شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثالث
حجرة الجلوس في منزل بهاء. لا توجد مائدة وسطية. ولكن توجد عدة موائد صغيرة بجوار الحائط والنافذة. بيانو، شجيرة نخيل زينة صغيرة في أصيص في النافذة. مقعد أو مقعدان من الأغصان المجدولة. باقي الأثاث مكوّن من أريكة ومقاعد ذات ذراعين من القماش المحشو، وقد زينت ظهورها جميعها بقطع من الموسولين المطرز. جرامافون في أحد الأركان. مرآة كبيرة فوق رف المدفأة، ساعة مذهبة داخل صندوق زجاجي.
(والدة بهاء نائمة على أحد المقاعد ذات الذراعين. ووالد بهاء نائم فوق الأريكة بعد أن نقلت فأصبحت وسط الحجرة، ماجدة تقرأ وهي جالسة إلى إحدى الموائد الصغيرة. تنهض ماجدة بهدوء وتتجه نحو المدفأة وتقلّب نارها بالمحراك فتسقط قطعة من الفحم على الأرض فتحرِّك والدة بهاء رأسها وتنظر نحوها).
ماجدة: آسفة يا أماه.
الوالدة: لم أكن نائمة تماماً يا عزيزتي.
ماجدة: أمي كنت مستغرقة في النوم منذ نصف ساعة.
الوالدة: لا يبدو لي أن هذا صحيحاً.. ماذا إن أباك نائم.
ماجدة: ليس من عادته أن يفعل ذلك في هذا الوقت من النهار.
الوالدة: (في إعجاب) إنه ينام نوماً عميقاً.. كم الساعة الآن؟
ماجدة: الرابعة.
الوالدة: كان من المفروض عودتهما الآن.
ماجدة: ليس من شأن بهاء وسناء أن يحافظا على مواعيدهما.
الوالدة: أجل يا عزيزتي.
ماجدة: لست من ناحيتي على استعداد في مثل هذا الطقس البارد أن أذرع الطرقات من أجل أي رجل.
الوالدة: لا أعتقد أنهما يشعران بأن الجو شديد البرودة.
ماجدة: وأستطيع أن أؤكد لك أنهما جالسان الآن في الحديقة العامة.
الوالدة: أرجو ألا يتأخرا عن موعد تناول الشاي، فأنا أشعر بحاجتي لتناوله بعد قليل.
ماجدة: سأضعه فوق النار منذ الآن، وعندما تحضر ليلى ورفيق، سنتناوله دون انتظار أحد، وسنتناوله في مكاننا هنا حيث الحجرة دافئة (تخرج وتعود حاملة غلاية الشاي فوق نار المدفأة ثم تجلس بالقرب من أمها).
ماجدة: أماه!
الوالدة: نعم.
ماجدة: هل كنت تحبين أبي عندما تزوجتما..؟ أعني هل كنت تحبينه كثيراً.. كثيراً جداً جداً..؟
الوالدة: (في دهشة) أي سؤال هذا! طبعاً.
ماجدة: أكثر من أي رجل آخر صادفته؟
الوالدة: طبعاً.
ماجدة: حسناً.. ثمة شيء غير طبيعي إذن فّي أو في فريد.. فلست أشعر نحوه بهذا الإحساس مطلقاً.. ولو سألني أحد ما سألتك إياه ما أجبت قائلة ((طبعاً)) وما من شيء يجعلني أذهب وأجلس معه في الحديقة العامة بعد ظهر يوم بارد كهذا.
الوالدة: أعتقد أنكما تشاحنتما؟
ماجدة: أبداً.. كم أتمنى لو كان هذا هو السبب.
الوالدة: ماجدة، لا تتحدثي هكذا.
ماجدة: بل يجب أن أتحدث.. فهو يريدنا أن نتزوج في الشهر القادم.
الوالدة: وماذا في ذلك؟ إنه أمر جميل.
ماجدة: يقول إنه قد أعد مسكناً ويريدني أن أذهب معه لأشاهده.. ولكنني لا أود مشاهدته.
الوالدة: ما الذي اعتراك مؤخراً؟ لقد كنت مسرورة به.. إن فريد ظريف جداً ويبدي اهتماماً كبيراً بك.. بل هو في الواقع يعبدك.
ماجدة: نعم.. أعرف ذلك.. كما كان شأنه مع زوجته الأولى.
الوالدة: إن لديك عقدة سخيفة نحو الرجال الأرامل يا ماجدة.. إنك تغارين.
ماجدة: أبداً.. مطلقاً، ولكني كنت أودّ أن أراه يعمل شيئاً يستحق الاهتمام... ولا يقصر همه على الزواج.
الوالدة: إن المسكين يعمل ما يستحق الاهتمام.. فهو يكرّس وقته ونفسه لك، ولا يكف عن البحث عن مسكن من أجلك.
ماجدة: كنت أفضل لو ذهب إلى أستراليا.. أو إلى مكان كهذا..
الوالدة: ها هو ذلك الرجل السخيف شوقي يبدو مرة أخرى وراء الأمر.. هل أحببته؟ أرجو ألا تكوني قد تورطت ووقعت في غرامه؟
ماجدة: (في حماس) لست أحمل له ذرّة من الحب.. بل إنني أراه ثقيلاً بعض الشيء.
الوالدة: ماذا دهاك إذن؟
ماجدة: كنت أفضل لو أن فريداً رحل إلى الخارج لكي يسعى إلى زيادة ثروته بدلاً من تجارة الفحم التي يزاولها.
الوالدة: ربما إذا سافر لا يعود.
ماجدة: (وهي تفكر) ربما لا يعود فعلاً.
(يسمع صوت البوابة الخارجية، وتخرج ماجدة وتعود بعد لحظة تتبعها ليلى التي تتجه نحو أمها وتقبّلها ثم تلقي نظرة على أبيها).
ليلى: هل أبي نائم؟
ماجدة: يا له من سؤال! هات قبعتك ومعطفك. (تخلعهما ليلى وتناولهما لماجي) أنت ترتعدين أجلسي قرب المدفأة.. أأنت متوعكة؟
ليلى: (في صوت مؤثر) كلا.. أنا بخير.. أشكرك.
الوالدة: هل حضرت بمفردك؟
ليلى: سيلحق بي رفيق بعد قليل.. لقد ذهب إلى المحطة مع أستاذ شوقي.
الوالدة: ليشيّعه؟
ليلى: كلا.. أستاذ شوقي سيرحل غداً.
(تخرج ماجدة بالمعطف والقبعة ثم تعود حاملة صينية ومفرش وتشرع في إعداد الشاي فوق مائدة صغيرة).
الوالدة: (مخاطبة ليلى) هل جاءكم ساكن غيره؟
ليلى: كلا.. لقد أصبح علينا أن نعثر على ساكنين.
الوالدة: ساكنين؟ لماذا؟
(ماجدة تتوقف عما بين يديها لتصغي).
ليلى: لقد خفضوا مرتب رفيق.
الوالدة: (تنتصب جالسة بسرعة) خفضوا مرتبه؟ لماذا؟
ليلى: لست أعرف.. إنني.. يا إلهي! ما أشقاني!
(تغطي وجهها فجأة بيديها وتنفجر باكية).
ماجدة: (تنحني فوق أختها) ليلى.. عزيزتي.. هل يدعوك ذلك إلى البكاء..؟
ليلى: (وهي تنتحب) أوه! كلا.. كلا.. إذن هذا الأمر لا يهم، ففي وسعنا أن نجد مكاناً لساكنين، ولا يهمني كثيراً العمل.
ماجدة: إذن ما الذي يبكيك؟
الوالدة: أعتقد أنك ورفيق قد تشاجرتما.
ليلى: رفيق يريد أن يرحل إلى الخارج.. ويتركني.
الوالدة: ماذا؟ ما هذا الذي أسمعه؟
ليلى: (وهي تنظر بإشفاق نحو الرجل النائم) صه، لا توقظا أبي.
ماجدة: إنه لن يستيقظ إلا إذا سمع رنين أدوات الشاي.. تقولين إن رفيق يريد أن يتركك؟
الوالدة: لقد أدركت أنهما تشاجرا.
ليلى: لم نتشاجر بالمعنى الحقيقي.. ولكنه قد صار غريب الأطوار منذ علم أن شوقي سيرحل إلى أستراليا إنه يرغب في الرحيل أيضاً.
الوالدة: وماذا بعد رحيله؟ إن الأجدر به أن يخجل من نفسه... يذهب إلى أستراليا؟ ما شاء الله هل نسي أنه متزوج؟
ليلى: أنا لست أريده أن يبقى لمجرد أنه متزوج.. إن كان يريد أن يهجرني..
ماجدة: إنك ترتكبين بكل تأكيد خطأ جسيماً يا ليلى، وأنا واثقة من هذا، لا يريد أن يهجرك، ولكنه يريد أن يهجر عمله.
الوالدة: ولو كان يريد أن يهجر عمله.. كما يفعل بعض الناس أحياناً، فإني أتساءل.. ماذا يكون حال الدنيا لو توقف كل فرد عن عمله لمجرد أن ذلك العمل لا يعجبه؟ ماذا يكون حال الدنيا لو حدث ذلك سوى الفوضى الكاملة؟ يبدو أن رفيق لم يسمع أن هناك شيئاً اسمه الواجب.
ليلى: إنه في أشد حالات التعاسة.. ولم أستطع أن أسري عنه.
الوالدة: ينبغي أن يكون تعيساً، ما دامت هذه الأفكار في رأسه. إنني لم أسمع طوال حياتي بشيء كهذا! كلما أسرع أستاذ شوقي بالرحيل كلما كان ذلك أفضل.. إنه هو الذي أوحى إليه بهذه.. هذا ما أرجحه.
ماجدة: أنت لا تعرفين أستاذ شوقي يا أمي.. إنه ليس من هذا النوع.
الوالدة: ما الذي دعا رفيق إذن إلى التفكير في ذلك؟
ماجدة: إنه مجرد إحساس ينتاب المرء أحياناً يا أمي.. إحساس لا يمكن مقاومته.. والأعمال المكتبية رتيبة جداً.
الوالدة: طبعاً رتيبة.. وهكذا كل عمل آخر.. هل تتوقعين أن يكون العمل أمراً مشوقاً؟ وهل يحب أحد في العالم أن يعمل ويشقى؟ إن أي شخص يعتقد أن العمل متعة هو شخص معتوه. إننا لم نأت إلى هذا العالم لكي نرتع في مجالات اللهو والرفاهية.. لقد جئنا لكي نكد ونسعى، وكلما فعلنا ذلك في سرور ومرح كلما كان ذلك أنفع لنا ولمن حولنا.
ليلى: لم أكن أنوي أن أخبركم.
الوالدة: إن أحداً ينبغي أن يتحدث إليه.
ليلى: لا تقولي له شيئاً أرجوك.. ربما نستطيع بعد تناول الشاي أن نتحدث جميعاً في الأمر.. وقد يفيد ذلك في تغيير رأيه.
(تخرج ماجدة، وتشرع ليلى في وضع فناجين الشاي وتنسيقها، يستيقظ الوالد، وتعود ماجدة حاملة إبريق الشاي).
الوالد: الشاي؟
ماجدة: نعم يا أبي؟
الوالد: سنتناوله هنا؟ إن المكان ضيق.
ماجدة: ولكنه دافئ.. سأحضر إليك نصيبك وأنت على الأريكة كما أنت.
الوالد: وأين سوف أضعه؟ على الأرض؟
ماجدة: سأحضر لك مائدة.
الوالد: أرجو ألا تحضروا تلك الفناجين الصغيرة التافهة، أريد فنجاني.
ماجدة: لقد أحضرت فنجانك.. ها هو (تقدِّم له فنجاناً ضخماً ناصع البياض ذا مقبض مذهب).
الوالد: لم أشعر بك عندما دخلت يا ليلى أين رفيق؟
ليلى: سيلحق بي.
الوالد: ما هي أخبارك مع فريد يا ماجدة.
ماجدة: سوف لا يحضر (تقوم ماجدة بتوزيع الشاي).
الوالد: هل ذهب في رحلة لأن اليوم هو الأحد؟
ماجدة: (وهي تأخذ لنفسها قدحاً من الشاي وتجلس بجوار شقيقتها) لا.. أبداً، إنه لن يحضر الليلة.. هذا كل ما في الأمر.
الوالد: أراك على ما يرام.. ولكن ليلى تبدو متوعكة نوعاً ما.. هل أصابك برد يا ليلى؟ إن عينيك محمومتين.
ليلى: أجل يا أبي.
الوالدة: لقد أسقطت بعض الخبز والزبد فوق السجادة يا أبا بهاء.
الوالد: (متضايقاً) طبعاً، قلت إن المكان ضيق.
ماجدة: (وهي تبادر إلى التقاط ما سقط) إن بهاء لم يعد بعد هو وسناء يا أبتي.. لقد رجحنا أنهما جالسان في الحديقة العامة.
الوالد: (وقد استطاعت ماجدة أن تصرف ذهنه عما شعر به من استياء) ماذا في هذا الطقس؟
ماجدة: سيختاران مقعداً غير مبلل بماء المطر.. وسيجلسان متلاصقين، وقد شاهدتهما مراراً يفعلان ذلك.
الوالد: (مطلقاً ضحكة خافتة) شاهدتهما؟ وماذا عنك.. ماذا عنك أنت؟ أنت يا للشباب إنه كالحمام لا يكف عن الهديل والمفاجأة.
ماجدة: خصوصاً بهاء.
الوالد: ربما.. مع أنه ما زال صغيراً.. حسناً.. إن الدور عليه في الزواج.. وأنت أيضاً يا ماجدة؟.
ماجدة: لست على عجل في هذا الشأن.
الوالدة: (في شيء من الضيق) لا تقولي ذلك يا عزيزتي.
الوالد: ينبغي طبعاً أن تقول هذا.. فهي فتاة رقيقة متحشمة (لزوجته) وأنت أيضاً، لم أسمعك ذات مرة عند زواجنا تقولين إنك في عجلة من أمرك يا عزيزتي.
الوالدة: طبعاً.. ما كان ينبغي أقول ذلك. لك.
الوالد: ها.. ها! كنت إذن ترتدين قناع الحياء وقتذاك.. يا إلهي! ما أنكر النساء.. والآن.. هيا اعترفي يا ماجدة! ألا تفكرين أحياناً في مباهج الزواج؟
ماجدة: أفكر فيها كثيراً.
الوالد: لقد برح الخفاء وها أنت قد اعترفت.. ألم أقل لكم.
ماجدة: ولكن على أي نحو تظنني أفكر في الزواج؟
الوالد: وكيف لي أن أعرف؟ في الزفاف غالباً.. أراهن على أنك لا تفكرين في شيء قدر تفكيرك في ليلة الزفاف.
ماجدة: (في هدوء) إني أفكر في ثوب العرس وفيما سوف تكون إشبيناتي ووصيفاتي.. ألن يكون لي وصيفات وإشبينات.. يا أماه؟
الوالدة: ماجدة.
ماجدة: أفكر في المنزل الذي سوف أعيش فيه.. وفي الأثاث.. وسأقوم بتربية كلب وقط.
الوالد: (متصنعاً الدهاء) كلب وقط فقط.. وليس ثمة شيء آخر (يقصد الأطفال) ها.. ها.. ها.
الوالدة: أبا بهاء! كف عن هذا الأسلوب، فلست أراه ظريفاً. ماجدة.. أريد يا عزيزتي مزيداً من الشاي، فهل لديك فائض من الماء الساخن؟
ماجدة: سأحضر بعضاً منه (تخرج).
الوالد: جميل منها أن تمزح على هذا النحو.. ولكنها لا تبدو طبيعية فيما يتعلق بأمر زواجها.. وكان الواجب أن تكون أكثر حماساً وسعادة.
الوالدة: أعتقد أن شجاراً بسيطاً قد نشب بينهما، وهو أمر عادي كثير الحدوث.. ولكنها تبدي بعض الاستخفاف بموضوع زواجها.. وقد جرى حديث بيني وبينها حول ذلك.
الوالد: ولكن لا عذر لها في هذا الشجار إن كان يتعلق بشخصية خطيبها نفسه، فهو رجل كامل من جميع النواحي ويشغل وظيفة ممتازة وسيكون لها نعم الزوج. إنه مؤمن على حياته بمبلغ خمسمائة جنيه.
الوالدة: حقاً؟ شيء جميل جداً.. إنها لن تضار إذا حدث له شيء.
الوالد: إنه رجل بعيد النظر.. ليس طبعاً صغير السن ولكنه مستقيم وعاقل.
(تدخل ماجدة ومعها الماء الساخن. جرس الباب يدق).
الوالد: افتحي لهما يا ليلى يا عزيزتي، إنهما بهاء وسناء.
(تخرج ليلى ثم تعود بعد لحظات يتبعها بهاء وسناء).
(سناء تقبّل الوالدة وماجدة).
سناء: لقد تأخرنا بشكل فظيع يا أم بهاء.. إني آسفة!.
بهاء: تتأسفين يبدو أن ساعتي كانت متأخرة..
ماجدة: لا تلقِ اللوم على ساعتك المسكينة.. لقد قبلنا اعتذاركما ولم يحدث ضرر.
الوالد: (مازحاً) الساعة! هل كانت متأخرة؟ تعالي عندي يا فتاتي (تذهب سناء إليه متضاحكة في حياء فيمسك بوجهها بين كفيه) أكانت هي الساعة؟ أبداً لم يكن للساعة أدنى شأن في تأخيركما! إن السبب هو هذا (يربت على وجنتيها بيديه) هاتان الوردتان.. يا لك من ثعلب صغير محظوظ يا بهاء (يقبّلها).
ماجدة: أكان البرد شديداً في الحديقة؟
بهاء: أبداً.. لم يكن شديداً جداً.
(يسمع صوت طقطقة البوابة الخارجية).
الوالدة: أرجح أنه فريد.
ماجدة: ماذا؟
الوالد: (ممازحاً ابنته) أرى المفاجأة قد سرّتك. انظروا إليها.. تصوري يا ماجدة.. إنه فريد!!
ماجدة: لقد قال لي إنه لن يحضر (تنظر من النافذة) إن رفيق معه.
ليلى: افتحي لهما الباب يا ماجدة.
ماجدة: (قبل أن تنتهي ليلى مما قالته) افتح لهما يا بهاء.
بهاء: يا لكما من فتاتين.. (يخرج ليفتح الباب سناء وماجدة تغادران الحجرة).
(يدخل فريد وهو رجل في الخامسة والثلاثين تقريباً تبدو عليه سيماء النجاح، ممتلئ الجسم قليلاً، وذو شعر أشقر. ويتبعه رفيق، ثم بهاء).
فريد: (يتلفت حوله باحثاً عن ماجدة) طاب يومكم (يصافح الوالد والوالدة).
الوالدة: ماجدة صعدت إلى الطابق الأعلى مع سناء يا فريد.
فريد: حسناً.. كنت أخشى أن أجدها في الخارج.
الوالد: كيف حالك يا رفيق؟ لا يبدو عليك أنك على ما يرام.
رفيق: متوعك قليلاً.. لا شيء أكثر من ذلك.
الوالد: ومتى سيرحل ذلك الرجل المجنون المقيم لديكما، هه؟
رفيق: غداً.
الوالد: إنه معتوه من كبار المعتوهين على ما يبدو لي.
(تدخل ماجدة وسناء عائدتين).
ماجدة: كنت أقول تواً لسناء وبهاء.. إن الشاي على المائدة في حجرة الاستقبال.. وضعته هناك لأننا لم نكن نعلم متى تعودان (تعبر الحجرة نحو فريد وتصعد له خدها فيقبّله).
سناء: أنت فظيعة يا ماجدة؟
الوالد: (لسناء) لا تنزعجي.. فلن تكونا بمفردكما أنت وبهاء إذا تناولتما الشاي في حجرة الاستقبال.. فها هو رفيق في حاجة إلى تناول قليل منه وستضطر ليلى إلى مرافقته لترى ما تقدمه له.. أليس كذلك يا ليلى؟
ليلى: نعم يا أبي.
ماجدة: (لفريد) هل تناولت الشاي؟
فريد: نعم.. شكراً. (يخرج الجميع فيما عدا الوالد وماجدة وفريد).
الوالد: (يقوم إلى المدفأة فيقلبها بالمحراك وهو يغمغم مغنياً بصوت خافت) هل رأيت مجلة ((آرجز)) يا ماجدة؟
ماجدة: إنها في حجرة الطعام.. سأحضرها لك (تهم بالخروج متجهة نحو الباب).
الوالد: كلا.. كلا.. سأحضرها أنا (يخرج).
ماجدة: إن أبي يسمي هذا حصافة.
فريد: (وهو يقترب منها) ماذا؟
ماجدة: ألم تلاحظ؟ إنه لا يريد الأرجز ولا أي شيء آخر؟
فريد: (وقد فهم الآن فقط) أتقصدين أنه تعمَّد تركنا بمفردنا؟
ماجدة: نعم.
فريد: منتهى الأدب منه! أقول يا ماجدة.. لعلك لم تتضايقي من حضوري اليوم..؟ كان ينبغي حضوري لأننا لم نتفق على يوم الثلاثاء...
(ماجدة تضحك في حزن ضحكة قصيرة).
ماجدة: إنك تحبني كثيراً جداً يا فريد.. أكثر مما ينبغي.
فريد: لا تتحدثي على هذا النحو.. (فترة سكون) ماجي أنا.. أنت لم تقبّلني حتى الآن.
ماجدة: لقد فعلت عند قدومك.
فريد: كلا أنا الذي قبَّلتك.
ماجدة: آسفة.. ولكني لا أهتم عادة بذلك أمام الآخرين.
فريد: (يزداد جرأة) ليس معنا الآن أحد (تنهض ماجدة.. وتلتفت نحوه.. وتتفرس في وجهه.. وترفع وجهها قليلاً إلى أعلى.. وتتقدم منه وهي على تلك الصورة، وتقبِّله في فمه.. ويظل فريد محتفظاً بها قليلاً بين ذراعيه حتى تخلّص نفسها منه بلطف وتبتعد عنه) إن معي لك شيئاً.. شيئاً قلت منذ أيام إنك تريدينه.. دبوس صدر من تلك الدبابيس الهولندية.. (يخرج من جيبه علبة صغيرة) ها هو.
ماجدة: (تفتح العلبة) هذا جميل منك! ما أكرمك (تنظر إليه) ينبغي على ما أعتقد أن أعيد الكرّة (تقبّله مرة أخرى يبتهج فريد، ويظل ممسكاً بيدها، تنظر إلى وجهه، ثم إلى يدها التي في يده.. ثم إلى المدفأة).
فريد: ماذا بك يا عزيزتي؟
ماجدة: (تسحب يدها في ضيق) إنها الحالة التي ذكرتها لك من قبل.. لست أجد في نفسي ميلاً إلى هذه المغازلة.
فريد: فليكن.. سأكف، ولن أضايقك.
ماجدة: أرجو ألا أكون أنا التي تضايقك.. لعلك تذكر أنني قلت ألا تحضر اليوم.
فريد: نعم.. أذكر.
ماجدة: حسناً.. لم يكن هناك سبب يدعوني إلى ذلك سوى أنني لم أشعر برغبة في أن نتقابل.. مع أن المفروض أن تخالجني هذه الرغبة، وأشعر نحوك بمثل أحاسيسك نحوي، أليس كذلك؟
فريد: إنك تختلفين عني.. أنا ذائب الرغبة في أن أكون بالقرب منك.
ماجدة: فريد، لا أريد الاستقرار.. بل أريد أن أرحل.. وأقوم بعمل ما..
فريد: أي عمل يا عزيزتي؟
ماجدة: .. لست أدري.. (فترة سكون) هل سبق لك أن سافرت إلى الخارج؟
فريد: نعم.. سافرت مرة إلى باريس في إجازة عيد الفصح.
ماجدة: إنها نزهة قمت بها في إجازتك ثم عدت.. ولكن ألا تشعر في نفسك بميل إلى السفر خارج البلاد.. لتجرّب حظك؟.. لتعمل تغييراً؟ لتؤدي عملاً أو شيئاً بيديك؟ ألم تجرّب ذات مرة شعوراً بالضجر مما تقوم به حالياً..؟
فريد: لا أستطيع القول بأن مثل هذا الشعور قد انتابني، لا أستطيع حقاً.. ولماذا ينتابني؟ إن عملي ليس شاقاً. يبدو أنك ممن يحبون التغيير، إني أحصل كما تعرفين على مرتب طيب يا عزيزتي. وسيكون في وسعك عندما نتزوج، أن تقومي بين وقت وآخر بما تشائين من رحلات.. سيكون لك مطلق الحرية في كل شيء.
ماجدة: لن أقوم إذا تزوجنا بأية رحلة.
فريد: وستكون لك خادمتك الخاصة، وغير ذلك من أشياء أخرى..
ماجدة: أجل.. أجل أفهم ما تعنيه.
فريد: ثم إنني لو رحلت كما تقولين إلى الخارج، على سبيل الفرض، فمعنى هذا أنني لن أتزوجك.. أليس كذلك؟
ماجدة: نعم.. وهذا من صالحك، لأنك تستحق من هي أجدر بك مني.. ألا تعرف.. ألا تعرف يا وولتر أني أشعر نحوك بنصف ما تشعر به نحوي من حب ولا حتى بربعه؟
فريد: نعم أعرف.. ولكنك لا تحبين أحداً آخر.
ماجدة: فعلاً، ولكن ألم يدر بخلدك ذات مرة أنني إنما أتزوجك من أجل أن أترك المتجر الذي أعمل به؟
فريد: طبعاً لا.. ولكن ذلك لا يمنع من أن تكوني مسرورة لأنك ستتركين المتجر الذي يقيد من حريتك والذي لا ...
ماجدة: لشدة ما أتمنى أن أكون حرة ومستقلة، مستقلة تماماً... لمدة سنة على الأقل..
فريد: (وقد بدأ يتأذى) ستصبحين حرة ومستقلة بعد أن تتزوجيني يا ماجدة.. سيكون في وسعك أن تفعلي ما شئت.
ماجدة: (تنظر إليه في يأس شديد فترة قصيرة ثم لا تلبث أن تندفع نحوه فجأة) يا لك من شخص عزيز عزيز حقاً. تزوجني.. تزوجني بسرعة يا فريد (يتلقاها بفرح بين ذراعيه) بسرعة.. وإلا.. وإلا..
فريد: (في رقة شديدة) وإلا ماذا؟
ماجدة: وإلا فررت منك.
فريد: وإلى أين تفرين؟
ماجدة: لو كنت أعرف.. لفررت منذ وقت.
فريد: يا حبيبتي! لا تتحدثي بهذا الأسلوب.
(يسمع صوت الوالد في الخارج وهو يسعل ويتعمد إحداث جلبة ثم يدخل).
ماجدة: أخشى أن تكون قد أصبت ببرد في حجرة الطعام يا أبي أعتقد أنك ذهبت لإحضار المجلّة؟
الوالد: ولقد أحضرتها فعلاً.
ماجدة: ولكنك أحضرت مجلة أخرى (تأخذها منه) (تدخل الوالدة، رفيق، ليلى، بهاء وسناء).
الوالدة: اعزفي لنا شيئاً يا ليلى. (تتجه ليلى إلى البيانو ويقتسم بهاء مقعداً ذا ذراعين بينه وبين سناء، ويقف رفيق متسكعاً عند النافذة، وهو يقلب صفحات أحد ((الألبومات))).
بهاء: هل ستذهبين إلى الكنيسة يا أمي؟
الوالدة: كلا يا عزيزي.. إنها ليلة زمهرير، والرياح باردة جداً.
بهاء: في يوم الأحد الماضي قلت إنها تمطر.. والأحد الذي قبله قلت إنه الضباب. والأحد الذي قبله قلت..
سناء: لا تكن أبناً وقحاً هكذا (تضع يدها فوق فمه لتمنعه من الكلام، فيتناولها ويحتفظ بها بين يديه).
الوالدة: (في بشاشة وسرور) أنت ولد شرير لأنك تسخر من أمك العجوز.. لقد ذهبت إلى الكنيسة هذا الصباح.
بهاء: يبدو أنك ستقنتين مذهب الذهاب إلى الكنيسة مرة واحدة في كل عام.
الوالدة: وما حيلتي.. إن كنت أنام هناك كلما ذهبت؟
بهاء: تذكري أنك ستكونين قدوة صالحة.. لو أنك ظهرت دائماً أمام الناس في الكنيسة.
الوالدة: نعم يا عزيزي.. فكرت في ذلك ووجدت أنني لن أكون قدوة لأحد ما داموا سيرونني نائمة.
فريد: (الذي لديه استعداد دائماً على تهدئة الأمور عندما يحتدم النقاش) أؤكد لك يا أم بهاء أن من الأهم لك أن تستريحي ولا تسيري كل هذه المسافة مرتين يومياً.
الوالدة: أجل إنها مسافة طويلة تستغرق ربع الساعة سيراً على الأقدام. (ليلى تعزف، وقد اختارت المقطوعة الحزينة ((أبقَ معي)) يبدو القلق على رفيق ويسير ويتمشى ذهاباً وإياباً بين البيانو والنافذة).
الوالد: ألا تجد مقعداً لتجلس عليه يا رفيق؟ يبدو عليك أنك متعب.
رفيق: المقاعد كثيرة.. شكراً، إن سناء لا تحتل سوى نصف مقعد.
سناء: ما هذا الذي تقوله يا أستاذ رفيق (تتململ في مقعدها الذي تشغله مع بهاء وتهم بالقيام ولكن بهاء يجذبها ويجعلها تجلس كما كانت).
(تنتهي ليلى من أداء اللحن وتتوقف عن العزف).
الوالدة: يا لها من نغمات جميلة! ما رأيك يا فريد؟
فريد: جميلة جداً.. محزنة بعض الشيء ولكنها رائعة.
(تشرع ليلى في عزف لحن آخر حزين وهو في هذه المرة ((يا شمس حياتي))).
رفيق: هلا كففت بحق السماء، وعزفت لحناً آخر ساراً؟
(تكفّ ليلى عن العزف، وتتلفت حولها مترددة، وتقلب صفحات النوتة الموسيقية التي أمامها.. ثم تنهض فجأة وتخرج من الحجرة مهرولة).
سناء: إنها تبكي.
الوالد: ماذا؟
الوالدة: لقد آذيت شعورها يا رفيق.. إذ تحدثت إليها بهذا الأسلوب.. لم يبدو منها ما يجعلك تغضب.. لقد جاءت اليوم وهي تبكي..
رفيق: لم أفعل لها شيئاً! إنني..
(تنهض الوالدة فجأة وتلحق بابنتها وهي غاضبة).
الوالد: (لرفيق) هل أنتما متخاصمان؟
رفيق: متخاصمان؟ إننا لا نتخاصم..
الوالد: حسناً.. ما كان يجدر بك إذن أن تخاطبها هكذا (لسناء) أأنت متأكدة من أنها كانت تبكي..؟
سناء: متأكدة تماماً.
الوالد: غريب! ليس هذا من طبعها.
(تدخل الوالدة).
الوالد: هل زال ما بها؟
الوالدة: تشكو صداعاً.. ولكن.. ليس هذا لب الموضوع.. إنني أعرف السبب.. إنها لم تكن تستطيع الكلام عندما حضرت بعد ظهر اليوم.
رفيق: (مقاطعاً إياها) أهي قلقة بشأني؟
الوالدة: وماذا يدعوها إلى أن تقلق بشأنك؟
رفيق: لقد حدث أن قلت لها.. إنني قد ضاق بي.. والواقع.. إنني أشعر هذه الأيام بشيء من ...
الوالدة: (في عنف) أنت تعرف جيداً كل شيء.. إنك تريد أن ترحل مع ذلك المدعو شوقي.. وتهجر زوجتك.
الوالد: (صائحاً) ماذا؟
(يبدو الوجوم على وجه سناء، وتظهر الدهشة على بهاء أما فريد فيحاول التظاهر بأنه لا يسمع)
الوالدة: تكاد الفتاة المسكينة تتمزق من الأسى، لأنه كما تقول يريد أن يتركها.
رفيق: لم أقل شيئاً كهذا.. ولم أفكر في مثل هذا الأمر.. وأنا..
الوالدة: هل تريد أن ترحل مع هذا الرجل؟
الوالد: يغلب على ظني أنكما مجنونان.. أنتما الاثنان! ما هذا الذي تقولانه؟ يذهب مع من..؟ وإلى أين وعما تتحدثان؟
الوالدة: ذكرت لي ليلى بكل وضوح بعد ظهر اليوم أن رفيق يريد الذهاب إلى أستراليا.. وبكت بكاءً مراً. معنى هذا ولا شك أنه يريد أن يتركها.. أجل.. لا معنى لما قالته غير ذلك.. وأنا الآن أقول إن رفيق ينبغي أن يخجل من نفسه.. إذ يهرب من زوجته على هذا النحو.. هذا على المكشوف هو ما أعتقده.
الوالد: (معتدلاً في جلسته وقد ظهر عليه الغضب) ما هذا الذي أسمعه يا رفيق..؟ ماذا..
(فريد يتجه إلى الباب متسللاً على أطراف قدميه).
رفيق: لا.. لا تذهب يا فريد.. ينبغي أن يسمعني أفراد الأسرة جميعهم.. وستكون ذات يوم فرداً منها.
فريد: (يعود فيجلس) أنا على استعداد للانصراف إن كان وجودي غير ملائم.
رفيق: كلا.. لا تنصرف.. دعنا ننتهِ من هذا الأمر.. يجب أن تعرف كل شيء.. كما يجب أن يعرفوا جميعاً كل شيء.
الوالدة: (وفي صوتها رنة يأس) إذن فأنت تريد أن تتركها وترحل؟ يا للفضيحة.
رفيق: ما هذا الهراء الذي تتحدثون به جميعاً أنني..
الوالدة: (مقاطعة إياه) أتريد الرحيل أم لا تريد؟
رفيق: نعم.. أريد.
(يخيم على المكان صمت عميق).
الوالدة: ها هو قد اعترف.. ألم أقل لكم؟ (تدخل ماجدة) كيف حال ابنتي المسكينة يا ماجدة؟
ماجدة: تقول إن الصداع ما زال، وإنها ستنزل بعد قليل.. ماذا دهاكم؟
الوالدة: يريد رفيق أن يرحل إلى أستراليا ويترك زوجته. وقد اعترف لنا بذلك.
ماجدة: حسناً.. فلنفرض أن هذا صحيح.. أليس من الأفضل أن يكاشفكم بدلاً من أن يذهب دون علمكم؟ ومع ذلك فإن هذا غير صحيح.
الوالد: أتريد أن تأخذ ليلى معك؟
رفيق: كيف أستطيع أن آخذها؟
(تدخل ليلى فيتحرك الجميع نحوها وهم يرددون كلام العطف والتشجيع، ويحاول كل منهم أن يقدِّم لها مقعداً وتجلس بجوار أبيها).
رفيق: اصغوا الآن جميعاً إلى أنها حقيقة لا شك فيها أنني أود الرحيل.. أريد أن أفعل ما فعله شوقي أترك كل شيء.. وأذهب إلى المستعمرات لأجرّب حظي.. فإذا ما وفقت.. ووقفت على قدمي.. لحقت بي ليلى..
الوالد: (مقاطعاً إياه) هذا جميل.. وإذا فشلت..؟
كان ينبغي أن تفكر في أن تفعل هذا الأمر قبل أن تتزوج.. فليس في وسعك الآن الهروب على هذا النحو وقتما تشاء، لأن لك زوجة.
رفيق: (منفعلاً) وماذا يمنع..؟
الوالدة: ماذا يمنع؟ اصغوا إلى ما يقول.
رفيق: لقد ضقت ذرعاً بحياة المكتب، وما بها من رتابة.. لا شيء جديد.. لا شيء يحدث، إني لم أر شيئاً في هذا العالم.. وكل ما فعلته أنني التحقت بتلك الوظيفة.. لماذا؟ لمجرد أن الشبان الآخرين يفعلون ذلك.. لمجرد أن الناس يقولون إنه من الصواب أن يفعل المرء ذلك.. إنني أعيش حياتي في انتظار عطلة الأسبوع.
بهاء: وأنا كذلك.. وهكذا جميع الناس.. ولا أحسبك تريد القول بأن على المرء أن يحب عمله أو يتركه، أتريد أن تقول ذلك؟
الوالد: (لرفيق) أتظنني أحب السباكة؟ أبداً.. لم أحبها يوماً ما. ولكنني تشبثت بها وظللت طوال حياتي أمارسها والآن.. انظر عندي مبلغ صغير مجزى في البنك.. واشتريت هذا البيت الذي أعيش فيه.. بيتي ملكي (يتلفت حوله بفخر واعتداد) ومع ذلك فقد كرهت السباكة، كما تكره أنت الآن عملك.
ماجدة: لماذا لم تمارس إذن عملاً آخر يا أبي؟
الوالد: وماذا عساي كنت أمارس؟ علموني السباكة.. ونحن مسيَّرون ولسنا مخيَّرون.. لقد تخيَّر لي جدك السباكة فمارستها وظللت متشبثاً بها طبعاً.. إن كان أبي سباكاً.. وإن كان هذا العمل قد لاءمه وأفاده.. فلماذا لا يفيدني أنا أيضاً؟.. لنفرض الآن أنني هجرت عملي وأنا في شرخ شبابي ورحلت إلى أستراليا لألهو؟ فماذا كان يحدث لأسرتي؟ هه؟ (لماجدة) ما كنت لتحصلي على ذلك القسط من التعليم الذي حصلت عليه يا بنيتي. إن المرء يجب أن يعيش بصورة أو بأخرى، وينبغي لمن يريد أن يعيش أن يتمسك بعمله الذي يحصل منه على لقمة العيش.. ولا يستسلم لأية أفكار خيالية أو صبيانية.
فريد: (في هدوء وأدب) كلنا يشعر أحياناً بالضجر وعدم الارتياح.. ثم نعود فنتغلب على هذا الشعور.
ماجدة: (ملتفتة إلى فريد) هل انتابك هذا الشعور؟
فريد: منذ زمن بعيد.. ولكنني الآن على ما يرام.
رفيق: لم أقل مرة إنني سوف أرحل.. كل ما قلته حتى الآن.. هو أنني ((أريد)) الرحيل. هل قلت أكثر من ذلك يا ليلى؟
ليلى: (في وداعة) كلا يا عزيزي.
الوالدة: ما كان ينبغي لك أن تقول إنك تريد الرحيل فهذا أمر مضحك.
رفيق: لم أقل ذلك إلا بعد أن أعلن شوقي عن أنه قرر الرحيل.
الوالدة: عرفت منذ البداية أن ذلك الرجل شوقي وراء الأمر.
رفيق: وقلت في نفسي.. إذا كان شوقي قد ألقى بوظيفته طائعاً مختاراً في البحر.. فلماذا لا أفعل مثله.
الوالد: ذلك أنه معتوه.. وما كان بك حاجة إلى أن تثبت أن ثمة معتوهاً آخر.
ماجدة: إنه ليس معتوهاً. وحبذا لو رحل رفيق أيضاً.
ليلى: ماجدة! كيف تبيحين لنفسك أن تقولي هذا؟
ماجدة: (وهي تولي ظهرها متجهة إلى المدفأة) ما الذي يدعو شاباً أن يربط نفسه بعمل طوال حياته وهو يكره هذا العمل؟ لو كنت رجلاً..
الوالدة: (مقاطعة) ولكنك لست رجلاً.. فرأيك إذن لا يعتد به.
رفيق: أعرف بالطبع أن مسألة زواجي تجعل موقفي مختلفاً.. (يتلفت نحوهم في غضب) ولكن لا ينبغي أن يعتبرني أحد وغداً لمجرد أن لي آراء وأنني أفكر بحرية. هل أعتبر وغداً لأنني أعتنق فكرة ما؟
(فترة سكون لا يجيبه خلالها أحد).
ولسوف أكاشفكم بآرائي وبكل ما يخالجني. إنني لا أرى أن الزواج يجب أن يكبل الرجل ويجعل منه عبداً. ثم إنني لا أريد قبل كل شيء أن أهجر ليلى لأنها زوجتي وأنا فخور بها. ولكن.. هل يقضى عليّ لأنني رجل متزوج، بألا أسعى إلى شيء ما على الإطلاق؟ إننا معشر الناس من الطبقة الوسطى قوم جبناء.. نلقي بأنفسنا في أحضان أول عمل تافه يصادفنا ونظل متشبثين به ومتعلقين بأهدابه، كالكلاب.. لا يثنيها حتى ضرب السياط عن التشبث بسيرها والتعلق به! ونظل ونحن متعلقين بهذا العمل خائفين.. خائفين من كل شيء.. من المطالبة بحقوقنا.. وحتى العلاوة، نخشى أن نطالب بها، ونظل ننتظر دون أن نفتح أفواهنا حتى تأتينا.. وعندما يقول لنا رئيس العمل إنه لن يمنحنا أية علاوة. فهل يواجهه أحد منا ويقول له ((إذن سأتركك وأذهب إلى مكان آخر لأحصل على ما يوازي عملي))؟ أبداً.. الجميع يخضعون. فأية فائدة تعود على المرء إذن من البقاء هنا طوال حياته؟ ولماذا لا يحاول أحد أن يغامر ولا نخوة فينا! وأصحاب الأعمال يعرفون ذلك ويتحكمون كما يشاؤون فينا استناداً إلى نقطة الضعف هذه.. وعندما يخفضون مرتباتنا، فإننا نستسلم ونتقبل منهم ذلك في وداعة الحملان، إننا لسنا رجالاً.. بل آلات صماء. ابتداء من الأسبوع القادم سيكون أمامي واحدة من أثنين. إما أن أقبل العمل في وظيفتي بعد أن يقتطعوا جزءاً من مرتبي، وإما أن أرفض وأبحث عن شيء آخر. وستقولون.. ويقول كل الناس احتفظ بوظيفتك.. وأكبر الظن أنني قد أحتفظ بها.. لأنني أيضاً جبان مثلكم جميعاً. ولكن الذي أريد أن أعرفه هو: لماذا لا تتركون رجلاً مثلي يعاني حالة من القلق والكآبة.. لماذا لا تتركون مثل هذا الرجل وشأنه دون أن تظنوه وغداً أو شريراً؟
فريد: ولكننا مع ذلك لنا عندما نتزوج مسؤولياتنا العائلية.. وما من شك في أننا لا نستطيع أن نتجاهلها.
رفيق: لست أريد أن أتجاهلها.. بل على العكس.. لقد كان الشعور بالذنب يغمرني، وأنا أنقل إلى ليلى نبأ تخفيض مرتبي.
ماجدة: (فجأة) إذا ما رحلت إلى أستراليا، تستطيع ليلى أن تحضر وتقيم معنا.
الوالدة: يا إلهي، كيف تقيم معنا؟ سيظن الناس جميعاً أنها مطلقة، أو ما هو أسوأ من ذلك.
فريد: (لماجدة) تقصدين.. أن تقيم معنا يا عزيزتي؟
ماجدة: (في ضجر) كلا.. تقيم هنا، هذا ما أقصده.
رفيق: إن لدي مبلغاً صغيراً مدخراً، وتستطيع أن تنفق منه أثناء.. كفي عن البكاء بحق السماء يا ليلى.. ألا يستطيع أحدكم أن يفهمني؟ أم أنكم تتعمدون ذلك؟
الوالد: أكبر ظني أنك اشتراكي متطرف.
رفيق: ألا يستطيع أحد أن يفكر في حرية، إلا إذا كان إشتراكياً..؟
الوالد: إن أغلب الإشتراكيين معتوهون، ويتحدثون دائماً عن قسوة أصحاب العمل وشرورهم.. وبراءة العاملين.
رفيق: لم أقل ذلك.. ولست إشتراكياً.
بهاء: سوف تهدأ أعصابك بعد رحيل شوقي.
رفيق: (في خبث) أما أنت.. فانتظر حتى تتقدم في السن عامين آخرين يا بني.
فريد: ألا ترى أن ليس لديك أي خطط حول ما سوف تفعله في أستراليا..؟ هل لدى شوقي شيء من ذلك؟
رفيق: إنه يحمل معه خطاباً لإحدى الشركات.
الوالد: وما قيمة مثل هذا الخطاب؟
ليلى: (باكية) أليس ممكناً أن أذهب مع رفيق..؟ إنني راغبة جداً في ذلك.
ماجدة: ستساعدينه أكثر لو بقيت.
الوالدة: إنه لا يرغب في اصطحابها، لقد قال ذلك.. (مخاطبة ليلى) كفّي يا عزيزتي عن التفكير في هذا الأمر، وإلا أرهقت نفسك ومرضت. أنت في حاجة إلى من يعتني بك وبصحتك. لا إلى من يثير قلقك ويخيفك (تلقي نظرة سخط على رفيق).
ليلى: إن صحتي جيدة.
رفيق: (فجأة) هيا بنا إلى منزلنا يا ليلى، يبدو عليك التعب.
الوالدة: ألم تلاحظ ذلك إلا الآن؟.
ماجدة: أمي.
الوالدة: إنها ابنتي وإذا كان زوجها لا يمنحها عنايته، فعليّ أنا أن أفعل ذلك.
ليلى: أمي.. أيتها العزيزة.. إن رفيق لا يقصد إلا كل خير، أنا واثقة من ذلك (لرفيق) هيا يا عزيزي إني على استعداد (تخرج من الحجرة لتأتي بحاجياتها).
فريد: (في لهجة من يضع المرهم على الجرح) حسناً.. ليس من الضروري على أية حال أن تحلّ المشاكل الليلة.. وفي الصباح بعد ليلة من النوم الهادئ قد تهدأ النفوس..
ماجدة: (في حماس) أحب المغامرة.
الوالد: هذا متوقع منك.. لأنك لا تعرفين ما ينفعك مما يضرك.
بهاء: إذن فقد أصابتك العدوى أنت أيضاً يا ماجدة.
(تعود ليلى بعد أن ارتدت معطفها وتأهبت للخروج وتمر عليهم جميعاً لتصافح هذا وتقبّل تلك، متصنعة السرور، وآثار دموعها ما زالت على خديها).
رفيق: (الذي لم يصافح أحداً يحييهم وهو عند الباب) تصبحون على خير جميعاً (يخرج ومعه ليلى).
الوالدة: (تشرع في التعليق على ما حدث) ينبغي أن أقول إن رفيق.
بهاء: (مقاطعاً إياها) أوه دعينا من هذا يا أماه، اعزفي شيئاً يا ماجدة.
ماجدة: لا أريد العزف.
الوالدة: قد يحب فريد أن يسمع شيئاً.. أتحب يا فريد؟
فريد: إذا كانت ماجدة تحب أن تعزف.
ماجدة: إنها لا تحب.
الوالد: كوني بشوشة ومهذبة بقدر ما تستطيعين يا بنيتي.. كفانا الليلة ما حدث من رفيق.
(تذهب ماجدة إلى البيانو.. وتتعمد العزف بصوت صاخب مزعج وقد اختارت لحن ((هيا نرحل إلى فلادفيا)))
الوالدة: ماجدة! إننا في يوم الأحد، (تقصد ما جرت عليه العادة من مراعاة عزف ألحان هادئة يغلب عليها الطابع الديني في أيام الآحاد).
ماجدة: لقد نسيت.
الوالدة: ليس لك أن تنسي هذه الأمور.. سناء يا عزيزتي.. اعزفي أنت.
سناء: لا أجيد العزف.
الوالد: هراء، هيا اعزفي (تذهب سناء إلى البيانو ومن ورائها بهاء).
بهاء: (وهو شديد القرب من سناء، سيساعدها في العثور على إحدى النوتات الموسيقية الملائمة) إن رفيق وغد كبير ماذا تظنينه قد قال لي أمس؟
سناء: لا أعرف.
بهاء: قال لي أن أتأكد قبل أن أتزوج من الفتاة التي اختارها.
سناء: يا له من وحش.
بهاء: أتدرين ماذا كان ردي عليه.. يا حبيبتي؟
(يقبّلها وهو يخفي وجهيهما بإحدى النوتات الموسيقية).
الوالد: (يلمحهما فيصيح وهو يتلفت حوله) استعملا نوتة أكبر (تسرع سناء بالجلوس إلى البيانو تعزف لحن ((لتحصوا نعم المولى)) ويشترك الجميع في الغناء:
فلتحصوا نعم المولى
واحدة.. واحدة
احصوها لتعلموا
إنها.. متعددة
تبارك رب العرش
ذو المنن الخالدة
فلتحصوا نعم المولى
 
طباعة

تعليق

 القراءات :781  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.