شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كلمة الناشر
للحجاز ألقه الذي لا تخطئه العين، وعبقه الذي لا يتجاوزه التاريخ، وفصاحته التي نزل بها الوحي.. كان ولم يزل ملتقى للحضارات، تشكلت على أرضه بوتقة صهرت الكثير من الثقافات فوحدتها في حركة دائبة تتجه أبداً نحو التأصيل دون نفي التجديد الذي تقتضيه الحياة.. فرغم الجاهلية الجهلاء كان القوم على درجة عالية من إتقان لغتهم ومعرفة بسائر الألسنة السائدة في جزيرة العرب، بالإضافة إلى إلمام كثيرين منهم ببعض اللغات في مناطق التماس.. وكان الشعر بطبيعة الحال ذؤابة تلك الثقافة التي جمعت فأوعت.. كان الفارس والشاعر، أو الفارس الشاعر، لسان القبيلة و(وزارة إعلامها) المصغرة.. تنبت على يديه الفضائل، وتنداح مفاخر القبيلة، وحتى في صدر الإسلام، وما بعده، ظل الشاعر محتفظاً بمكانته السامية، وبقي منهم إلى يومنا هذا من ملأ الدنيا وشغل الناس.
تلك أمة قد خلت.. غير أنها لم تقطع مد ذيول عطائها وإشراقات شموسها على أجيال ممن ساروا على دروب الشعر وبين خمائله.. توسعت الأرض التي دانت للغة العرب، وتكاثرت الحواضر التي اختلطت فيها ثقافة (القادم) بتراث (الأصل).. فوجد الشعر بيئة خصبة للازدهار في الأندلس، واستمر بهاؤه إلى مبدعين واكبوا شطراً من القرن الميلادي الماضي فيما يعرفه بشعراء المهجر، وأحسب أن آخرهم كان الشاعر الكبير زكي قنصل، الذي شرّف ((كتاب الاثنينية)) بنشر أعماله الكاملة في ثلاثة أجزاء عام 1416هـ - 1995م. . وكأن الشعر كلما استشرفه الغربة استطال بعنقه ليلثم أشعة الشمس ويملأ رئتيه من أنفاس الحرية وخصوبة الخيال والتزود بالحنين إلى الأوطان ومرافئ الشباب وملاعب الصبا.
وفي التفاتات غير قليلة أومأ الشعر والشعراء إلى ارتباط وثيق و(حبل سري) يجمع بين الشعر والغربة.. ومن أكثر المثقفين الذين ارتدوا الغربة وشاحاً زمناً طويلاً شريحة (السفراء)، وغيرهم من الدبلوماسيين، فأهاجت فيهم مختلف العواطف، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: أصحاب المعالي والسعادة الأستاذ محمد حسن فقي ((رحمه الله))، والدكتور غازي القصيبي، وحسن عبد الله القرشي ((رحمه الله))، وشاعرنا المكي الذي نشرف بالدخول إلى عالمه من خلال هذه المجموعة الكاملة، الأستاذ محمد صالح باخطمة.. فكلهم من الرعيل الأول من الدبلوماسيين الذين أسهموا في تأسيس صرح دبلوماسي سعودي عُرف بالتؤدة والتمسك بالحق والقيم النبيلة على مستوى العالم كله.
والمتأمل في شعر الأستاذ الكبير باخطمة يجد أنه ينزع إلى التساؤلات في كثير من شعره، الأمر الذي يشير إلى واقعية تجربته الشعرية، فالتساؤل لا يكون من طرف واحد، بل يحتاج إلى جانب أخر قد يكون المخاطب في القصيدة، أو القارئ، أو من يلتمس فيه الشاعر رمزاً للمشاركة الوجدانية فيما يعتمل في نفسه.. وهو أسلوب يجذب القارئ، وقد يدفعه لإعادة القراءة ربما أكثر من مرتين للوقوف على أسباب التساؤل، ومحاولة الإجابة على طرح الشاعر الذي يتراوح بين قطبي الوضوح التام، والغموض والضبابية اللذين يكتنفانه من كل جانب.
إن عمق التجربة الشعرية لدى أستاذنا باخطمة يظهر جلياً في تأثره بمدرسة شعراء ((المهجر)).. فهو شاعر مطبوع في المقام الأول، استطاع أن يوظفه قاموسه الشعري المميز لينقل المتلقي إلى الأجواء الشفيفة التي عاشها خلال الظروف التي أدت إلى ميلاد كل قصيدة، فمعظم قصائده ذات جذور وتجارب حقيقية مرت بحياته، وكذلك له شعر في مجال ((الإخوانيات)).. وحتى عندما يستخدم (الرمز) فإنه يحيطه بكل ما يعين المتلقي على فك شفرته والوقوف على حقيقة الأمر.. ولعلّ هذه البساطة في التوجه، مع وضوح الهدف والغاية، قد وجدت أفضل مسار مع اتجاه شعر المهجر.. بالإضافة إلى طبيعة الشاعر التي لا تميل إلى غليظ القول ووحشي الكلمات.. لذا نراه يتغنى مع الغاب، والأنهار، والشمس والقمر، وكثير من مفردات الطبيعة التي تلهمه هدوء النفس ومرافئ السكينة ومنابع الجمال أينما كان.
لقد اختار شاعرنا الكبير أن يجعل أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أقسام : أحدهما ((شعر الصبا))، والثاني ((شعر الشباب)) والثالث ((شعر ما بعد الشباب)).. وهو تقسيم له ما يبرره، وان كنت أحسب أن معظم الشعراء لم يكثروا منه، ففي تصوري أن بعض ما يعتقده المتلقي من شعر الصبا لدى شاعر ما قد يكون أتى في مرحلة متأخرة من العمر، كما أن شعراء رحلوا عن الدنيا في شرخ الشباب تركوا لنا شعراً ينبض بالحكمة والزهد وعمق التجربة الذاتية أو المستقاة من تجارب الآخرين ثم تمثلتها مخيلتهم الخصبة.. بيد أن أستاذنا آثر أن يضع حداً فاصلاً بين مرحلتين في عمره بإذن الله بحيث يكون لكل منهما خصائصه في إبداعه الشعري.. ولعلّي في هذا السياق أشير إلى أن بعض كبار الشعراء قد أبدعوا أشهر قصائدهم في سن الشباب، والأمثلة على ذلك كثيرة ومن أبرزها شاعرية طرفة بن العبد التي امتدت منذ العصر الجاهلي إلى يومنا هذا وقد جاءت كلها في شرخ الشباب نظراً لأنه لم يعش أكثر من ذلك.. وكذلك أبو القاسم الشابي الذي نبغ وبهر توهجه كل محبي الشعر العربي ثم انتقل إلى دار البقاء وهو في بدايات الشباب.
إن الأعمال الكاملة للأستاذ الشاعر الدبلوماسي محمد صالح باخطمة تزخر بالكثير من الصور الجمالية التي تستحوذ على مشاعر القارئ وتجعله ينساق وراءها متأملاً تفاصيلها وزواياها وظلالها، فهي تأتي عفو الخاطر لكنها تنبئ عن قاموس خاص بالشاعر له قدر كبير من المخزون اللغوي المميز والألوان يسيطر بها على لوحاته الشعرية، خاصة ما في باب شعر المناسبات، فلا تشعر معها بأي تكلف أو صناعة تفسر القوافي أو تجنح إلى تحميل الكلمات فوق طاقتها، وتجعلها رموزاً ذات دلالات لا يعرفها إلا القليل من الناس، فيخرج الشعر عن مقتضاه الجمالي إلى أن يتحول إلى رسائل ((شفرة)) بين مجموعة محصورة ممن يدورون في فلك الشاعر!! لقد أفلت شاعرنا الكبير من تلك القيود ببراعة، فجعل شعره الجميل متاحاً للجميع وإن لزمته المواربة في بعض المواضيع فذلك من باب التخلق بالآداب الإسلامية الرفيعة التي تنأى عن التصريح وتكتفي بالتلميح في بعض المواضع التي تقتضي ذلك.
إن الدراسة القيمة التي أفضل بها الأخ الأستاذ صابر عبد الدايم، أستاذ الأدب والنقد بجامعة أم القرى، تشكل حزمة ضوء لا غنى عنها للقارئ الذي يستهويه هذا الديوان.. ففيها من الإشارات والإيماءات الرصينة ما يُغني عن تكرار كثير من الآراء.. فإلى حديقة شاعرنا الكبير، وما فيها من إبداعات تثري معظم الحواس.
عبد المقصود محمد سعيد خوجه
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1683  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج