شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
لحن الذوق الشبابي... في أغنية (من غير ليه)
لا تزال الأغنية التي غناها الأستاذ محمد عبد الوهاب بعد توقفه عن الغناء أكثر من ثلاثين عاماً... لا تزال تستعمر أسواق الكاسيت، والتلهف على سماعها في مصر، وربما في غيرها من العالم العربي، يتزايد يوماً بعد يوم. ولعل مما رفع درجة الإقبال عليها، القضية التي أقامها ضده من وجد فيها تجاوزاً للثوابت في العقيدة الإسلامية، وطالب بسحبها ومصادرة أشرطتها من الأسواق،... ومع أني قد سمعت الأغنية، وأعجبت بصوت الأستاذ وهو في هذه المرحلة من العمر، ولكن كان ما أحسست به أن تلحينها قد تخلف عن بعض المعاني التي جاءت في كلمات شاعرها الراحل مرسي جميل عزيز، كما أن توزيعها الأوركسترالي ذهب إلى محاورة مسايرة الذوق الشبابي الدارج، وهو ما يبدو لي أن الأستاذ قد فشل في تحقيقه.
وبعض القراء قد يرفضون أن أتحدث أو أكتب عن الموسيقى إذ يرون أن للسن العالية التي بلغتها إطاراً من اللياقة يستصعبون أن أخرج عنه، أو أن أتجاوز حدوده... وفي مثل هذه النظرة يكمن إحساس كونته الرواسب التقليدية التي تضع الموسيقى ومعها الكثير من الفنون في قائمة المكروه أو المعيب أو حتى المحظور الممنوع. ومع أني أفضل أن ألتزم بالحدود فلا أتجاوزها، وبالقيود فلا أحاول كسرها، فإني كثيراً ما أتساءل: كيف يا ترى استطاعت الموسيقى خاصة أن تفرض وجودها على الإنسان؟؟ بل ماذا نسمي تغريد الطير، وشقشقة العصفور، وحفيف الأشجار، وخرير المياه في الأودية، وبين الجداول والغدران، وزفيف الرياح، وحتى نقيق الضفادع، وصرير الجنادب في هدأة الليل؟؟ إنها كلها موسيقى الكون، وفي تناسقها وتوافقها وانسجامها مع مشاعر السامع مَوْسقة للحياة فيها من الإبداع بقدر ما فيها من عفوية الأداء. ثم هذه الأوزان في الشعر العربي، وغير العربي، بل هذا الجرْس (الخفي المبين) في روائع النثر في أي لغة من لغات العالم، وتلك الغنة الناعمة الهائمة في حديث عذراء رعبوب، أو مناغاة طفل محبوب، أو في هديل قمرية تستقبل تباشير الفجر... ماذا كل ذلك، إن لم يكن العناصر التي فرضت الموسيقى على الإنسان؟
ما علينا إذن، أن يرفض بعض القراء هذا الحديث يخوض فيه من طوى الأيام والسنين وتجاوز قمة السبعين، فإن ما بدا لي أن أعالجه اليوم، هو ما تعبّر عنه الموسيقى بعد الخمسينات تقريباً من هذا القرن. وأنا أعني هذه الموسيقى التي يتهافت عليها، ويكاد لا يطيق أن يسمع سواها، الشباب والنشء في كل بلد من بلدان العالم. ولا أعرف ماذا أسميها، وإن كان ابن السابعة اليوم يعرف لها الأسماء والأنواع، ويحس بما يزعمون لها من الروعة والإبداع.
فلماذا يا ترى يتهافت الشباب والنشء - ومنذ بداية الخمسينات من هذا القرن - على هذا النوع من الموسيقى؟؟ وإذا لم ننس أن مواليد الخمسينات قد بلغوا الأربعين من العمر، ولا يزالون يتهافتون على نفس النوع، فالأرجح أنهم سيظلون معها حتى ولو بلغوا الثمانين والدليل على ذلك لحن هذه الأغنية التي سمعناها من الأستاذ محمد عبد الوهاب.
عندي لذلك تعليل قد يكون عفوياً بسيطاً، ولكن لا أستبعد أن يوافقني عليه العلماء الأكاديميون... وهو أن العالم، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، يعيش الرعب والفزع وتترسب في أغوار نفسه مخاوفه الدائمة من تلك الحرب الذرية التي إذا نشبت فلن تبقى ولن تذر... وكما كان سكان الكهوف والمغاور يعيشون الخوف والرعب من الليل، ومن كل ما ظل يهددهم بالفناء من الأخطار، فإن سكان الدارات والقصور اليوم يعيشون الرعب الكامن في كل لحظة من العمر، وفي كل خلجة من خلجات النفس... وهذه الموسيقى هي الأقدر بضجيجها وصخبها على التعبير عن هذا الرعب والفزع... فهي رد الفعل للانهيار النفسي الذي يعانيه الإنسان، وهي الانعكاس العفوي للزلزال العنيف الذي لا يجد متنفسه إلا في الصخب والضجيج. ولعل مما يؤسف له أن (من غير ليه) لم تحقق ما يتلهف عليه الشباب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :687  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج