شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الخامس
ـ 1 ـ
طال انتظاري لك.. حتى لصوتك الذي غاب عني!
وطوال شهر رمضان فتشت عنك.. لم تقل لي إنك ستختفي حتى من سمعي فهل تراك قصدت هذا الهروب؟!
وعندما هلّ عيد الفطر.. شعرت بتوق إليك يجرف كل اصطباري وصمودي في قسوة غيابك!
وكعادتك.. أعرف أنك لن تخبرني عن أسباب هذا الانقطاع، ولكني -في العيد- تخيلت ورأيت ابتسامتك، واحتضنت كفاي وجهك!
كنت أحب أن أقول لك مع مدافع العيد: كل عام وأنت بخير.. كل عام وأنت حبيبي.. كل عام وأنت كل حلمي، وإن بقيت في مشاعرك هذا الجزء الصغير من أحلامك!
كنت أريد أن أسألك: هل تسعد بهذا العيد بمشاعرخاصة بك مثلي.. أبتكر بها عالماً خاصاً، وأحيا لحظة سعادة مسروقة من الأحلام، وامتزج بأنفاس حبيبي؟!
لم تحتفل بعيد الفطر، مثلما كان آباؤنا وأجدادنا يفعلون.. فيصلون الأرحام، وينهون الخصومات بين الأصدقاء، ويلتئم شمل الأسر في مهرجان محبة يجعل دموع الفرح تطفر من العيون والقلوب؟!
رعاها الله تلك الأيام.. كان بيتنا يمتلئ بالأهل والأقرباء، وحتى الأصدقاء.. حتى الذين اضطرهم السفر، تجدهم يعيدون مع بداية رمضان، يجمعهم هذا العيد.. يعمق المحبة، ويجلو صدأ هموم العام كله!
ستقول لي الآن: لقد اختلفت الصورة.. بل لقد اختلفت نفوس الناس، ففي هذه المناسبة الحميمة تجدهم يهربون من لقاء المودة.. يتبعثرون في أزقة ومرتفعات وفنادق العالم.. كأنهم يهربون من المحبة!
لم يعد ذلك الرابط يحزمهم ليكونوا صورة لإطار كبير.. كل واحد منا أصبح يحب أن تأخذ له صورة لوحده!
إنها الغربة يا حبيبي!
ولعلي بدأت أشعر بهذه الغربة يوم فقدت أبي.. ثم تكثفت أكثر بعد تجربتي القاسية لأن أكون زوجة، وأماً.. ولا أدري مبلغ هذه القسوة في شعور المحب؟!
لكني بعد أن أحببتك.. أحسست أن اليوم الذي جئت فيه إلى الدنيا، كان هو اليوم الذي وجدتك فيه، لتجعل لحياتي ولوجودي معنى.. ولتقشع عن نفسي لزُوجة ونزيف الغربة!
أحببتك.. وأخذني هذا الحب، وطار بي إلى جزر الدهشة والأحلام.
أخذني هذا الحب من يدي، كطفلة.. لف بي العالم الرحب، المشع بوجهك، والمضيء بإبتسامتك، والباهر بضحكتك المميزة.. وفرحت بهذا الحب، وزهوت بما رأيت وعشت وأحسست!
تمردت على كل ما مضى.. على كل القيود والإحباطات والحزن، وانتشيت، وسموت.. ما عدت أكتفي بهذا الجزء من الحلم، بل رحت أطلب المزيد.. أن نسمو فوق الزمن.. لنبتكر زمناً يحتفظ ويرسخ معنى الحب الواحد.. الحب الأخضر دوماً!
فهل تراني كنت أحلم بالفعل؟!
عشت في شرنقة من الأوهام والأماني الكاذبة.. نسجتها بنفسي من تخيلي، ومن عاطفتي.
ضمني الألم والندم بين ذراعين قاسيتين، وخنق أنفاسي، واستعبدني!
وعندما وجدتك.. خرجت إلى الضوء الباهر منك: فراشة بأجنحة ملونة شفافة.. فطرت إلى سماء رحبة صافية من الغيم.. تحررت من العناق الخانق، ومن الذراعين القاسيتين، ومن الوهم المميت!
كنت هذه الفراشة التي تحوم حول الضوء.. تدنو منه.. تحاول الالتصاق به، ولو كان في هذا كله هلاكها.. أن ألمس الضوء.. أن يسري دفئه في ضلوعي.. أن أدخل فيه لحظة، وبعدها الموت.. لحظة عظيمة، أبدية، هي لحظة بالعمر كله، وقد يكون العمر لحظة تساوي الميلاد، والعمر الطويل الرائع!
تطلعت إليك هذا الضوء والنور الذي يحنو عليّ، ويترفق بي.. يكون معطاء ويمسح على جناحي الفراشة، ويضمها إليه دون أن يحرقها.. فهل كان ذلك ممكناً؟!
كنت أعرف أنك باعث الضوء، ومن يقترب منك سيحترق لا محالة، ولم يكن يهمني أن أحترق فيك أو بك.. بل كان يهمني أن ألتصق بك فأحترق أنا.. لتتوهج أنت أكثر!
عشت على هذا الحب، ومن أجله سأعيش ما تبقى لي في العمر.
أريد أن أحيا كل العمر، أحترق فيك.. أسمعك، وأراك، وألمسك، وألجأ إليك.. وتحتاج إلى وجودي معك لتتوهج أكثر!
آه لو تعرف كم يهمني هذا، ويسعدني دائماً أن أكون بقربك حتى لو لم نتكلم معاً.
كنت أحس بهذا الشعور، وتعهدت إليه: أن أحبك.. وأن أتعود على غرائبك وعلى جنونك، وعلى زئبقيتك.. أن أدمن وجودك بجواري!
كنت حين عرفتك أشتاق إليك.. واليوم صرت أشتاق إليك وأبحث عنك.. لا أعرف كيف أجدك.. وأين!
أحب وجودك في حياتي.. تحبني، إذن أنا موجودة!
ومضيت علواً وتصاعداً.. وبقيت أنت مكانك، ولعل نفسك قد تاقت إلى التغيير!
تعذبت في غيابك، ويشقيني انشغالك عني وإهمال سؤالي.. فضاقت بي الدنيا، وضقت بها!
حاولت أن أبقي على ما تبقى.. خفت من عتابك، وأخفيت عنك آلامي، وداريت هواجسي وظنوني، وما يدور في خواطري.
حاستي أنذرتني.. هددت أماني واطمئناني، وإحساسي الجميل بالغيرة، وبالخوف، وبالقلق، وبالحيرة!
ياه.. كيف ستعرف كم عانيت من عذاب.. حتى العذابات الصغيرة التي تتولد من غيرتي عليك. فهل تذكر؟!
لا أظنك نسيت صديقتي ((عليه)).. كانت تطمع في رؤيتك، بل إن خيالاتها تبدو منطلقة وهي تتحدث عنك، وذات يوم أخبرتني أنها عثرت عليك، وأعطيتها من وقتك الذي لا أجده وقتاً طويلاً، تحدثتما فيه بما أثار غيرتي.. فهل تعرف أنني كدت أفقد صديقتي من أجلك أو بسببك؟!
كان يعذبني أن الآخرين يجدونك، وأنا لا أجدك.. وأظن بك الظنون كأنك تتهرب مني، حتى تذوب الظنون بمجرد سماع صوتك أو رؤيتك. وكنت تقول لي ساخراً:
ـ أنا رجل عام.. يملكني الناس جميعاً والمهم.. من أملكه أنا!
إنك تقلب الصورة الطبيعية.. فالأصح أن تقول: المهم.. من تملكني!
لكن اعتزازك بنفسك يبلغ بك أحياناً حد الغرور، برغم رقتك ونقاء نفسك!
ولقد روضت نفسي.. أرغمتها على أن تقبل غيابك.. ويبدو أنني نجحت، لأنك صرت تقول لي: لقد تغيرت!
ليتني أتغير.. فلا أعود أتمناك، ولا أرجوك!
أتمنى لو يفارقني الإحساس بأني أطلب ما ليس لي، وأني أثقل عليك.. والذي أوصلني إلى هذا التمني هو شعوري بأنك أنت من تغير.. وتبقى فراشتك هائمة حائرة، خائفة تتخبط بعد أن عم الظلام!
أفتقدك كثيراً.. أفتقد فرحتي بسماع صوتك، وسعادتي بسؤالك عني.
أفتقد اهتمامك.. عينيك، وجهك، أصابع يدك المجنونة، صوتك.. أفتقد حتى غضبتك عليّ، واعتذاري لترضى.. وأفتقد كلماتك التي كنت تثير بها غيرتي، فتؤلمني وأغضب ويفلت مني اللسان، فأقول ما يغضبك.. وأعود لأصالحك، خوفاً من أن تطول غيبتك، وأنسى أنك أثرتني!
أفتقد صوتك عندما يسمح للكلمات العفوية أن تتردد من خلاله، وأنت تقول لي:
ـ أبحث عنك بالحاسة السادسة.. بالنداء الداخلي، بالروح.. وأتوقع وجودك بجانبي في لحظة احتياجي إلى أصداء من نفسي!
فهل تعني ذلك حقاً؟!
أرجوك.. أتوسل إليك.. أريد أن أراك، وأن يصل نبض يدي إلى يديك!
إنني ريشة في مهب الريح.. بلا هوية، بلا وطن لنفسي التائهة!
إنني هذه الأنثى... يحرمها المجتمع من كل الفرص، ومن الأحلام.. بمجرد أن تتزوج لأول مرة، وعندما تفشل هذه الشركة، لا تجد من يرحمها.. بل تتكالب عليها موجات من الإزدراء، ومن الإهمال.. دون أن ينظر المجتمع إلى أسباب تحطيم ذلك العش.. الذي ينقلب إلى سجن وإلى جحيم!
إنني هذه الأنثى التي تصبح التجربة الأولى في حياتها حكماً بالإعدام على المستقبل!
* * *
ـ 2 ـ
أريد أن أنام، ولا أستطيع..
أشعر بهذا الوقت الأفعواني في أي مكان أذهب إليه.. هاربة من بيتي ومن نفسي.
أريد أن أحتمي بالآخرين الذين ألجأ إليهم، كلما كان الصبح غير ممكن ومتعذراً!
أريد أن أرتاح، وأهدأ.. أن أغلق عيني وأحلم.. أحلم!
قلق فظيع.. حيرة مرة.. وحشة قاسية.. وحنين لا أقدر على احتماله، ولا على وصفه!
أنت يا أنا.. أين تكون يا حلمي الأخضر.. يا واحتي وملاذي.. أين أنت؟!
ما عادت الأماني تعطي أو تلوح.. ما عاد الخيال يجدي أو يزرع الصبر، والذكريات تزيد النار اشتعالاً!
إنني أتمزق في هذه الوحدة.. حتى صديقاتي مللتهن، لم أعد أرفع سماعة الهاتف على واحدة منهن.. لم أعد أرغب في زيارتهن، أريد أن أبقى منفردة بنفسي في غرفتي هذه.. أتوخّى صوتك، واسترجع شريط عمري.. كل ما مرّ من رؤية ومن عمى.. من فرح ومن ترح.. من أمل ومن إحباط.
أيامي.. هل ما زال يهمك أن تعرف عنها؟!
في غيبتك.. كل شيء لا يحتمل. أسأل نفسي: هل هذا حب.. أم عشق.. أم وله؟!
لا.. إنه جنون، فقد أصبحت أنت معنى كل شيء في حياتي، وملامح كل شيء، ونبض عروقي، وخفق قلبي.. سعادتي وتعاستي.. حنيني ومكنوني.
((إيزيس)) أنا.. تبحث عنك، تجوب الأمصار، وتحاول أن تلملم ما كان لها فيك ومعك.. ضاع، وتبعثر.. كأنك تحولت إلى أسطورة، أو حكاية شعبية؟!
نحن معاً في مدينة واحدة.. وكأن هناك مسافات لا نهائية تحول بيننا..
منذ أن علمت بعودتك من رحلة العمل التي قمت بها إلى باريس، وأنا مسمار مدقوق في حائط الانتظار.. أحاول أن لا أبتعد عن الهاتف.. رنينه يسعدني، ويزلزل كياني هذا الترقب!
أسري عن نفسي وأصبرها.. أقول لها: لا بد أنك تشتاق إليّ، وستسأل عني.. سأزورك في أحلامك، وأذكرك أني باقية هنا أحتاجك!
من قبل أن تسافر.. من زمن أخذ يتباعد بنا، وأنا أحاول جاهدة أن أجدك.. لكنك تمضي بعيداً إلى جزر واق الواق.. أنت رجل أسطوري.. رجل حكايات تدغدغ أحلام الصبايا.
كنت أشعر أن هناك شيئاً آخر.. غير متاعبك في العمل ومشاكله. حاولت أن أدفعك للحديث عنك، لكنك تجيد الهرب دائماً، ولم تقل لي إلا ما تحب لي أن أعرف.
حاولت أيضاً أن أكون قريبة منك.. أن أكون نفسك التي تحاورها، وتسألها، وتشكو لها.
مهما كان.. مما تريد أن تقوله، سأسمعك جيداً. فقط تكلم، قل لو أردت: إنك تحب إنسانة أخرى غيري.. تصور، إلى هذه الدرجة أرضى، المهم أن ترتاح، وتهدأ، وأجدك!
صعب أن تتحول الأنثى التي تحب إلى صديقة لمن أحبته.. لكنني أرضى بذلك، لأكون الصدر الحنون الذي ترتمي عليه، وتغتسل، وتنام!
هنا أنا على هذا الشاطئ.. وأنت في الجهة المقابلة، قد تدعوني أحياناً.. تناديني، ويصور لي إحساسي -رغم بعد الشقة- أنني لا بد أصل إليك.. أجاهد الموج والعواصف، حتى تخور قواي، وأقاوم الغرق بما تبقى لي من جهد، وأفتح عيني، لأجد الموج قد حملني وعاد بي إلى حيث كنت في الوحدة، والوحشة، والحنين لك!
عندها.. أتمنى لو أنني غرقت وابتلعتني الأمواج، حتى أكفي هذه النفس محاولة أخرى فاشلة!
ترى.. لماذا لا تحاول أنت.. هل لأني لا أستحق المحاولة منك، أم لأنك مشدود هناك رغماً عنك إلى إنسانة أخرى.. إلى عالم استحوذ عليك منذ زمن طويل؟!
لا أمل يتحقق في حياتي.. ولا يأس يريح، فهل ترى كيف أحيا؟!
حتى الجزء الذي تحقق من أحلامي.. تريد أن تسرقه مني.. تبخل به، فماذا أفعل؟!
قل لي بربك: ماذا أفعل.. لو كنت أنسى الماضي كله.. لو أفقد ذاكرتي وأنسى كل شيء، وألقاك من جديد؟!
لكني لا أريد أن أنسى ما قلته لي يوماً، أو في لحظة صدق وأسعدني!
لا أريد أن أنسى ما جعلتني به أحسد نفسي، وأشعر أنك النسمة الحانية والعطوف، وأنك تمثل واقعي وعمري وشجوني وهمومي وسعادتي!
أنت أيها البعيد في قربك.. أنت يا من لست لي:
بك استعدت ما ضاع مني، ووجدت ما افتقدت، وأعدت لي الوفاق بيني وبين نفسي.. فإذا تخليت عني ماذا سيحدث لي؟!
حاولت أن أتراجع.. فما استطعت.. ما استطعت.. إنني أصرخ حانقة عاجزة لأنني ما استطعت!
لا تدفع بي إلى الندم.. لا تثر غيرتي أكثر مما أثرت.. لا تغب عني، فأنا أحبك.. أريدك!
هل هنالك ما يمكن أن يقال أكثر من ذلك.. فيعبر لك عن كل ما في نفسي؟!
إن ما في نفسي نحوك هو الأجمل والأعظم والأعمق!
لا أملك قدرة إخفاء غيرتي عليك، وأنا أشعر من خلال كلماتك وتصرفاتك ما يوحي بأن هناك أخريات.. أنت قلتها صريحة، ولم تخفها برغم أني ما سألت. كنت خائفة من الظن والشك، فكيف باليقين؟!
ماذا أفعل.. أغار وأخاف عليك!
قد تبعدك تصرفاتي الأنانية.. ولكني أحب أن أبقي عليك، أو أبقي على نفسي داخلك فأخفي غيرتي.. وأقف هنا وحيدة أطوع النفس على أن ترضى.. أحاول أن أعوّد هذا الخافق على غيابك، وعلى نزواتك، وعلى زئبقيتك!
قد تكون الغيرة ضعفاً، وعدم ثقة كما يقولون.. لكني أعتقد أن ما يوجد الغيرة هي تلك التصرفات التي تزيد من شقوق فقدان الثقة!
الدموع ضعف يا حبيبي.. وهي حيلة من لا حيلة له، وأنا أغالبها وتقهرني، فأشعر بضعفي وقلة حيلتي، وأكره هذا.. واسترجع صدى كلمتك: أنت الأنثى المطمئنة الواثقة من عودتي إليها!
ليتني واثقة فقط مثلما تقول.. ولا أكون مطمئنة ولا راضية.. ويقتلني الخوف كلما ابتعدت.. يهدني القلق كلما غاب صوتك، وكلما رددت أن روحك عطشى لمن يفهمها.. لتوأمها، وكلما قلت لي: إن عاطفتك وحيدة تبحث عن صداها وشطرها الآخر!
ماذا تظنني يا سيدي وحبيبي؟!
حتى الحيوان الأليف.. قد يصبح شرساً وكاسراً.. إذا واجه خطراً.
لا أريدك أن تؤذيني في مشاعري.. لأنني لا أدري ما هو رد الفعل عندي، ولا أحب أن تغيب من حياتي.. مثلما أنني لا أريد أن أحاسبك على ما تفعل وتقول.. فالناس لا تحاسب على مشاعرها.. وغيابك إحساس، ووجودك إحساس.. أليس كذلك.؟!
لا أريد أن يكبلك إحساسي، ولا أن يحدد تصرفك بكلمة قلتها لي.. وإنما المهم الآن واليوم: ماذا تشعر.. وماذا تريد؟!
وإن كنت أقول لك ذلك، وأكرره.. فلا تسأم مني، إنني في حالة لا أحاسب عليها!
لست مجنونة.. وإن كنت أتمنى ذلك الآن.
ومنذ التقينا، وحتى اليوم.. أسألك: هل اقتربنا أكثر.. هل جدّ ما يمكن أن يغير ما أقول، فيأتي بصورة لا تملها عيناك؟!
في كل مرة تغيب فيها.. تأخذ معك أحلامي وآمالي وثقتي في نفسي، وتأخذ أيضاً ثقتي بعاطفتك وبكلماتك.. فهل أقوى على الصبر، وأملك الغفران لك؟!
وإن استطعت ذلك.. فهل أجزم بأن عذابي معك لم ينل من عاطفتي شيئاً؟!
مرة قال لي الرجل الأول في بيتي- زوجي مع وقف التنفيذ- هذه العبارة:
ـ إن المريض الذي يشكو مرضاً عضالاً.. عندما تعتريه نوبة ألم حاد، فإنه يتألم، ويتألم حتى يصل إلى مرحلة الغياب عن الوعي، وهذه نعمة ومنة من الله عليه!
ـ لقد حدث لي ذلك من كثرة ما تألمت مع زوجي ومنه حتى وصلت في حياتي معه إلى مرحلة فقدان الوعي والتخدير!
ويبدو أن حالتي معك.. ستتحول من جديد إلى مثل ذلك الألم حتى حالة الغياب عن الوعي!
* * *
ـ 3 ـ
عندما سألتني بعد عودتك من غياب طويل: هل اشتقت إليّ؟!
يومها.. في تلك اللحظة أردت أن أعرف رد الفعل عندك.. فأجبتك: لا.. لم أشعر بالاشتياق لك!!
ما عرفت كيف أفسر، وكيف أشرح لك.. كأنني رهينة لحالة غيبوبة أخذتني، ولكني أردت أن أنال من غرورك، أو من ((ثقتك)) بنفسك كما تصف.. أردت أن أشهد انعكاس ووقع الكلمة عليك: أن تقول لك أنثى بثقة وب ((الفم المليان)): لم أشتق لك!
طبعاً.. لقد شاهدت الغيظ، ووجهك يكاد يتميز منه، ولكنك قوي تكبت مشاعرك عندما تريد. ورسمت ابتسامة على شفتي وأنا أتطلع إليك بنصف نظرة، وأنت تبدو مندهشاً حين وقع الكلمة، ثم شردت بك خواطرك.. ربما إلى أول يوم التقينا فيه، أو أول نظرة سقطت بها صريع هوى أنثى!
فعلت ذلك معك لأستفزك.. فقد كنت أخشى أن تأخذك أنثى أخرى.. بداية أخرى، فتأخذ مني حتى عدم اهتمامك، أو حنانك وحنينك، ولا يبقى لي إلا إهمالك ولا مبالاتك، وصوت بارد من أعماقك، وكلمات المجاملة التي بلا روح!
تذكر أنه عندما تشدك أخرى بأي شكل، أو بأية طريقة من براعات النساء، في كسب اهتمام رجل.. فأنت حينئذٍ لم يعد يهمك أن تسأل عني أو أسأل عنك.
استرجع كلماتك الموحية إلى حد السخرية عندما نتحاور في إقبالك وحنينك لي.. كنت تقول بخيلاء لا أكرهها فيك:
ـ هذا يرجع لك.. فلو استطعت أن تحافظي عليّ، وتحافظي عليك في داخلي، فلن تستطيع أية أنثى أن تسرقني منك!
كنت تعرف أنك وحدك من يملك عواطفي وروحي.. بك أحلم، وأنت أتمنى؟ وحبك وحده ما يسعدني ويبني عالم أحلامي في إحساسي!
ماذا تريدني أن أصف لك بعد، وماذا أقول؟!
انتظرك، وانتظرك.. وبرغم الألم فالانتظار أرحم من اليأس منك، وأرفق من حرمان يدوم، فلا ألقاك، أو أراك!
ترى.. لماذا لا أهرب.. لا أرحل عنك وأتخلص من كل هذا العذاب؟!
وأعود.. لأفكر بقلبي: قد تحتاجني وتعود فلا تجدني.. قد تعود متألماً، قد تعود مجهداً، قد تعود ملولاً كعادتك، وتبحث عن أذن تصغي لبوحك، وعن صدر يريح متاعب رأسك.
لا بد أن انتظرك مهما طال بعادك.. انتظر طفلي الحبيب.. أضمه إلى صدري، وأمسح عنه عذابه وآلامه وحزنه، وأهدهده!
ما أحلى أن يعود الرجل إلى أنثى تحبه.. لا بد أنها وحدها هي عالمه الحقيقي.. يضحكان معاً، و يبكيان معاً، السعادة والألم.. الفرح والحزن معاً!
وتظل حبيبي أبداً وحياتي..
وتظل العمر، الضحكة والاستقرار..
وتظل الرجل الحاني في عاصفة الأحزان.
تظل حبيبي أبداً.. فإذا غبت، تكون حياتي لا أكثر من أنفاس على جدران صماء!
ترى.. ماذا يحدث لي إن ذهبت ولم تعد.. إن اخترت البقاء خارج عالمي، وخارج جنوني بك؟!
* * *
وأفقت من شرودي الطويل عندما جلست أتأمل وجهك بعد عودتك. كنت أنظر في عينيك الواسعتين، وأصابع يدي تتخلل شعرك الكثيف.. ووجدتك على غير عادتك: هادئاً، ومستقراً بل مسترخياً تحت ذراعي، وابتسمت أسألك:
ـ ما هذا الهدوء العجيب.. النهر ساكن، فأين عواصفك وأمواجك البيضاء المندفعة؟!
ـ أجبتني بصوت خفيض، مستلقياً: أريد أن أستريح.. لقد تعبت من الجري.
ـ سألتك: الجري خلف من.. أو خلف أي شيء؟!
ـ أجبتني وأنت تغمض عينيك: الجري خلف السراب.
ـ لم أجدك يائساً أو محبطاً بهذا الشكل.. ماذا جرى؟!
ـ لا شيء.. فقط أنا تعبت!
ـ قلت لك ضاحكة مازحة: تعبت من النساء.. فكم أصبح عدد رعاياك؟!
ـ أجبتني: نساء إيه.. ورعايا إيه.. أنت فايقة!
ـ قلت لك: لأ.. أنا ليلى.. ولكن تكلم، ماذا يزعجك اليوم؟!
ـ أجبتني: لست منزعجاً، صدقيني.. ولكني أشعر بحزن عميق ينتشر في أعماقي.
ـ ولم الحزن.. ما أسبابه؟!
ـ صدقيني لا أعلم.. ربما شعور خفي.. أشعر أنني سأموت!
ـ قلت مقهقهة: يا سيدي، تخفف.. وإذا مت فلا بد أنك سترتاح، فيه حد طايل الموت؟!
ـ أجبتني: بالعكس.. فالموت في عالمنا اليوم هو الأكثر، هو المتفوق على الحياة.. حتى في الحب، يقول الحبيب لحبيبه: أموت فيك.. فالموت هو السيد!
ـ ولكن.. ما أسباب هذا الشعور؟!
ـ لعلها الحاسة السادسة، والاّ مكشوف عني الحجاب!
ضربتك على خدك بلين، وأنهضتك من استرخاءتك.. وتكلمت كمن يهمس في أذنك:
ـ حبيبي.. لا بد أنك متعب جداً، والذي لاقيته في عملك كان مرهقاً لمشاعرك.. أعرفك، أنت حساس، ولكن العالم مادي، وشرس أيضاً، فلا بد أن تواجه الماديات والشراسة بصلابة، وبذلك العناد الذي أعرفه فيك، والاّ تعاندني أنا لوحدي وبس؟!
ـ أحس أنني زهدت في كل شيء.. الأشياء الثمينة في الحياة انعدمت.. بيعت بأثمان بخسة. اللحظات الحميمة بين الناس أهدرت في الخلافات والمصالح.
ـ قاطعتك: حيلك. حيلك، أنت راح تخطب والاّ إيه؟!
ـ لا.. وحتى أريحك، أقول لك باختصار: لقد استغنت المؤسسة عن خدماتي!
ـ فصلوك.. أنت يفصلوك، طيب ليه، وكيف؟!
ـ وأنا مين يعني.. لو كنت بيكاسو، وإلاّ أرسطو.. صدقيني بالتعامل المادي الذي وصلنا إليه، وبالمشاعر الأسمنتية التي غزت حياتنا.. كانوا فصلوا بيكاسو، وطردوا أرسطو، وبالوا على أرق شاعر!
ـ أرسطو يا حبيبي أرغموه أن يشرب السم!
ـ تعددت الأسباب.. والسم واحد!
لكن العصر.. ما هو واحد، العصر مختلف، لا تستسلم.
لو حدث هذا قبل عشر سنوات.. أما الآن فأشعر أنني تقدمت عشرين عاماً نحو الشيخوخة!
لكني.. ما عهدتك بهذه الروح!
تقصدين الانخذال؟!.. لا عليك. سأصب خلاصة تجربة العمر في إيداع إنساني
أعرف قدراتك يا حبيبي.. ولكن لا تبتئس. أضربها على عينها!
بلغنا حدود الصمت من جديد، وما لبث هذا الصمت أن تحول إلى شرود سرق مني انتباهي ((عادل)) وأخذه بعيداً، ولكني حمدت للشرود فائدة واحدة، وهي أنني بقيت جالسة أتأمل وجه ((عادل)) وأعب من ملامحه كعطشان يريد أن يرتوي.
وللمرة الأولى في عمر هذه العاطفة بيننا.. رأيت دمعة تنزلق من عيني عادل في شروده.. ما أصعب أن تطفر الدمعة من عيني رجل، ولكني شعرت أنها ستريحه، وتجعله يهدأ، وإذا هدأ.. فسوف يحسن التفكير!
تمنيت لو شربت دمعته تلك.. فأجفف وجنتيه، وأعيد الابتسامة إلى وجهه!
وجهه أجمل حينما يكون مبتسماً.. أليست ابتسامته هي فجر عمري الدائم؟!
وتنبه ((عادل)) على أصابعي.. تمسح دمعته. أمسك بأصابعي تلك وقرَّبها من شفتيه وقبَّلها، وحدَّق في وجهي.. وشع وجهي بالفرح، وأضاء وجهه بابتسامته الأليفة!
وركضت إليه في هذه المسافة القصيرة جداً بيننا وركضت، ولهثت، فإذا بي أرمي رأسي على كتفه، وأضمه هامسة:
ـ أرجوك لا تحزن.. أرجوك لا تتركني.. أرجوك لا تفقد ابتسامتك!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2104  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

التوازن معيار جمالي

[تنظير وتطبيق على الآداب الإجتماعية في البيان النبوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج