شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رد الأستاذ أحمد المحمد السليمان التركي العدل وأشياء أخرى
قد يحسد الأستاذ الكبير عزيز ضياء على أشياء كثيرة ليس أقلها حب الناس واحترامهم وبالأخص وحيث استأثر حفظه الله بتقدير الشباب والجيل الصاعد بمواقفه النيرة ومسيرته الوطنية وبعد عمر طويل حافل ما زال أمد الله في عمره يتصدر الساحة داعياً للإصلاح والعدل، والوحدة، يختزن هموم الأمة وينطق بأمانيها ويرنو لمستقبلها عبر مسيرة الكفاح والتجارب بل بالرغم من مسيرة الكفاح والتجارب (وتكاليف الحياة) فأنت تراه أيده الله لا يفل ولا يكل بل يزداد إصراراً، والتزاماً وصلابة ووضوحاً في الرؤية أيضاً.
وبالأخص فإن الشق الأخير من الصورة يستهويني شخصياً بل يدهشني، فإني بكل صدق أعجب من قناعات الأستاذ الكاملة، الواضحة، المحددة والتي لم تعد متداولة، فهذه الصورة الحية السافرة قد لا تتناسب ونبض الحياة ووتيرتها أو مضمونها. فهذا عصر (الاتصالات) والسوق (الحرة) وتذبذب العملات والعمولات والمفاهيم والتقديرات ولا نقول القيم. ومع هذا فالأستاذ يصر أن يكون التعامل على أساس (العدل) (الرياض العدد 6931 في 18/10/1407هـ) وعلى مكانة الفرد في مواجهة الأنظمة والتي ترتبط في نظر الأستاذ بالحرية الاقتصادية أو النشاط الاقتصادي الخاص الذي يكفل الحريات والوجود الإنساني وهكذا فإن القطاع العام كمخلب القط قيود وسلاسل يشل الحركة ويقيد الإرادة وينخر كالداء في عظم الأمة وهيكلها غواية شيطانية أو وكر يرتع فيه (الأبالسة) على حد تعبير الأستاذ أو وفق سياق المنطق في مقالته عن تاتشر (الرياض العدد 6931 في 19/10/1407هـ)، وبودي أن أصل بسرعة إلى البحث العام الذي أثاره الأستاذ عن النشاط الاقتصادي وأشكاله ولكن من الواجب أن نلم بعض الشيء بالتجربة (التاتشرية) التي يدلل بها الأستاذ والتي استحوذت على إعجاب الأستاذ وانبهاره وتملكت مشاعر الناس واهتمامهم في هذا البلد. وفي نظري أن هذا الفوز التاتشري الكاسح والنصر الأغر قد يحمل في طيه بعض السلبيات التي تشوّه الصورة وتدق أجراس الخطر وتضغط بشدة وإلحاح على جدار وأوعية الحياة الاجتماعية في بريطانيا ولا يدلل في حد ذاته على عمق التجربة التاتشرية وإيجابياتها بل لعلّ المعركة الحالية قد ساعدت في إبراز بعض الخلفيات وأظهرت كوامن الجروح والانقسامات والتشرذم والتي يمكن أن تسبب بعض القلق والقلاقل أو الصدامات والتي قد تحتاج إلى يد الحكمة والاعتدال وروشتة (الإجماع) حفاظاً على كيان الدولة والمجتمع في بريطانيا وتلك على كلٍّ زبدة الرأي التي يحملها الفكر المعتدل في (الجارديان) و (السكوتسمان) وصولاً إلى (الفايننشال تايمز) وحتى (الأيكونومست) ذاتها.. ولعلّ القول الفصل في (التاتشرية) أنها تجربة لم تنتهِ ولم تظهر بعد ثمارها وأبعادها الشاملة والإنسانية. ومع ذلك فإن معظم الناس يحملون الانطباع المحدود للسائح ولا يرون سوى الصورة الحالمة الشاعرية للمروج الخضراء في الجنوب الإنجليزي ومنتجعاته والغارقة في قطاع الخدمات السياحية والمصرفية وسوق السندات والودائع والرخاء السرمدي وصولاً إلى أقواس النصر وعربة (هيلين) ومواكب الزهور.. والجداول وأزهار اللوتس؟!
هناك المساء اخضرار نخيل
من التوت والظل والساقيه
وفي الباب مد الأمير الجميل
ذراعيه يستقبل الآتيه
أميرتيَ الغاليه
لقد طال منذ الشتاء انتظاري
ففيم التأني وفيم الصدود؟!
ورحم الله السياب وتينسون وكولريدج في ساعات (الإبداع) أو اليقظة وبمناسبة اليقظة فقد يذكر الأستاذ أن هناك ثلاثة ملايين عائلة تعاني من البطالة في بريطانيا وأن الحكومة تلجأ هذه الأيام إلى صرف (معونة الشتاء) للعوائل الفقيرة درءًا للخطر وسلامة الناس من الفقراء والمعوزين في بعض أجزاء بريطانيا وأن هناك اختلافاً نوعيًّا في ظروف المعيشة بين جنوب إنجلترا وباقي أجزاء بريطانيا، وأن مدة انتظار العمليات لبعض المرضى قد تصل إلى سنتين أو ثلاث سنوات. وقد يرى الأستاذ أن علاج ذلك يكمن في زيادة تقليم أظافر (القطاع العام) وطرح الخدمات برمتها والصحية بالذات للتمليك الخاص وتعريضها لأجواء المنافسة الصحية الحرة كما يحدث في أمريكا واليابان وكندا بصورة رئيسية، ولكن ذلك يصطدم بواقع الفروقات في الدخول الفردية والتي تكرس وتزداد مع البطالة وفي قطاع المعوزين والمتقاعدين. وليس من السهل أن نشارك الأستاذ قناعته المفرطة في أسلوب (التمليك الخاص)، فالواقع السائد في أوروبا بل في معظم العالم أن القطاع العام يكلف بإدارة الخدمات بل وتوجيه الاقتصاد أحياناً وبصورة مقبولة وخاصة في ظل ظروف النمو الاقتصادي، وكمثال فلا أظن أن هناك قصوراً في خدمات السكك الحديدية في سويسرا أو خدمات الهاتف في ألمانيا أو مصانع الصلب في النمسا أو خدمات الطيران في هولندا وهذه كلها نشاطات نمت وتطورت كقطاع عام. ومع ذلك فالاقتصاد كالسياسة يزخر بالتداخلات، ولذا لزم إلقاء نظرة شاملة على الوضع في محاولة للتعرف على بعض الأنماط والاتجاهات السائدة ولغرض الاستفادة من التجربة العالمية في هذا الشأن.
والواقع المنطقي يدفع بأن هناك كسباً للمواطن العادي من التمليك الخاص في جو من المنافسة والتي تنعكس في زيادة الجودة وتخفيض التكلفة، ولكن هذه القناعة تصطدم بعدة محاذير وعقبات لعلّ أهمها صعوبة قيام بدائل تنافسية قوية في بعض الخدمات والنشاطات الاقتصادية الهامة والأساسية كخدمة الهاتف والاتصالات والسكك الحديدية وبرامج الطاقة بصورة عامة والنووية بصورة خاصة بالإضافة إلى بعض العوائق الجذرية في دول العالم الثالث كضعف الإمكانيات الخاصة أو تقاعسها عن النشاط الإنتاجي المرهق وعدم توافر الأجهزة الإدارية والأوعية الاقتصادية الضرورية كسوق الأسهم ومؤسسات الاستثمار وحرية التداول ووسائل الاتصالات وانتشار المعلومات، والأهم من ذلك تطور الدخل الفردي للطبقة الوسطى من المجتمع بدرجة تساعد على المشاركة الشعبية وحماية الاستعمار الوطني. ومن المناسب أن نتذكر أن قضية تحسين الأداء الإداري ليست من المسلمات، يقول الأستاذ ميلوارد من جامعة سالفورد في بريطانيا (ليس هناك أرضية عامة للاعتقاد بأن الكفاءة الإدارية تنخفض في المؤسسات العامة). وإنما قد يرتبط ذلك بالمعايير والأهداف (وضعف الربحية قد لا يرتبط بتدهور الأداء الإداري بالضرورة). وقضية المعايير هذه تقود إلى الارتباط الإداري والسياسي لأنشطة القطاع العام والتي تجسد السلبيات والإيجابيات في آن واحد. فالنشاط الاقتصادي العام خارج المعسكر الاشتراكي يرتبط بعدة مبررات قد يكون أهمها الحاجة الملحة والحضارية لبناء الاقتصاد الوطني وتوسيع رقعة النشاط الصناعي وتدخل الدولة في هذا المجال يعود دائماً إلى قصور المبادرات الفردية كخدمات السكك الحديدية في اليابان مثلاً ومشروع السد العالي في مصر ومحطات التوليد الذري ومشاريع الإسكان في سنغافورة وصناعة البتروكيماويات في المملكة وصولاً إلى الإسهام في إنشاء النشاطات التكنولوجية المتطورة في بريطانيا ذاتها كشركة سلتك وشركة أيمنوس في الستينيات، وهذه النشاطات العامة هي في حكم الضرورات التي تبرر وتبيح العجز الاقتصادي أحياناً ولو لفترة محددة. ومن الأسباب الشائعة والمهمة ظاهرة تدخل الدولة لإنقاذ بعض الصناعات الأساسية كخدمات السكك الحديدية في بريطانيا وحديثاً عملية إنقاذ شركة ليلاند لصناعة السيارات والتجربة الفرنسية الحديثة والتي حسنت الأداء والجدوى الاقتصادية في قطاعات مختلفة بعد التأميم وذلك بالزيادة الهائلة في الاستثمارات والتي وصلت إلى خمسة بلايين دولار أمريكي وأضعاف ما استثمره القطاع الخاص على مدى عشرين عاماً، وقد يضاف إلى ذلك بعض محاولات الإنقاذ في الشيلي والفلبين وبالأخص تجربة الشركة الوطنية للتنمية على أيام ماركوس بل إن الفكر السائد في حزب العمال البريطاني مثلاً ومنذ أيام حتبسكل هو تأميم (الصناعات التي تسبب عجزاً للاقتصاد الوطني) وبصورة عامة ومع ضعف عناصر الربحية أحياناً فلم يكن هناك خلافٌ حول جدوى ومشروعية وضرورة هذه الإجراءات. وهناك مجموعة أخرى من النشاطات العامة كان من ورائها الدافع الوطني أو السياسي كتأميم قناة السويس في مصر وصناعة المناجم في بريطانيا والمصارف في فرنسا ونشاطات إنتاج الطاقة قديماً في أمريكا الجنوبية وحديثاً في دول الخليج. وبالأخص وفي مثل هذه النشاطات فقد كان الرأي السائد يدفع بعدم خضوعها للمعايير الاقتصادية البحتة ولو أنه يجري الآن إعادة النظر في هذا النوع من المشاريع لترتبط الكفاءة بتحرير الإدارة والتوجه الاقتصادي الإيجابي لهذه النشاطات، ولعلّنا نذكر أيضاً أن بعض شركات القطاع العام تعتبر في مصاف القيادات الرائدة في الاقتصاد العالمي كشركة تومسون الفرنسية ومجموعة سيتك الصينية وهيئة قناة السويس المصرية وفوست الباين النمساوية وشركة أرامكو والتي نرجو أن يمتد ويتسع نشاطها في حقل التنمية والاستثمارات.
وفي المقابل فإن المرء يرى إيجابيات هامة في اتجاهات (التمليك الخاص) أو التمليك الشائع للأصول العامة قد يكون أهمها خلق جو من التنافس النشيط الذي يساعد على إثارة تفاعلات وميكانيكية السوق توصلاً إلى الكفاءة القصوى والإشباع الأكبر للمستهلك وبالطبع فهذا (الموديل الكلاسيكي القديم) قد يتمشى مع أفكار آدم سميث ونظرته إلى السوق، ولكن الواقع بل القناعة النظرية قد تطورت كثيراً عن ذلك فانتقل الحديث إلى المنافسة والمنافسة الاحتكارية والاحتكار التجمعي إلى آخر قائمة المظاهر والتناقضات التي تتحكم في (السوق الحرة) هذه الأيام. وكيفما كان، فالمنافسة في حد ذاتها وبأي الصور توجه اقتصادي إيجابي بل هدف إنساني وحضاري في حد ذاته في نظري ولذا وجب دراسة هذا الأمر بعناية ودعم المبادرات والنشاطات البديلة وعدم ترك الأمور لمراقبة واهتمام المساهمين أو الاعتماد الكلي على الإطارات والتعليمات والإشراف الإداري. حتى يمكن توظيف قوى السوق وأساليبه وتحقيق الفائدة المرجوة من ذلك.. وفي نظر البعض فإن هناك ميزة أخرى كبيرة من برامج (التمليك المشاع) وهو تطوير (الثقافة أو الخلفية الاستشارية) لدى المستهلك والمواطن العادي. والواقع أن هذه أمور قابلة للشك وقد تخضع وترتبط باشتراطات وارتباطات محددة، وقد يلاحظ المرء أن المساهمة العامة لا تعني المشاركة العامة بل غياب المشاركة أحياناً حيث تصبح سندات الشركة مجرد أوراق تداول وموجودات في الأسواق المالية بعيداً عن أمور الشركة وإدارتها وخطتها ومستقبلها وتسيطر على السوق (عقلية المراهنة والمضاربات) في تعبير دافيد بلنكت الزعيم العمالي الشاب. ولكن هناك سبلاً أشمل وأعم فائدة في هذا المسعى قد يكون أهمها وأعرقها أسلوب التعاونيات والذي أظهر مردوداً اجتماعياً واقتصادياً في بريطانيا ويعتبر من المسلمّات الاقتصادية للنادي السياسي البريطاني. كذلك فقد برزت بقوة في السنوات الأخيرة ظاهرة (التمليك الإداري) للمجموعة القيادية المنشأة بمساعدة المكاتب المختصة والمصارف التجارية. وهناك ظاهرة إيسوب أو (مساهمة المنسوبين في أصول الشركة)، وهذا الأسلوب في المشاركة كان نتيجة دراسة واسعة من صندوق النقابات البريطانية (يونيتي ترست) وقد جرب بنجاح في شركة خدمة السيارات (رودشيف) وتجري محاولات نشره وتعميمه حالياً. وفي تقدير الصندوق أن هذا الأسلوب في المشاركة سوف يشمل عشرة ملايين عامل على الأقل بين العمال وبين أعضاء النقابات في بريطانيا قبل نهاية القرن الحالي. وهكذا فعملية بيع الأصول العامة قد لا تكون هي الأنجح والأكثر إيجابية في تنمية (الخلفية الاستثمارية) وبطريقة مباشرة ولكنها قد تكون ذات فائدة كبيرة في مجال تنمية المنهج الادخاري للمواطن ومن المعروف أن هذا الأخير يعتبر من أكبر المزايا التي يتمتع بها الشعب والاقتصاد الياباني ويلزم أن يتوافق هذا الاتجاه مع فترة نمو اقتصادي معقولة.
وبعض الدول قد تبغي فائدة مباشرة وسريعة من بيع الأصول العامة توظفها في محاولة لتحسين الوضع الاقتصادي كتغطية العجز في ميزان المدفوعات أو تسديد القروض الأجنبية، ولهذا السبب بالذات فإن مشاريع التمليك الخاص تحظى بتأييد المؤسسات المالية الأنجلو أمريكية والعالمية كالبنك الدولي والتي تضغط بشدة في هذا الاتجاه في محاولة لتحسين الأوضاع المالية ومحاصرة العجز في الدول النامية خصوصاً، وقد تستعمل الإيرادات في استثمارات جديدة أو في تطورات في هيكلية ومجالات الإنتاج كما تنوي سنغافورة في خطتها القادمة. أو أن تحول على طريقة المسز تاتشر لغرض تحسين المناخ الاقتصادي العام وتشجيع الاستثمارات عن طريق رفع القيودات وتخفيض الضرائب وتسديد فاتورة المواجهة والالتزامات التي قد تفرضها برامج توجيه القاعدة الإنتاجية وإعادة التدريب والتأهيل. وقد يكون لهذا الأسلوب مردود استشاري وإنتاجي في مجال الصناعات الهندسية وصناعة السيارات على وجه الخصوص في السنوات القادمة بالإضافة إلى النشاط المرتقب في حقل الإلكترونيات وتكنولوجيا (الشمس المشرقة)‍‍!
وهكذا نرى أن القطاع العام له دوره المرحلي والاستراتيجي وكذلك فإن القطاع الخاص له إسهامات، وليس هناك قاعدة عامة تصلح لكل مكان أو لكل زمان بل إني أشك كثيراً في ارتباط الحرية الفردية بالقطاع الخاص والشمولية بالقطاع العام. ولعلّ الدراما الحالية في كوريا الجنوبية تظهر هذا التناقض بل إن تمركز القطاع العام في بلد كالنمسا لم يقف حائلاً أو عقبة أمام الحرية أو الديمقراطية.
وإذا أردنا النظر في (شيلي) مثلاً فإنا نجد الحكم الديمقراطي يفضل النشاطات الجماعية، والحكم العسكري يدعم التمليك الخاص حتى بعد العثرات والإفلاسات في منتصف السبعينيات، وقد لا تكون تجربة التمليك الخاص في الفلبين في عهد ماركوس ذات مدلول شامل ولكن لغرض التسجيل فقط فقد جرى تمليك الأصول العامة للقطاع الخاص ومن ثم عادت الدولة واشترت هذه النشاطات ومن ثم باعتها مرة أخرى وبثمن بخس لأصدقاء الرئيس الراحل. وبودي ألا يسرف الأستاذ في ثقته وقناعاته بالقطاع الخاص واتجاهاته، فقد يكون الواقع أقل بكثير من مستوى الطموح والتحدي وأدعى للقلق والتحسب، وقد ينتهي الأمر إلى مجموعة القطط السمان وأرانب الانفتاح وشركة المحافظة على المصالح والمواقع الأثرية ذات المسؤولية المحدودة جداً والطموحات والأطماع الغير محدودة. وبودي أن نقف برهة عند تجربة سنغافورة، هذه الدولة الصغيرة المعجزة التي تمكنت (بالتخطيط الجيد والأداء الجيد) والجاد أن تخلق قاعدة صناعية متطورة في مدة 15 عاماً تنافس اليابان وكوريا وتايوان وهونغ كونغ وبدون أي ثروات طبيعية على الإطلاق، ومن ثم وبعد أن تعرضت للركود النسبي نهضت مرة أخرى عبر علاقات جذرية توافقية وتصميم مشترك من القاعدة الإنتاجية ومن القيادة الحكيمة الجادة. وللعلم فالدخل الفردي في سنغافورة يضاهي كل بلاد العالم الثالث ما عدا اليابان ودول الخليج ومع ذلك فالمستر لي يصر كما يبدو على استعمال الأثاث القديم والمهمل في غرفة انتظار الرئاسة!
ولعلّ ما يشكو منه الأستاذ وهو محق في ذلك إمكانية التسلط النفعي لبعض عناصر الإنتاج كالنقابات العمالية خاصة في شركات القطاع العام في محاولة انتهازية لإرهاق المستهلك والاقتصاد الوطني بزيادات لا تتمشى مع المعدل الوطني (38% في صناعة الغاز و 21% في صناعة المناجم في بريطانيا في السبعينيات).
وفي نظرنا أن هذه إحدى السلبيات المرتبطة بالسوق الحرة وبالأخص في القطاعات الاحتكارية وغير بعيد عن ذلك ما شهدته المنطقة منذ سنوات من المواجهات والمزايدات التضخمية الصارخة من القطاع الخاص والتي تعدت كل حدود العرف والخلق والمنطق وكادت أن تبدد الثروة الوطنية والعلاج في الحالتين في نظرنا يرتبط بتوسيع وتطوير جانب (العرض) من المعادلة وكسر الاحتكارات وتشجيع البدائل. وقد اختارت بريطانيا أسلوب المواجهة وبالرغم من الشجاعة والعزيمة الصلبة والدهاء فقد كان الحسم على حساب التوازن الاجتماعي والقاعدة الصناعية ولعلّ السنوات القادمة تحمل من الخطط الإيجابية والسياسات الاستراتيجية ما يرأب الصدع ويضمد الجروح المفتوحة. وكما أسلفنا فقد كانت هناك بدائل ناجحة توفيقية كتجربة النمسا أو السويد أو التجربة الألمانية أو الأسترالية أو حتى تجربة سنغافورة الصغيرة والمميزة في نفس الوقت. وقد لا يفل الحديد إلا الحديد في المثل الشائع، ولكن التطرف إهدار للجهد وقصد عن الطريق والجادة، كما أن كل ذلك لا يطير بنا إلى أجواء الهزات والعنف والانقلابات على السلطة السياسية فقد يحدث ذلك في (جمهوريات الموز) ولكن القاعدة السياسية والبناء الديمقراطي في بريطانيا منيع وصلب ومتماسك، وقد يذكر الأستاذ أن القيادات السياسية العمالية ذاتها هي التي وقفت وتصدت للتطرف النقابي في (شتاء الغضب) وحتى إبان إضراب المناجم لم تتحصل النقابة وقيادتها على الدعم والمساندة من حزب العمال ذاته أو حتى من مؤتمر النقابات العام، ولعلّ إسهامات المسز تاتشر التاريخية في مجال تطوير وتقنين وحماية المكانة الفردية للأعضاء سوف تترك آثارها العميقة والإيجابية في تعديل الممارسات والمشاركة الإيجابية لهذه العناصر وهكذا، وقد تختفي أشباح 1934 و 1984 و1994 أيضاً!
وبالمناسبة فأين العدل في توظيف أورديل و (مزرعة الحيوان) أو (1984) وفي مواجهة قناعات الرجل ومسيرته ونضاله، أليس ذلك من سخريات القدر حقاً! لقد كنت أرجو أن يكون الأستاذ أكثر رأفة ورفقاً بمسيرة الرجل الطيب الصادق وأحاسيسه ومشاعره. ولكي لا ننسى فقد كاد أورديل يفقد حياته محارباً في صفوف السندكاليه (ولاء لكاتالونيا). وبودي أن يعاود الأستاذ قراءة هذا المقطع من رائعة (أودن) في رثاء (السفينة الإيرلندية) بيتس.
وهكذا يقطع الشاعر ويتناثر بين مائة مدينه
ويسكن المشاعر الموحشة في الديار البعيده
ليستقر في ظل أشجار غريبه
ويحاكم بقوانين لا يقرها وقيم لا يرتضيها..
وكما يرى الأستاذ فالعدل مسعى صعب ومسيرة شاقة، ولكنه في مفهوم الأستاذ أساس التعامل وإطار الحياة ومضمونها، ولعلّ العدل في هذه الصيغة يبحث في الأساس في حياة الناس كالماء والنار والكلأ والصدق وأداء الأمانة، وفي اللغة فإن العدل ما قام في النفوس أنه مستقيم وهو ضد الجور، فهو صدى في نفوس الناس وضمائرهم يتواكب مع الأزمنة والمستجدات ووتيرة الحياة ونبضها وهو مستقيم لا يقبل اللف والالتواء، لا يقطع بالغيبة ولا يغفل البيّنة. يروى في التراث أن الفاروق رضي الله عنه قال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني كما يعدل السهم في الثقاف، وكذا فالعدل لغة في التقويم والإصلاح والتعديل وهو ضد الجور والجور هو. ترك القصد في السير. فهو لغة في الاعتدال وقيل الظلم لأنه انحراف عن طريق الحكمة وإمارات الحق وأدلة العدل وهكذا فالعدل والتعديل والاعتدال والعدالة أبعاد لنفس المفهوم وقواعد ومقومات لنفس الصرح والمنشأ. وهكذا يظهر العدل بصورته الشاملة والتي رسمها الأستاذ منهجاً في حياة الناس الفكرية والاقتصادية والاجتماعية وأسلوباً في مسيرتهم وإمارات وأدلة تهدي المسيرة وترشدها، وقد يتعدى الممارسات والقناعات والتقاليد التي تجور عن القصد وإن كان يحاور العرف فهو جوهر العرف والمعايير. فإذا كانت الأنظمة أو القوانين تولد وتحيا وتموت في لغة أهل الاختصاص فالعدل لا يولد ولا يموت وإنما يحيا بأشكال مختلفة ويظهر في أحجام وألوان مختلفة ويمتد إلى زحم الحياة فينسق المسالك ويهذب القنوات ولعلّه بذلك مفهوم حضاري أيضاً ينشأ مع الاجتماع والتمدن وينمو مع أنماط الحضارة وأطوارها، بل قد يرى الأستاذ أنه مضمون الحضارة ومعيارها وإن كان العدل بهذا الطرح غزير المحتوى وعميق المغزى وبعيد الأطراف. أفلا يرى الأستاذ أنه صعب المنال والتحقيق أيضاً وأنه يتعدى الإرشاد والوعظ بل والقدوة إلى المناهج والقنوات والمسالك والأهداف والسبل أيضاً؟
ولذا كان التركيز على إمارات الحق والعدل وارتباطها بالنفوس وبضمائر الناس ورضاهم وقناعتهم. وختاماً ولعلّي قد أطلت قصداً وطمعاً في تجاوب الأستاذ ومتابعته للحوار وإسهاماته التي تثري الفكر وتضيء الدروب من حولنا.
والله من وراء القصد..
أحمد المحمد السليمان التركي
 
طباعة

تعليق

 القراءات :781  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 19
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الأول: من المهد إلى اللحد: 1996]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج