتحفكم بالخبر الجديد الذي لا تعلمون أنتم جميع أهله وأصدقائه به!
ـ قال أخي يتساءل مندهشاً: خبر جديد.. ماذا تعنين؟!
ـ قلت: أعني أن السيد ((حسين))- زوجي- مقبل على دنيا جديدة، وأنه خطب لنفسه فتاة صغيرة جداً.. تصغره بعشرين عاماً، أقصد لو أننا أنجبنا منذ ارتبطنا لكانت لنا فتاة عروسة في سن هذه التي سيتزوجها!
ـ قال أخي: عجيب.. من أخبرك، وكيف علمت، قد تكون مكيدة؟
ـ قلت: ومكيدة ليه؟.. أنا لم أغضب، ولكني أفتش عن حقي، ومن حقوقي أن أطلق منه، وأسترجع حريتي، وليهنأ بلعبته الجديدة!
وسمعت أخي يحادث نفسه كمن يهذي:
ـ عجيب.. وكيف وافق أهل الفتاة على زواج كهذا غير متكافئ؟!
ـ قلت لأخي: لا عليك، اهدأ.. فالمشكلة تمس حياتي، وأنا كفيلة بتجاوزها، وصدقني أنني لم أغضب، ولم أشعر بالغيرة.. فالمرأة تغار على رجل تحبه.. المهم أن تنهي لي هذه المشكلة، وتعود إليّ بصك تحريري من عبودية هذا الرجل.. فتكون بذلك قد ساعدتني على كتابة عمر جديد لي.. حتى لو كان هذا العمر شهراً، أو يوماً واحداً، أو لحظة فقط!
ـ قال أخي: إلى هذه الدرجة أصبحت تكرهينه؟!
ـ قلت: حتى الكراهية لا يستحقها.. أنني أحتقره، والاحتقار إسقاط تام!
ـ قال: غداً إن شاء الله آتيك بالخبر اليقين!
* * *
ـ 3 ـ
لم تذق عيناي طعم الكرى.. بت أتقلب فوق فراشي كسمكة في مقلاة، أتألم، أحترق، أحتار، أتساءل.. أستعجل هذا الليل الطويل أن ينجلي ليأتي صبح الغد، والنهار له عيون كما يقولون.. سيضيع في زحمة الناس، في الزيارة.. وسيأتي مساء الغد، وذلك الموعد- المصير.
أعرف أن الموعد لن يستغرق ساعات طويلة، بل لعله أكثر اختصاراً.. فأنا أعرف تماماً نفسية ((حسين)) وسوداوية مشاعره.. وحتى ينتهي النقاش، ويخرج أخي ويأتي إلى بيتي.. أكون قد قتلت عشرات المرات!
إنني لا أفكر حزناً على هذا الإنفصال.. فأنا التي أطلب ذلك وألح عليه بأي ثمن.. لكن تفكيري ينحصر في خوفي من استمرار امتناع زوجي عن تخليصي من ربقته.. حينذاك سأضطر إلى رفع قضية ضده، وإلى ارتياد المحاكم والتفرغ لهذا الأمر الذي يريده.. لمزيد من إذلالي وإخضاعي للانتقام مني.. وحتى تخرج القضية من المحكمة أكون أنا قد صفيت تماماً وانتهيت.. ويكون هو غارقاً في بحر العسل مع عروسه الجديدة التي سمعت أنه ((سيستوردها)) من بلاد بره، لتنجب له أطفالاً أكثر صفاء منه، ومن ظلام نفسه!
وقمت من سريري، وقد هجم القلق على كل خفقة، وكل نبضة مني.. خفت أن تفلت أعصابي. خفت أن أجهش بالبكاء في هذا الليل البهيم، وما بهيم إلا الحيوان الناطق!
خفت أن تستيقظ أمي، فتحمل همي، ولا تنام أبداً.
ورغم أنني استعنت على النوم بحبتي فاليوم، وبجرعة من شراب الكحة ليخدرني فأنام ساعة أو اثنتين فقط، حتى أستطيع أن أواجه الانتظار الممل يوم غد.. رغم ذلك لم يكتحل جفناي بالنوم.. استهلكت كميات هائلة من السجائر منذ انتصف الليل!
ترى.. ما الذي يكون، لو رضي هذه المرة أن يطلقني؟!
لا شيء.. مثل كل مرة، وطوال السنوات السحيقة التي مرت، وكنت فيها كما يقال: لا أنا مطلقة ولا أنا معلقة!.. حتى هذا ((التعليق)) لم أحظ به، ولكني في اعتبار كل الأسرة والناس، ما أزال الزوجة التي على ذمة زوجها.. لا بد أن ترعى سمعته وأن تحافظ على التقاليد.. بينما هو يسرح ويمرح، لا تهمه سمعة، ولا يراعي التقاليد.. وفي كل يوم هو في بلد، وفي ذراعه فتاة. ويبدو أن المرأة وحدها هي التي ينبغي أن تحافظ على السمعة وعلى التقاليد، والرجل يعبث كما يريد.. كأن المرأة ما زالت في هذا الشرق من السبايا!
أوف.. يا ربي، أعني على هذه الليلة ويوم غد، حتى أنام في مساء جديد قريرة ومطمئنة وأمتلك حريتي!
ولا أدري كيف مرت ليلة البارحة.. فقد أشفق النعاس عليّ، فحملني مع تباشير الصباح، وهدهدني.. ليدخل بي عالم النوم المريح.. فلم أستيقظ إلا بعد الظهر، وكأن أمي كانت ترقب معاناتي وآلامي، فلم تحاول إيقاظي، فالنوم راحة لي من الأفكار والتخمين والتوقع.
ولكني استيقظت بعد الظهر على قرع جرس الباب.. قمت فزعة، أركض في الصالة الكبيرة، ووجدت أمي قد سبقتني إلى الباب، ورأيتها تأخذ من السائق مجموعة كبيرة من الصحف والمجلات التي اعتاد السائق أن يحضرها من المكتبة.
ـ سألت أمي وأنا أتثاءب: كم الساعة الآن؟!
ـ قالت تسخر بابتسامة: اسم الله عليكي.. دخلنا على الثالثة بعد الظهر!
ـ قلت: أحسن!
ـ تساءلت أمي: ماذا قلت؟!
ولم أجبها.. فما زال النوم يحتشد في عيني بعد إرهاق وآلام الليلة الماضية، ولكني بعد أن صحوت، من المستحيل أن أعود إلى النوم، بل ستفترسني الأفكار والتوقعات، ومن الأفضل لي أن أصحو، وأن أتغدى، وأصك رأسي بفنجان قهوة معتبر!.
وكنت أتحول إلى هياج وجنون كلما رن الهاتف، أو قرع جرس الباب.. أحسبه أخي قد عاد بالبشارة!
ولا أدري كيف احتملت كل هذا التوتر والتحفز، حتى بلغت الساعة العاشرة مساء.. وقد تركت كل شيء، ولم يعد يعنيني إلا رنين الهاتف أو قرع جرس الباب. تركت التليفزيون، قذفت بالمجلات، وبقيت أنتظر الخلاص!
تعبت من هذا الانتظار.. وشعرت أن أعصابي قد تلاشت جميعها بسبب هذا التوتر، وكدت أجن بعد كل الانتظار الساحق، لولا أن تعالى صوت جرس الباب، قفزت أركض لأفتح.
كان وجه أخي.. كانت نظراته.. كان جسمه الطويل!
ولكن خيل إلي لحظتها.. أن هذا الوجه ليس وجهه، والنظرات ليست له، وقد تضاءل جسمه الفارع!
كأنه لبس على وجهه قناعاً يبرز ملامح وجه زوجي، والنظرات مباعة للحيرة!
ـ صرخت في وجهه: ماذا حدث.. لم أعد أحتمل أكثر من عذاب ليلة ويوم.. تكلم؟!
ـ قال أخي: أخبارك صحيحة.. قد خطب فتاة في العشرين، وسيتزوجها في الشهر القادم!
ـ قلت متوترة: قديمة.. ما الجديد المفيد؟!
ـ قال أخي كأنه يهمس: إنه نذل.. نذل!
ـ قلت ساخرة: برضه قديمة.. اكتشفت ذلك من سنوات!
ـ قال أخي: لقد وافق على الطلاق أخيراً.. ولكن بشرط!
ـ قلت متلهفة: أخيراً.. الحمد لله، كل شروطه أنفذها!
ـ قال: ولكنه نذل بالفعل!
ـ قلت متعجلة: لم يبق عندي صبر.. تكلم ما هو شرطه؟
ـ قال: إنه يطلب ثمناً لحريتك والخلاص من عبوديته!
ـ قلت: طلب فلوساً يعني.. كم يريد، فأنا أعرف دناوته!
ـ قال أخي: اشترط أن تدفعي له مبلغ نصف مليون ريال!
ووجمت في اللحظة الأولى.. وتنقلت النظرات من عيني إلى عيني أمي.. إلى عيني أخي.
وكان لا بد لي أن ابتسم بمرارة، فما زالت المرأة تباع بالفلوس.. المشاعر كذبة وما زال الرجل ينظر إلى المرأة كمتاع.. أنا في نظره الآن متاع قديم.. – روبابيكيا يريد أن يكسب منها في الحراج!
-قلت: إنه يقصد البيع!
ـ قالت أمي: يا بنتي.. يمكن الرجل حب يعجزكم بهادا المبلغ الي ما هو عندكم لأنه يقصد أن يحتفظ بك كزوجة وترجعي له!
ـ قلت: يا ماما من فضلك.. ده جزار بيبيع لحمة. أنا تحولت إلى لحمة معلقة للبيع، وكيف يفكر إني أرجع له وهو خاطب وراح يتجوز بعد شهر!
ـ قالت أمي: أنا عارفة.. المهم ما نسيء الظن بالناس!
ـ قلت: ده ما يسموه إساءة ظن يا ماما يا طيبة، ولكن يسموه إثبات ظن وسوء. بس كيف ومن فين أدفع له النصف مليون، وكل اللي عندي في البنك حوالي نصف هذا المبلغ.
ـ قال أخي: والله يا أختي.. يعني أنا خجلان منك.. العين بصيرة.
ـ قاطعته: لم أطلب منك يا أخي.. عارفة مسبقاً، لكن يمهلنا فترة بس ومستعدة أعطي له اقرار بدفع هذا المبلغ كدين.
ـ قال أخي: ألم أقل لك إنه نذل.. لقد اشترط أن يكون الدفع خلال نصف شهر، وإذا تأخرنا عن ذلك فسيرفع المبلغ إلى مليون!
وأسقط في يدي.. ولم أشعر إلا بدموعي تنزلق من عيني بصمت!
هل هناك ذل أعظم من هذا.. وهل هناك إنسان تجرد من إنسانيته بمثل هذا التشوه؟!
ـ قلت لأخي: لا عليك.. دعني أفكر للغد وأعطيك رأيي!
* * *
ـ 4 ـ
تخلصت من توتر وقلق الليلة السابقة، ولكني سقطت في أسى لا يوصف..
أصبحت أعاني من الإحباط، ومن الفجيعة، ومن القرف.. ما ظننت أن الحياة الحلوة تتعفن بمثل هذا السلوك الذي اتبعه ((حسين)) معي!
وهرعت إلى القرآن الكريم.. لا أدري كيف اندفعت إلى غرفتي بحماس. ألوذ إلى آيات القرآن فهي ستمنح داخلي طمأنينة ودعة. كيف نسيت القرآن ليلة البارحة، إنني جربت ذلك في لحظات محنة أو حزن أو ألم.. وأشعر بعد الترتيل بصفاء النفس.
قرأت.. وانهمرت دموعي.
وقرأت.. لا أريد أن أتوقف.
ونمت.. أخذني السبات العميق، فلم أستيقظ إلا في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.
قالت لي أمي في الصباح:
ـ لقد جئت أطمئن عليك في الليل.. فوجدتك متكئة برأسك على مقدمة السرير، والمصحف بين يديك وفوق صدرك وأنت نائمة.. وسحبت المصحف وعدلت نومتك. وغطيتك وفرحت أنك تذكرت القرآن.
ـ قلت لأمي على الفطار: عندي فكرة.. نخلص بها من شرط ((حسين)) وهي:
أن أبيع الفيلا الصغيرة، ونسدد من ثمنها المبلغ الذي اشترطه، والفلوس تروح وتجي يا أمي.
ـ قالت أمي وقد انزلقت دمعة على خديها: اللي تشوفيه يا بنتي.. بس الفيلا دي وخّرها أبوك لك بالاسم.. قال قبل ما يموت: الفيلا دي لليلى وبس!
ـ قلت: معليش.. ربنا يعوض ونجيب أحسن منها. المهم نخلص يا ماما.
وقمت إلى أمي، احتضنها، وأقبل رأسها. وسارعت إلى الهاتف أطلب أخي. ووعدني أن يحضر بعد العصر.. بعد أن اختصرت له شرح فكرتي للخلاص!
وافق أخي، وعرضنا الفيلا للبيع. ومر أسبوع، والمهلة تتناقص أيامها.. ولا من مشترٍ يأخذ الفيلا حتى بثمن بخس!
لكن أخي بعد أسبوع.. جاءني يحمل لي عرضاً، لم يكن مفاجئاً لي في هذا الزمن المادي!
ـ قال أخي: لقد تم تسعير الفيلا وقيَّمناها من مكاتب عقار عديدة، واتفقوا جميعاً أنها لا تستحق أكثر من مليون ريال.
ـ قلت: وأنا بعت.. فهات الشيك!
ـ قال أخي مندهشاً: وكيف عرفت أنني الذي سأشتري الفيلا؟!
ـ قلت: ليس مهماً الآن من يشتريها.. حتى لو كان ((حسين)) نفسه.. المهم أن تسلمني المبلغ اليوم، وندع إجراءات الافراغ والصك تسير وفق النظام المعتاد. وأخرج أخي من جيبه دفتر الشيكات، وكتب باسمي مبلغ مليون ريال.
وفي الصباح الباكر.. كنت قد انتهيت من صرف الشيك وإيداعه في حسابي، وحررت شيكاً باسم ((حسين)) بمبلغ نصف مليون ريال!
واتصلت بأخي.. طلبت منه أن يبلغ ((حسين)) أن المبلغ أصبح جاهزاً، وأن عليه أن يحرر ورقة الطلاق لنذهب بها في الغد إلى المحكمة لتصكيكها.
وذهل أخي عندما حضر، وهو يراني أرتدي ثياباً فاخرة، وأبدو في كامل زينتي.
ـ قال مندهشاً: هل حوّلوا السهرات إلى النهار.. إيه ده كله.. تبدين جميلة جداً!!
ـ قلت مبتسمة: أجمل سهرة انتظرها في أهم فترات العمر التي ضاعت.
ـ قال: إلى أين؟!
ـ قلت: معك.. سنذهب إلى ((حسين)) أليس هو حتى هذه اللحظة زوجي؟ فمن حقه أن يرى زينتي، ومن حقي أن أسلمه ثمن النعجة التي أراد ذبحها.
* * *
لم يكن ((حسين)) يعلم بقدومي مع أخي.
أردت أن أجعلها مفاجأة له.. لأدعه يضطرب، فلا يجد الفرصة ليفكر في خبث جديد يرميني به، فلم أعد أحتمل وخزاً جديداً، ولا أن أدمي أكثر مما نزفت من شبابي وعمري.
وصعق ((حسين)) وهو يراني في صالونه الكبير. كان ينتظر قدوم أخي بالمبلغ، وقع لنا الخادم، وأوصلتنا خادمة في الداخل إلى الصالون. ورائحة عطري تنفح فتملأ المكان والأرض والصدور.
وحاول أن يتماسك ويربط جأشه، وأن يقابلني بنفس البرود المعتاد والسخرية، فقال يحادثني:
ـ يتهيأ لي أنك خسيتي شوية!
ـ قلت مبتسمة: وأنت برضة ((خسيت)) بس ما هو في جسمك!
عرف معنى كلمتي ((خسيت)) التي ضغطت على مخارج حروفها، بأنها تعني الخسة. وابتلع ريقه، ثم قال:
ـ على أية حال.. الحياة صفقة. جبت الفلوس.
ـ قلت: الورقة أولاً.. سلم أسلمك.
ـ قال: لا.. في دي أعرفك أمينة جداً.. هذي هي الورقة.. خذي.
ـ قلت وأنا أتسلمها منه: في كل حياتي معك كنت أمينة، والآن بعد هذي الورقة سأصبح آمنة مستقرة مطمئنة حرة.
وأخذت الورقة، وكنت أمام أمي في البيت أرقص.. أطير في الفرح.. أضحك بهستيريا.
واكتمل اطمئناني في اليوم التالي بعد أن عدنا من المحكمة أنا وأخي، وبين يدي صك تحرري من ((حسين)) بعد سنوات عجاف، سوداء، قاحلة، مميتة!
هدأت الآن..
أريد أن أنام عدة أيام..
لا.. بل أريد أن أراك يا حبيبي.. أين أنت، تراني نسيتك في ركضي وراء تحقيق حريتي، أم تراك أنت خذلتني ونسيتني فابتعدت عني؟!
اغفر لي.. فلم أسأل عنك طوال نصف شهر.. كنت فيها أتخيل نفسي عروساً
صغيرة أزف إليك، فكان شعور الفرح هذا ممزوجاً بشعور الترح والتعاسة والتوتر الذي عشته في فترة المساومة على حريتي!
اغفر لي.. فأنا أحبك.
لا.. فأنا لم أحب أحداً غيرك، ولكني لم أنس يا حبيبي أنني أحلم!
لم أنس أنك أصبحت في حياتي ((كل)) حلمي.. وأنني في حياتك لا أعدو جزءاً من حلمك.
لا ينبغي لي أن أطلب المستحيل.. قلت لك مرة: أعرف أنك لست لي!
الآن هدأت.. وصك حريتي بين يدي، وقلبي يزداد وجيبه حباً لك وشوقاً وحناناً!
أية أنثى في مكاني.. ينحصر تفكيرها في شيء واحد، وهو: أن تمتلك الرجل الذي أحبته!
أنا أعرف أنني لا أقدر أن أحقق هذا الحلم.. وأنت أيضا لا تستطيع أن تسعدني لا أنت ولا الزمن.. عذابي يتجدد في فقدك الدائم.. في تطويعي لأشواقي لك.. ولكني أعجز أن امتلكك، لأنك أنت لست ملكاً لنفسك.
ترى.. ما الذي يمكن أن أفعله الآن بعد أن أصبحت حرة؟!
أن أحبك أكثر وأعنف.. وأين أنت، لأخبرك على الأقل!
هل تعرف ماذا حصدت الآن؟!
لقد باعني زوجي بالفلوس، واشتريت نفسي بالسأم للفراغ!
وأنت.. لقد بعتني نفسك لفترة زمنية بكلمة حب.. أردت أن تسعدني بها لأرتاح. ولكن.. هل ارتحت الآن حقاً؟!
بدأت الكلام معك بالخفقة وليس بالنبرة أو بالحرف.. كنت أريد أن أتخطى بحبك ذلك الصمت المفتون على شفاهنا المنفرجة بالدهشة!
كان طريقي إلى آفاقك وعالمك وجنونك وحنانك.. طريقاً مسكوناً بمناجم الأسئلة، وبآلاف النجوم التي تدلني على ابتسامتك!
أحببت ابتسامتك، حتى حسبتها عمري.. واخترعت من ولهي الصادق بك.. اجتيازاً يوصلني إلى ولادتك في حضارة روحي.. و يوصلك معي إلى ((حنان يقطر مني لأجيال))!
فمن أنت الآن؟!
ما زلت حبيبي، وكل حلمي.. ولكني لم أعد أطيق أن أطاردك لاصطاد صوتك، أو أعتقل ابتسامتك في عيني.. فقد تعبت منك أيضاً، وتعبت بك!
الآن.. أريد أن أسترخي، وأحدق في السماء.. أن أعايش تفسير ذلك الحلم الذي ضمنا معاً.. حين رأيت بيتي بلا سقف، أو السماء سقفه. أنظر.. لقد فسّر الحلم الآن!
ومن أنا الآن عندك؟!
إنني هذا ال ((جزء)) من حلم.. عَبَر حياتك، وحاول أن يكبر ويكبر ليكون هو الحلم المتكامل والوحيد.. دون جدوى!
ولست نادمة - صدقني - بل أشعر بسعادة.. فالعالم كله يتلاشى في استرخاءتي هذه.. وتبقى أنت وحدك كل عالمي!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1403  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 62 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.