شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بوتقة الصهر
ولا أظن أننا نحتاج إلى تعريف هذه البوتقة التي يستعين بها أصحاب مهنة معالجة المعادن لصهرها، بغرض تشكيلها أو مزج أنواعٍ منها بحيث يتاح لهم الحصول على تركيبة أو تراكيب معيّنة جديدة تحقق الأغراض الصناعية المتعددة.
ولكننا نحتاج إلى تعريف نوعٍ آخر مما يدخل في معنى (بوتقة الصهر)، وهو: (بوتقة صهر أبناء آدم وحواء، من جنسيات وأصول وأعراق مختلفة)... بحيث يكون حاصل عملية الصهر شعباً واحداً أو أمة واحدة تنتمي إلى دولة واحدة، بما لهذه الدولة من سيادة على الأرض، تدافع هذه الأمّة عن كل ذرّة رمل فيها، بل قد لا تتردد في الاشتراك في حروب، ضد دول بينها من انحدّر منها أولئك الذين عالجتهم بوتقة الصهر فأصبحوا أبناء تلك الدولة الواحدة.
والولايات المتحدة الأمريكية، تأتي في طليعة الدول التي استطاعت أن تصهر في كيانها الواحد عشرات الأجناس والأعراق، قد يكون الأوروبي في مقدّمتها، ولكن هناك غير الأوروبيين من أجناس الكرة الأرضية... وقد يذكر الذين عاشوا أيام الحرب العالمية الثانية، أن إيزينهاور، وهو ينحدر من جد ألماني، كان القائد المحارب الذي قاد قوات الحلفاء في اقتحام أوروبا، إلى أن قضى على ألمانيا النازية بكل ما كان لها من قوة قاهرة وعنفوان كادت تسيطر على العالم، بما فيه إنجلترا، تلك الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عن مستعمراتها.
وبهذه الذكرى في ذهني، حاورت أكثر من أمريكي، في العدد القليل من الولايات التي أتيح لي أن أتواجد فيها، ومنها جزر هاواي، ((وهونولولو بالذات))، كيف يفسّر انتماءه إلى أميركا، وهو كما يبدو من أصل آسيوي، ومع من يقف أو يحارب، إذا حاربت أميركا الدولة التي انحدر منها جدّه أو أبوه - مثلاً - وكان تفسيره العفوي الذي لا يتردد لحظة في الإفضاء به، أنه ينتمي إلى الدولة التي يرتفع على ساحلها المطل على المحيط الأطلنطي تمثالُ (الحرية). ثم يضيف، (أين في العالم، حرية كهذه التي تعيشها أميركا... ومن البديهي أنه يقف معها إذا حاربت الدولة التي جاء منها جدّه منذ أقل من مئة سنة... وهو يعلم أن جدّه إنما هاجر إلى أميركا أو لجأ إليها هرباً من الظلم والطغيان، والقهر والقمع والإرهاب).
ولم يكن تفسير سيدة ألمانية، لا تزال تتكلم اللغة الألمانية إلى جانب لغتها الإنجليزية بالطبع، بعيداً عن التفسير الذي سمعته من ذلك الآسيوي، وكانت (الحرية) بمفهومها الذي رسّخته عملية الصهر الدقيقة، هي الكلمة التي تتردد في حديثها الطويل الذي ظلت تقارن فيه بين مفهوم الحرية في أميركا، ومفهومها، في ألمانيا التي هاجر منها جدُّها وجدّتها - وهي على فكرة ليست يهودية - قالت: (كان في ألمانيا دستور، وقانون يقرر بعض حقوق الإنسان، ولكن كان هناك - في أيام الإمبراطورية الألمانية - ذلك الإقطاع الذي تتمتع به طائفة منه الملاّك، ينحني لها ويُسخّر لخدمتها الجميع، تقريباً، وأضافت: (وكان اليهود في تلك الأيام هم الذين يسيطرون على سوق المال والتجارة، ولا يختلفون عن ملاّك الأرض من الإقطاعيين الكبار... وهذا هو الذي جعل النازيةَ في أيام هتلر تنقم عليهم، وتعاملهم بما يُذْكر من قسوةِ وحشية وإرهاب ربما لم يسبق له مثل).
أما الاتحاد السوفييتي، وهو الذي يجمع في كيانه الضخم، عدداً كبيراً من الشعوب لكل منها لغته، وتراثه، حاول لينين ثم بعده، ستالين أن يصهرها في بوتقة (روسيا) وبعد انقضاء أكثر من ستين عاماً على حكم الحزب الشيوعي الواحد، بكل ما عرف به من ممارسة فنون القمع والإرهاب، والقتل بمئات الألوف، وتهجير قوميات من أرضها إلى أراضي قوميات أخرى، بغرض الصهر والوصول إلى (روسيا واحدة) فها نحن نسمع في عهد جورباتشوف، كيف انكشفت عمليات القمع والإرهاب، وكيف أخذت شعوب آسيا الوسطى بل والشعوب الأوروبية أيضاً تثبت للعالم، أن بوتقة الصهر الروسية التي اعتمدت على القمع والإرهاب واغتيال الحريات بجميع مفاهيمها، وفرض قانونها أو قوانينها في إلغاء أو محو حق الفرد، في الكسب، من عرق جبينه الذي يُهدَر، لتتملكه الدولة وتتصرف فيه بوسائلها، تحت شعار (ديكتاتورية البروليتاريا) أي ((طبقة العمّال))، والدعوى الخائبة، القائلة: (من كلٍ حسب قدرته، ولكل حسب حاجته)... إن بوتقة الصهر الروسية، لم تحقق الصهر المنشود، ولم تستطع أن تمحو من ضمائر شعوبها، انتماءها إلى أعراقها، ودمائها وتقاليدها، ولا حاجة إلى شرح الأسباب، فهي أشد وضوحاً من أن تُشرح... إنها (الحرية)، التي هاجر إليها أولئك الذين عانوا في بلدانهم، فنوناً من القمع، والإرهاب، ووجدوا في أميركا، أنهم (أحرار) فعلاً... وحسبهم أن الواحد منهم، يستطيع، أن يمتلك ما يستطيع أن يكسبه بعمله، وأن يرشح نفسه إذا شاء لرياسة الولايات المتحدة بأسرها... وذلك حق كفله له الدستور أو القانون أو الحقوق... وليس بعيداً عن الأذهان ((جيسي جاكسون))، الذي لا يزال يؤمن بأنه سوف ينجح في انتخابات الرياسة القادمة، بل أمامنا، هذا الأسود الذي اختير، قائداً عاماً للقوات المسلّحة الأميركية، لأوّل مرة في تاريخ الولايات المتحدة... ولا ننسى أن هذا الأسود، منحدّر من ذلك الجد الذي جاؤوا به من أفريقيا، ((عبداً رقيقاً))، لخدمة السيد الأوروبي أيام زمان...
ونتساءل، هل يأتي يوم في مستقبل الأمة العربية، تستطيع فيه بوتقة صهر، كالبوتقة الأمريكية، أن تصهر شعوب الدول العربية، فتنسيها كل انتماء، إلا الانتماء إلى الأرض العربية من الخليج إلى المحيط؟؟؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1252  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.