شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
دادة ((منكشة)) تقول
شافت حنفيتنا النحاس الكبيرة.. ونجفة القاعة في الحراج
ولم يكن هذا الوحيد الذي أخذ يعلن عن فتح الباب على السلعة التي يعرضها للبيع... اذ ما هي إلا لحظات أو دقائق، حتى امتلأت ساحة الحراج، ليس بالجمهور الكبير من الناس، وانما أيضا بصيحات هؤلاء الذين يعرضون الأمتعة للبيع بتلك الأسعار.
ويبدو أن أمّي كانت تبحث عن أي قطعة من أمتعتها التي قالت منكشة ((أنهم)) نهبوها... ولكن أين بين هذه الأكوام والتلال من الأمتعة على اختلاف أنواعها؟؟؟ كان هناك الكثير جدا من الأمتعة التي قالت أمّي فيما بعد، أنها ثمينة جدا، وأنها ((يا خسارة)) تباع بتراب الفلوس فعلا... ولكن ((فين الفلوس؟؟؟؟))... كأنها كانت تتمنّى لو أنها تملك المال لتشتري الكثير.
وفيما هي تنتقل من موقع إلى آخر، رأيت أنا العم صادق فهتفت أقول لأمّي:
:ـ شوفي العم صادق يا ففَّم.. شوفيه هناك.
ويبدو أنه هو أيضا قد رآني فتقدم منا وهو يقول:
:ـ عسى التقيتي شي يا فاطمة يا بنتي..
:ـ ولا شئ يا عم صادق.. وانت.. عسى التقيت...
:ـ عمّال ((أدوّر))... يمكن تحت هادي الأكوام... بس كيف ((نِنَغْبِر)) فيها؟؟؟
أظن ما في فايدة...
:ـ طيب.. والحرامية يا عم صادق؟؟؟
:ـ الحرامية؟؟؟
:ـ ايوه يا عم صادق... الحرامية اللي نهبوا هادي الاشياء كلها من البيوت.. همّا اللي جابوها، وهمّا اللي بيبيعوها... ما تيجي نسأل.
:ـ نسأل هادول اللي بيصيحوا.
:ـ الدّلالين؟؟؟
:ـ همّ هادول اسمهم دلالين؟؟؟ خلاص يا عم صادق نسأل واحد منّهم.
:ـ ايوه صحيح.... تعالوا معايا.
:ـ واتجه العم صادق، نحو أحد هؤلاء الذين مايزالون يصيحون.. ومشينا ـ أمّي ومنكشة وأنا ـ خلفه... وقف عند أحدهم وكان يعتلي منضدة كبيرة من الخشب، وفي يده ((مبخرة)) ينادي من يفتح الباب.. وتقدم أحدهم من الواقفين يقول:
:ـ نص مجيدي.
:ـ هيّه فضة ولا صّفر؟؟
ويجيبه الدلال:
:ـ انا ابيع الحاضر حلال... أنا مالي شغل.. فضة.. نحاس.. أنا مالي شغل، ثم يرفع صوته معلنا:
المبخرة.. المبخرة.. بنص مجيدي.
واقترب العم صادق من الدلال يسأله:
:ـ اسمع يا ولدي... فين؟؟؟ فين صاحب هادي المبخرة؟؟؟؟
ولكن الدلال، لم يجب بشي وانما ظل يكرر: ((المبخرة.. المبخرة.. بنص مجيدي...)) وإذْ لم يجد من يرفع السعر هتف.
:ـ حلال عليك... هات النص المجيدي.. وخد..
وعاد العم صادق يقترب منه وهو يقول:
:ـ يا ولدي... أنا بأسألك... مين صاحب المبخرة... وصاحب هادي الحوايج اللي بتبيعها كلهّا؟؟؟
:ـ تسألني أنا؟؟؟
:ـ ايوه يا ولدي...
:ـ لا ياعمنا.. انت لا تسألني.. ولا اسألك..
:ـ طيب... يعني اسأل مين؟؟؟
:ـ تسأل الشيخ...
:ـ الشيخ؟؟؟ طيب.. مين هوّه الشيخ؟؟؟ وفين التقيه؟؟؟
:ـ شوفه هناك.. شايف الدكان الكبير اللّي هناك؟؟ تحت شجرة النبق... هوه هناك.
كان الزحام شديدا، ونحن مع الشيخ صادق نشق طريقنا إلى ذلك الدكان الكبير، تحت شجرة النبق... وحتى عندما وقفنا عند مدخل الدكان، لم نستطع أن نرى الشيخ... كان عدد كبير من الناس واقفين أمامه وحوله.. وكانت أصواتهم تختلط، وكلماتهم تضيع في الضوضاء، وطال انتظارنا وفشلت محاولتنا، في الوصول إلى الشيخ، ولكن كان واضحا ان الناس الذين تزاحموا عليه كانوا هم أيضا يسألون أو يتساءلون حول هذه الامتعة والسلع التي تعرض وتباع في الحراج... ويبدو ان الدادة ((مَنَكْشَة)) قد تعبت، فأخذت تتكلم بنبرةٍ تنم عن الضيق... وكان العم صادق يفهم التركية، فالتفت إليها يستمهلها قليلا، عسى أن يستطيع الوصول إلى الشيخ.. وارتفع صوت المؤذن لصلاة الظهر، وكان ذلك ما جعل الكثيرين يتفرقون، فتقدم العم صادق، ونحن خلفه إلى حيث يجلس الشيخ على كرويتة عريضة، تغطيها فروة خروف بيضاء كبيرة... كان رجلا كهلا، ولكنّه نشيط يتفصد العرق من جبينه العريض، تحت ((لفة)) شال غباني كبيرة... وإلى جانبه الأيسر ما يتكىء عليه، ويسند ظهره إلى عدد من المساند من الدومسكو الأزرق الحرير.
تقدم منه العم صادق، ونحن ((أمي ومَنَكْشَة وأنا)) خلفه، وسلّم عليه ثم قال.
:ـ يا الشيخ فين نلتقي اصحاب هادي الحوائج اللي بتنباع في الحراج؟؟
وضحك الشيخ ضحكة خفيفة ساخرة وقال
:ـ اصحاب هادي الحوايج يا خويا؟؟؟
:ـ ايوه يا الشيخ.. اصحابها اللي منزلينها يبيعوها في الحراج.
:ـ قول رحمة الله عليهم.
:ـ يعني أموات يا شيخ؟؟؟
:ـ ليه أنت فين كنت عن الدنيا؟؟؟ انت ما تدري انو فخري سفرنا كلّنا بالبابور إلى ارض الشام...
:ـ إلاّ.. ادري يا الشيخ.. وأنا ما جيت من الشام إلا قبل شهرين.. يعني أنا حي واللي ماتت أم العيال ـ رحمة الله عليها ـ لكن ما لقيت من الحوايج اللي خلّيناها في البيت، إلا زير قديم والقباقيب...
:ـ يعني تبغا تقول مين اللي نهب حوايج بيتك؟؟؟ موكده؟؟؟
:ـ وحوايج بيت الشيخ أحمد صفا، رحمة الله عليه ـ هادي بنتُه معايا... جيراننا.. رجعتْ من الشام قبل يومين.. وهيّه كمان ما لقيت من الحوايج الا واحد مسند بس.
وهنا ارتفع صوت أمّي لتقول:
:ـ دادة مَنَكْشَة تقول شافت حنفيتْنا النحاس الكبيرة... ونجَفةَ القاعة... شافتها هنا في الحراج..
ودون أن يرفع الشيخ رأسه عن سبحة يعالج نظم حباتها التي انفرطت في خيط بيده قال:
:ـ. الحاصل ياخويا انت، وهادي الحرمة، تبغا تقول مين اللي نهب حوايج بيوتكم... موكدة؟؟
:ـ. ايوه يا الشيخ
:ـ. طب، ولمآ تعرف اللي نهبوا، ايش تسوّي؟؟؟
:ـ. يا الشيخ لو اعرفهم، اروح اشتكيهم للوالي.. والوالي
وهنا فرقع الشيخ ضحكة عالية وهو يقول:
:ـ. بس ما تقول لي تشتكي مين وتخلّي مين؟؟؟ دول ياخويا مئات... ايوه مئات من اللي دخلوا المدينة، بعدما خرج منّها فخري.
:ـ. يعني العسكر يا الشيخ؟؟؟
وهنا بدأ الشيخ يفقد أعصابه، أو صبره على العم صادق فقال في نبرة خشنة:
:ـ. اسمع... انا ما ادري عن شي.. ولا تسألني عن شي.. روح اسأل اللي دخلوا المدينة بعدما خرج منها فخري... تلقاهم في القشلة... وفي بيوت جعفر في العنبرية..
:ـ. طيب يالشيخ.. ولو طوّلت عليك الكلام شوية.. لو التقينا شي من حوايجنا في الحراج، نطلبها من مين؟؟؟
:ـ. اللي تلتقوه من حوايجكم.. تشتروه... ايوه تزوّدوا فيه، وتشتروه... وبتراب الفلوس...
ولا ادري، كيف كان وقع هذا الكلام من نفس العم صادق، وأمّي، فقد أخذنا طريقنا إلى حي الساحة، وهو قريب من موقع الحراج، وباستثناء ما كانت تهرف به دادة ((مَنَكْشَة)) مما لم أفهم منه شيئا، فقد التزم الجميع الصمت... وعند دكانه قبل الانعطاف إلى زقاق القفل، تركنا العم صادق، ومشينا نحن في الزقاق، الذي أخذت اتفحّصه بانتباه، وفي نفسي دهشة من ضيقه، اذ لم يكن يسمح بمشي أكثر من اثنين معا، والأعجب بعد ذلك، أنه زقاق لا مخرج له... مسدود بالبيت الذي فهمت فيما بعد، أن الخالة (خاتون) الهندية، تسكنه مع أمها وأختها... وأن أباها، قد سافر من الشام إلى الهند، وما زالوا ينتظرون عودته. ولا شك أن الضيق في الزقاق قد لفت نظري، لأننا في ترحالنا الطويل في بلاد الشام، كنا نمشي في شوارع عريضة واسعة، لا ندري أين تبدأ ولا أين تنتهي.. وقبل أن تقف منكشة عند باب بيتنا، لتفتحه لنا، رأيت هنا، بالقرب من نهاية الزقاق، معزة، وصغارها، وخروفا أبيض... وما زلت أذكر حتى اليوم، كيف تمنيت لحظتها أن أجري فألعب مع ذلك الخروف، وصغار المعزة ومنها تيس بني اللون، قد نبت له قرنان جميلان كان يحاول أن ينتهك ضرع أمه المحجوب عنه في الكيس، وهو ما جرت العادة بالحرص عليه، لاختزان اللبن حتى ساعة الحلب... ولكن كانت منكشة قد فتحت باب البيت، ودخلنا الدهليز ثم إلى الديوان إياه.
دار حوار قصير بين أمّي والدادة، أدركت منه أو حزرت، أنه حول وجبة الغداء.. وفهمت أن الدادة تطمئن أمّي على أنها تجهز لنا ما نأكله... ورأيت في وجه أمّي الاحتقان والضيق، إذ عزّ عليها أن تعتمد على ما تجود به أريحية الدادة العجوز... أخرجت أمّي من صدرها حفنة قطع النقود، التي قدمتها للجمّال، وكان كريما شهما فلم يأخذها... مدت يدها بكل هذه القطع مصرورة في منديل... وكأن الدادة كانت تجهل أن أمّي لا تملك غيرها، إذ تناولت من أمّي النقود، وأضافت تقول بنبرة اهتمام، أنها ستذهب (حالا) لتشتري لحما، يباع عند جزار ليس بعيدا عن البيت.. وازداد احتقان أمي، ولكنها التزمت الصمت... وبخروج الدادة من البيت، انخرطت أمّي في البكاء... كانت دموعها تنذرف وكأنها تتدفق والتفتت إليّ تقول:
:ـ. وبعدين يا عزيز... وبعدين مع هادا الحال؟؟؟
وكانت ساحة الديوان، والدكة نفسها بادية الاهمال وعدم العناية بحيث يشعر من يراهما أن الذي يعيش فيهما زاهد في أي مظهر ترتاح إليه النفس... صحيح أنه لم يكن هناك أثاث، سوى هذا اللحاف المهترىء، وقد أضيف إليه لحافنا، وتلك الحصيرة مبسوطة بحيث تغطي جزءا كبيرا من الدكة، ولكن ما أعجب ما استطاعت أن تفعله أمي، حتى مع هذا الفقر والهزال والاهتراء.. أعادت وضع اللحافين، ولا أدري كيف قلبت لحافنا، ليبدوا مكسوا بقطيفة خضراء نضيرة... وهذا السماور وصينية الشاي، وما إلى ذلك مما كان متناثرا حول منكشة، نقلته أمّي إلى الحنيَّة... تغيّر منظر الديوان.. بحيث عندما عادت منكشة، بما تسوقته، لم تملك إلا أن تبدي دهشتها... وأن تعبر عن ثنائها واعجابها، بكلمات تدليل وترضية... ثم تسرع إلى الحنيَّة لتجهيز الغداء، وعماده اليوم هذا اللحم، الذي اشترت معه رطبا إلى جانب الجزر والفجل والطماطم والخبز، ومدت يدها بما بقي من قطع النقد عندها إلى أمّي التي أصرّت على أن تترك لها ما بقي، وإن كان هو آخر ما تملك من مال... إذا كانت تلك الحفنة من بقية المجيدي، الذي اشترت لي منه (البرشومي) في القنطرة، تسمى مالا.
كانت وجبة الغداء هي (الرز البخاري)... ولقد كانت شهية ممتعة إلى حد جعلنا نلتهمها بشراهة... من جانبي أنا، لم يكن في ذهني إلا أني قد وجدت وجبة مشبعة... ولكن الموقف بالنسبة إلى أمّي كان مختلفا.. إذ ما كادت تفرغ من غسل يدها في الحنيَّة بمساعدة الدادة، وتعود إلى مجلسها في الديوان، حتى اعتمدت رأسها على يدها ونظرتها إلى الأرض وتركت لدموعها أن تتدفق في صمت... وما زلت لا أفهم كيف منحتني شخصية من يصغي إلى كلامها إذا أخذت تقول والعبرات تخنق صوتها:
:ـ. في هذا الديوان يا عزيز... هناك في هادا الركن كانت تجلس أمي ـ ستّك حميدة ـ ثم تغالب ضحكة خفيفة لتقول:
:ـ. تجلس في هذا الركن، بس لما يكون (سيدك) مسافر، وليّ الشيشة في يدها، وريحة (الحمّي) اللي كانت ترسل تشتريه من دكان العم صادق... ريحتهُ نُشُمّها حتى لما نكون فوق... وبعد العصر، يجونا الستات، وتدخل أمّي معاهم القاعة.. ونحنا... خديجة، الله يرحمها، وأنا وبنات الجيران، اللي قدنا في العمر، نباشر الستات بالشاهي... وقبل الشاهي مبخرة العودة... وكمان أعواد (الند)، لازم تفضل مجَمَّرة في الدهليز قبل ما يجو وكانت منكشة، قد فرغت من صلاة العصر، حين أخذت، تتكلم، وتقول كلاما لم أفهمه طبعا ولكن، عبارات التدليل والتحبب، بالتركية، كانت لا تفوتني لكثرة ما كانت تتكرر، ليس فقط بين الدادة منكشة وأمي، وإنما أيضا بين خالتي و (لتافت باجي)، تلك العجوز السوداء الطيبة التي رسخت في وعيي، ليس هذه الكلمات فقط وانما أيضا، صورة لن تنسى من عطاء النبل ودفق المشاعر الانسانية، التي يفجر الله ينابيعها الثرة فيما يختار من قلوب البشر. وكان قلب تلك العجوز، واحدا من هذه الينابيع...
والتفتت أمّي أليّ، وهي ماتزال تمنحني شخصية من يصغي إليها ويفهم، لتقول: مع آهة أو نفثة أعيتْها الذكرى التي أثارها كلام منكشة، أن تحبسها:
:ـ. داداتك منكشة بتقول انها ما تنسى ابدا ليلة ما نصّوني على ابوك في هادي القاعة وبتقول كمان أنّو سيدك ـ رحمة الله عليه ـ ما دار ووافق على أن (السنّاريّة) تعني في هاديك الليلة، إلا علشان خاطر (فاطمة عثمانية) وزوجها السيد عبد المحسن أسعد...
أيوه يا عزيز... وأنا ما نسيت كمان... (السناريّة) فضلت تغني وخالتك ناجية أسعدية، هي اللي كانت تدق العود... وواحدة جارية، بالطار (أبو شناشن) والبنات، كلهم فضلوا يرقصوا (الرجيعي). الين قريب الصبح... وما وقفهم إلا سيدك لما صاح عليهم.. هاديك الصيحة، اللي رجّت عضامنا كلنا... وليلتها بعدما خرجوا الستات، دخل سيدك القاعة، ومسك شِيَش الحمّي كلها..، كان يبغا كسرها، لكن لحقته خالة فاطمة جادة... اخدتها منو، وقالت له انها هيّه بنفسها رايحة تكسرها. دي كانت شيش غالية... مكسيّة بالفضة من الهند.
* * *
ولأول مرة، منذ وصولنا المدينة، ودخلنا بيتنا هذا، سمعت من يطرق بابا علينا... توقفت أمّي عن حديث ذكرياتها الذي أحسست أنه طال، والتفتت إلى الدادة منكشة التي نهضت وأخذت تمشي مشيتها البطيئة الثقيلة،... رأيت في وجه أمّي لهفة التوقع والرجاء... ربما كان في نفسها أن يزورها أحد من معارفها وصديقات وأصدقاء أسرتها، الذين ما زالت لا تدري عنه شيئا... لا تدري من منهم الذي عاد إلى المدينة كما عدنا، ومن الذين ماتوا هناك كما مات المئات في شوارع وطرقات وأزقة وأرصفة مساجد الشام، وحماة وحلب...
ولم تلبث أن عادت الدادة، ووقفت عند باب الديوان وقالت شيئا لم أفهم منه إلا كلمة (زقاق الزرندي)، وأن رجلا يقف بالباب ينتظر.
لمحت في وجه أمّي الاهتمام... وما كادت تسمع كلمات منكشة، حتى هبّت، واقفة وأسدلت على وجههت ورأسها، قطعة القماش التي تلتف بها في الصلاة... ثم مشت وراء منكشة، فلم أتردد من جانبي في اللحاق بهما.
كان الواقف خلف الباب الموارب، وقد تلصصت أراه من الفتحة الصغيرة، رجلا عجوزا يرتفق جبّة سوداء، كتلك التي كان يرتفقها جدي رحمه الله... وعلى رأسه عمامة، أو ما يشبه عمامة من قماش داكن اللون أو لا لون له... وسمعته يقول:ـ
:ـ. هادي بتقول، أنّو الشيخ افندي مات في الشام... الله يتغشاه بالرحمة... وانتي بنته... جيتو من الشام قبل يومين.
:ـ. ايوه يا عمي... ابويا اعطاك عمره... في حلب... وأنا وولدي جينا من ينبع قبل يومين... خير ان شاء الله.
:ـ. ولدك؟؟؟ كبير بالغ... ولاّ هوة هادا اللي واقف قدامي؟؟؟
:ـ. أيوه يا عمي... هوه هادا اللي واقف قدامك... بس ما قلت لي ايش تبغا؟؟؟
:ـ. يعني ما في أحد اقدر اتفق معاه غيرك انتي؟؟؟ يعني ما عندكم رجّال؟؟؟
:ـ. لأ... كلهم... كلهم ماتوا في الشام... بس ايش تبغا؟؟؟ تبغا تتفق على ايه؟؟؟
:ـ. قبل شهرين أنا جيت أدوّر على أبوكي رحمة الله عليه... وهادي الادمية قالت انّو لسه ماجا... قبل (سفر برلك)... وقبل ما يسفرنا الباشا، كنت أنا مستأجر الدكاكين اللي في زقاق (الزرندي)، اكثر من خمسة سنين قبل (السفر بَرْلِك) وأنا استأجرها كل سنة... والحمد لله يابنتي، رجعنا من الشام.. ماتوا اللي ماتوا رحمة الله عليهم... لكن الحمد لله، أنا والبنتين وأمهم رجعنا، وسكنّا في البيت اللي كنا ساكنين فيه، في آخر زقاق الزرندي... واللي ابغاه دحّين هوه اني استأجر الدكاكين... عشان همّا في راس الزقاق... وبيننا وبين باب السلام خطوتين... بس أبغا... أبغا الرجّال اللي اتفق معاه، ويستلم مني الأجرة ويعطيني السند زي العادة..
:ـ. يعني يا عمي ما يسير اني اتفق انا معاك؟؟؟ انا بنته... وهادي دادة منكشة تعرفني... وكمان الجيران.. العم صادق على راس الزقاق، يعرفني.
:ـ. سلامتك يا بنتي.. انا ما أكدّبك... وعارف انك بنته... انتي اسمك فاطمة موكده؟؟
:ـ. ايوه يا عمي..
:ـ. ايوه يا بنتي... انا حضرت ملكتك، على الشيخ زاهد في الحرم... هوه زاهد كمان راح في الشوطة في الشام؟؟؟
:ـ. لا يا عمي... زاهد سافر قبل (السفر بَرْلِك)... راح روسيا... بلاد القازاك... وما رجع... وما في عنه لا حس ولا خبر... بس قول لي يعني ما يسير تتفق معايا؟؟؟
:ـ. ما أقدر أقول ما يسير... بس لازم شهود يشهدوا على الاتفاق. شهود يعرفوكي.
:ـ. طيب... فيه العم صادق... راعي الدكان اللي في راس الزقاق.
:ـ. يا بنتي، انتي فيه ناس كتير اللي يعرفوكي، ويشهدوا... بيت المدني... السيد عبد الجليل والسيد عبد الله... كلهم يعرفوا ابوكي... انتي ما تدري انهم مزوّرين القازاك والتركمان أبوكي الله يرحمه.. هو شيخهم... وما أحد يجهله أبدا... انتي ما رحتي تسألي عنهم... ترى كلهم موجودين... كلهم بخير...
:ـ. الحاصل يعني، يسير انك تتفق معايا...
:ـ. ايوه يسير يا بنتي.. بس لازم شاهدين يشهدوا، على السند. ولما ادفع لك الفلوس نروح انا وانتي، ونشوف الشهود اللي يعرفوا ابوكي رحمة الله عليه.
:ـ. خلاص يا عمي... ايش الاتفاق؟؟؟
:ـ. ادفع لك في كل دكان تلاته جنيه عُسْمَنْلي... زيْ ما كنت بأدفع لأبوكي... وان كنتي تعرفي تقري... هادي السندات حقت خمسة سنين.. اقريها وانتي تعرفي خط ابوكي...
وأدخل يده في جيب بصدره، وأخرج أوراقا مدَّ بها يده وهو يقول:ـ
:ـ. وإذا وافقني... ترى أنا مستعجل... اشتريت بضاعة، وأبغا أبسط حتى لو من بكرة..
:ـ. طيب يا عمي.. أنا موافقة... وانت صادق ما يحتاج اني أشوف السندات..
بس...
:ـ. بس ايه؟؟؟
:ـ. بس، يعني تقدر تدفع لي كم مجيدي كده؟؟؟ عشان انت عارف رجعنا من الشام... وأسرع الرجل يقاطعها قائلا:
:ـ. ولا يكون خاطرك إلا زي العسل...
ثم... مد يده مرة أخرى في جيب الصدر، ثم مدها، وهو يقول:
:ـ. هادا جنيه عُسْمَلي... على الحساب... يعني لما نكتب السند ادفع لك الباقي خمسة جنيهات.. موافقة؟؟؟
وتناولت أمّي الجنيه... وحين نظرت إليها، وقد أخذت العتمة تنتشر في الدهليز، رأيت في وجهها، والدمع في عينيها، فرحة واشراقا، لعلهما أول ما رأيته بهذا المعنى على هذا الوجه منذ زمن طويل...
وحين حاولت أن تتكلم، احتبس صوتها ولكنها استطاعت أن تقول:
:ـ. عشت يا عمي... ما قصرّت...
:ـ. وانتي ما قصرتي يا بنتي... أنا بكرة في الضحى، اجي بالخمسة جنيه، والسند.. تعرفي تكتبي اسمك؟؟؟ ولا عندك مهر؟؟؟
:ـ. ايوه يا عمي... أنا أكتب واقرأ...
:ـ. خلاص... تمضي لي السند... ونروح سوا نشوف الشهود.... وترى أنا من بكرة رايح ابسط في الدكانين. موافقة؟؟؟
موافقة يا عمي... ربنا يبارك لك..
* * *
أسرعت منكشة، تشعل (المِسرْجة)... وكأن ما تم قد نفحها بشحنة من نشاط جعلها تمشي بخفة وسرعة... إلى (اللَّمبة) المعلقة على الجدار، حيث عالجت زجاجتها، ثم اشعلتها، ودون أن تجلس، أسرعت إلى الحنيَّة، وهي تقول أنها ستجهز فنجانا من الشاي.. والتفتت أمي إليّ، في مجلسي على طرف اللحاف، وقالت:
:ـ. خلاص يا عزيز... بكرة من الصبح نروح (جوّه المدينة) واشتري لك كُندرة جديدة لمَّاع. واستغربت، بيني وبين نفسي، اهتمامها، وهي تعدني بأن تشتري لي (كُندرة) جديدة لمَّاع. وألقيت نظرة على الحذاء الذي لا أدري منذ متى ظللت ارتفقه، لأرى أنه فعلا في أسوأ حال... لم يعد له لون، ولا شكل... وقد تمزقت احدى الفردتين في المقدمة، بحيث لا أشك أن اصبعين وجزءا من طرف قدمي، كان يبصبص حين أمشي... والواقع أني لم أكن ألاحظ شيئا من هذا كله... الأرجح أني قد تعودت أن ارتفق الحذاء كيفما كان... بينما هي ـ أمي ـ كانت مشغولة البال بهذا المظهر الزَّريَّ، بحيث كان أهم ما تحلم به، أن تخلّصني، أو هي تخلّص نفسها منه.
عادت الدادة منكشة، من الحنيَّة، بصينية الشاي، وعليها، إلى جانب البرُّاد والاكواب تلك (المسرجة) التي تضيء لها الطريق. ولاحظت أمي أنها كانت تردد ما يبدو كأنه (تلاوة) هامة... وكان في عينيها الواسعتين بريق قلق أو رعب. وقبل أن تسألها أمي عن جلية الأمر، وضعت الصينية بيد مرتعشة، على الأرض، ثم قالت بالتركية ما أفهمتني أمّي أنها رأت في تلك الحنيَّة ما يسمونه (الساكن)...
وكانت مع هذه المفاجأة عند (الساكن) ليلة رعب ماازال أذكر كيف قضتها أمي ساهرة، وأنا في حضنها حتى الفجر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :841  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.