شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نظرة الفنّان أحياناً؟!
ليست نظرة الفنّان إلى الناس والحياة دائماً نظرة صائبة مرضية. ولا أنسى، كم كان يفجعني صديق فنان، بنظرته إلى الجمال... وبنظرته أيضاً، إلى الطهر والبراءة في الأطفال... نظرته إلى الجمال، يمكن أن نمررها، إذ قد تكون نتيجة لعقدة أفرزها حادث ما في علاقته بجميلة... بل قد تكون نوعاً من منطق الاقتناع، بأن هذه الروعة التي تشع في المحيا، وذلك الدلال الذي يراقص القلب والوجدان، ستار، للمجهول الغامض المستتر من حيث الفتنة، وتوحّش الرغبة في الامتلاك والتسلط حتى الإذلال... فإذا سمعته يرى في هذا الجمال الذي يبهر الأبصار قبحاً وشوهاً، فإن عليك - أو لك - أن تحتوي الخلفيات في ذهنه، والمنطق في فلسفته. وعندئذٍ، يسعك، أن تمرر قسوة النظرة، وأن تعتبرها نوعاً من (التشريح) النفسي، الذي يولع به الفنّان أحياناً، كما يولع الجرّاح أو دارس الجراحة بتشريح جثث الموتى.
أما نظرته إلى الطُّهر والبراءة في الأطفال - وأعني الأطفال في مراحل الرضاع، والحيوان إلى مراحل الحركة والمشي - فإني لم أكن أطيق، ما يفضي، ويفيض فيه من نظرة لا أجد ما توصف به إلا أنها سوداء منحرفة عن المسار الطبيعي والسليم.
البراءة وطهر النفس، وعفوية التصرف أو تلقائيته، هي أول ما يطالعك ويملأ مشاعرك بالحب في وجه الطفل... إنك لا تملك وأنت تتأمل ذلك النقاء الذي يموج في نظراته إلا أن ترى مشاهدَ من عالم لا يسعك، إلا أن تسلّم بأنه عالم السلام والحب والصفاء... فما أكثر ما طال بيني وبين صديقي الفنّان، ومعه أمثاله في مراحل مختلفة من مسيرة الصحبة والرفقة، من الجدل حول تلك النظرة السوداء بالنسبة لبراءة الأطفال وعفويتهم... من جانبي لا أطيق أبداً أن أتصور أن هذا المحيا البريء ينطوي على المكر والخداع والخبث واللؤم الخ ما تنفثه تلك النظرة السوداء المنحرفة لدى هذا الفنّان - الشاعر - أو ذاك.
عندي أن تلك النظرة السوداء الظالمة - إذ يمر عليها الفنّان، ليست إلا حصيلة تراكمات (الأنانة) التي ابتكر لها فلاسفة علم النفس اسم (سوليبسيزم) (Solipsism) التي تقول: لا وجود لشيء في حياة الإنسان إلاّ (الأنا). فهو يرى الحياة بمنظار هذه (الأنا) التي ترى أن الجمال، والبراءة والطهر... وما إلى ذلك من معاني السمو وإبداع الخالق، كلها تنحصر فيه هو، بمفهومه ومنطقه الأناني الخاص، الذي يرفض أن يكون لهذه المعاني وجود في (غيره هو) وبالتالي فلا وجود لها من الأطفال، أو أن وجودها فيهم، ليس أكثر من قناع يخفي وراءه المكر والخداع واللؤم.
ولم يكن صديقي الذي أتحدث عنه هو الوحيد أو الفريد في هذه (الأنانة)... إذ وجدت فيما قرأت من أعمال الشاعر الفنان (عبد الرحمن شكري) أحد أفراد الثالوث الذي حرّك موجة الدعوة إلى تجديد الشعر العربي، في مواجهة كلاسيكية شوقي وحافظ... وجدته يقول بـ(إني أرى على وجوه الأطفال ما تكنه نفوسهم من بوادر الجشع، والبخل واللؤم، بل والقسوة أيضاً... ولكن ضعفهم وقلة حيلتهم تسدل على هذه الملامح حجاباً مضيئاً رقراقاً كالسراب).
وفي سيرة حياة هذا الشاعر الكبير، أنه انطوى على نفسه، واختار العزلة عن المجتمع سنين طويلة... ولا شك أن العوامل التي اضطرته إلى هذا الموقف من المجتمع ككل، هي قبل كل شيء الشعور بالذات - في مواجهة حملة المازني والعقاد عليه - وهو نفس شعور (الأنانة) بتراكماته، إلى حد تعذّر معه عليه أن يرى غير نفسه هو، وحدها، ولا شيء غيرها.
حين قرأت هذا الذي كتبه الفنّان الشاعر عبد الرحمن شكري، عن وجوه الأطفال، مر بذاكرتي صديقي الفنّان، ومعه غيره ممّن استغني - ويستغني القراء - عن ذكر أسمائهم، الذين لم تكن نظرتهم تختلف كثيراً عن نظرة المرحوم عبد الرحمن شكري، وليس فقط بالنسبة للأطفال وإنما بالنسبة إلى الجمال، ومعاني السمو وإبداع الخالق، حتى في الشجرة، أو الحقل، أو السماء الصافية.
كانت حجة بعضهم أنهم (تجريديون)، يرون الأشياء في هيكلية بنائها، التي لا تختلف مهما تعددت الشخوص، والمخلوقات... فهم قبل أن يكرعوا من كؤوس الإبداع وروعة الجمال يخترقون (الأديم)... يسلخون هذا الأديم، لتظهر لهم الأمشاج والعروق، وخلفها الهيكل العظمي بكل بشاعته المقررة ومبعث الرهبة فيه.
ولي أن أتساءل، ويتساءل معي القراء، كيف يتفّق هذا التجريد، مع طبيعة الفنّان... مع ما نفترضه له من المشاعر الرقيقة، والإحساس المرهف، والتفاعل الدائم مع موضوع الجمال.
واسمع بعضهم يجيب: تلك حقيقة الحياة، التي تراها عين التجريد، إذا كان صاحبها فنّاناً أصيلاً وأجد نفسي أرد، بأنها عين (الأنانة) (Solipsism) التي تقول: (لا وجود لشيء غير الأنا).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :750  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 75 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالله بلخير

[شاعر الأصالة.. والملاحم العربية والإسلامية: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج