شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رحلة المثقفين إلى الأعماق
وقد يحسن أن نقول إنها (رحلات) المثقفين عندنا، وليست رحلة واحدة، وذلك لأن كل رحلة تختلف عن الأخرى في اتجاهها، وإن كانت دائماً لا تقتنع بالسطوح، بل تصر على بلوغ الأعماق بعيدة الغور. وفي هذا يختلف جيل المثقفين من أبنائنا وبناتنا، عن الجيل أو الأجيال التي إن كانت قد ملأت فراغ الساحة الفكرية والثقافية حتى اليوم، فقد آن لها ولنا أن ندرك الفرق بين ثقافة (الإلمام من كل شيء بطرف)، وبين الثقافة التي تتطلع إلى تجاوز مجرد (الإلمام) إلى الإحاطة والاستيعاب والتعمّق فيما تعالجه أو تعايشه من شؤون وقضايا الفكر.
والنماذج التي أصبحت تتألّق في حياتنا الثقافية أو الفكرية كثيرة في الواقع وكثيراً ما استثارت إعجابي، الذي أعترف أنه لم يكن يخلو من الدهشة، ولكنها دهشة الأب الذي يفاجأ بأن الأبناء والبنات، الذين أو اللاتي رحلوا أو رحلن في طلب العلم، قد عادوا، أو عدن بأكثر مما كنا نتوقّع لهم من النجاح.
ومن هذه النماذج، هذه الآنسة (ندى جميل برنجي)، التي نشرت (الأربعاء) من جريدة المدينة المنورة الغراء، حواراً بينها وبين الابن (عدنان خليدي)، عن الماجستير التي فازت بها الآنسة ندى في الأدب الفرنسي.
اختارت الآنسة ندى رواية لجوستاف فلوبير، هي (بوفار، وكوشيه) لرسالة الماجستير وهي آخر أعمال الكاتب، التي ترك أصولها - (ربّما ناقصة) - قبيل موته وربما كان ذلك يتفق مع رغبتها في التفرد ببحث عن أعمال فلوبير، لم يسبقها إليه أحد، من الكثيرين الذين درسوا فلوبير في أعماله الأخرى الذائعة الصيت، مثل (ما دام بوفاري) التي يكاد لا يوجد في العالم مثقف لم يقرأها في لغته، أياً كانت، لأنها فيما أعتقد قد نقلت إلى جميع لغات العالم وفلوبير هو صاحب المذهب القائل (الكلمة الصحيحة في المكان الصحيح) وصاحب الأسلوب الذي يمكن أن يوصف بأنّه (السهل الممتنع) إذ يبدو سهلاً في السطح، بينما لا تكاد تمضي في استيعابه حتى تتراءى لك الأعماق البعيدة، التي تستنفد الجهد في الغوص عليها والفوز أو العثور على حبات اللؤلؤ في مواقعها وأصدافها. ومما يذكر عن رواية مدام بوفاري هذه أنه قضى في كتابتها أكثر من خمس سنوات، فما كادت تنشر وتتداول حتى قابلتها الحكومة والسلطة بإجراءات قانونية لاحقت الكاتب والناشر على السواء، لأنها (انتهكت حرمة الأخلاق والدين).
ويضيق مجال هذا العمود المحدود عن محاولة إعطاء فكرة، عن فلوبير الذي اختارت الآنسة ندى جميل برنجي بحث رسالة الماجستير عن روايته التي تعد رائعة من روائع النقد الساخر بخواء المعرفة الإنسانية، و(عاميّة) الطبقة المتوسّطة في المجتمع الفرنسي. ولا أشك في أنها قد عانت كثيراً، وبذلت جهداً طائلاً، في متابعة بحثها في اللغة الفرنسية، لأن المكتبة العربية - على حد علمي - لا تزال متواضعة فيما نقل إليها من أعمال فلوبير، وسيرة حياته، وعلى الأخص هذه الرواية التي لا أشك أن أحداً لم يعن بعد بنقلها إلى العربية.
وأنا سعيد، بأن أكتشف من فتياتنا من تخصّص في الأدب الفرنسي، وتتقدم هذه لدرجة الماجستير، وتتمنى - كما قالت - أن تتقدم برسالة للدكتوراه. وقد يسعدها أن تعلم أنها سوف تجد عند عودتها، من يتعشقّن اللغة الفرنسية، من فتياتنا المثقفات الجامعيات ومنهن الآنسة (قدرية علي عوض) في جامعة الملك عبد العزيز، والآنسة (فاطمة دليم العسيري) المذيعة في القسم الفرنسي في إذاعة المملكة، والتي لا أكاد أصغي إليها حتى تعاودني الرغبة في استئناف دراسة اللغة الفرنسية.
وبمناسبة هذا الحديث العابر عن (جوستاف فلوبير)، وعلاقتي التقليدية بأدب (أوسكار وايلد)، أود أن أذكر أن مسرحية (سالومي) التي كتبها وايلد، وأضافت إلى مجده الأدبي كانت، من وحي قصة قصيرة لفلوبير هي (HÉRODIA) وذلك مما يحفزني أحياناً إلى دراسة القصة في اللغة الفرنسية، عندما أكتب دراسة موسّعة عن وايلد).
وبعد.. أفليس من الحق، أن نقول وداعاً لثقافة (الإلمام من كل شيء بطرف)، وأهلاً ومرحباً بجيل المثقفين من أبنائنا وبناتنا في حاضرنا، وفي مستقبلنا الذي أرى كيف تسطع فيه الكواكب والشموس.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :776  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.