شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (3)
وكانت حالة الجو في هذه اللحظات، بل منذ غادروا السفينة إلى القارب الذي نقلهم إلى الرصيف أو الميناء شيئاً يزهق الأنفاس... حرارة الشمس شعرت ضحى كأنها تشوي وتمزق الجلد، وهذا مع ما يتصبب من العرق الذي يتجمع على الجبهة وفي الوجه، ويتقاطر حبات لا بد أن تزاح ليتاح فتح العين... لا أثر أبداً لنسمة هواء، تجفف هذا العرق مع رطوبة في الجو تضاعف الإحساس الخانق بضيق الأنفاس... دارت رأسها وأحست بالغثيان يكاد يقذف كل ما في جوفها... حاولت أن تتماسك... ولكن كيف؟ دارت بعينها حولها عسى أن تجد مقعداً تلوذ به... ولكن... فجأة سقطت بطولها حيث هي على الأرض المبتلة بمياه قذرة... وقد كانت واقفة خلفه، على وجهها هذا الحجاب الأسود الصفيق الذي لا تدري كيف جاءها أبوها به يوم سفرها إلى السويس... وكيف ظل يهمس في أذنها، أن تسدله على وجهها ثم لا ترفعه بعد ذلك أبداً ما دام هناك رجل غير زوجها، فتلك رغبة (الرجل) وتلك تقاليد الإسلام وقد أكرمها الله سبحانه بأن تكون زوجة رجل يعيش في البلد الذي لا يتسامح أبداً في الحفاظ على هذه التقاليد.
لم تفقد وعيها في اللحظات التي تهاوت وسقطت فيها على الأرض، سمعت هذا وذاك ممن كانوا يقفون يرددون ما يعبّر عن المفاجأة والدهشة بسقوطها وسمعت آخر يصيح يطلب لها ماء... أحست بزوجها ينكفىء في اتجاهها... وهو يقول (إيش بك؟) ثم لا شيء بعد ذلك... غابت عن الدنيا تماماً...
لا تدري كيف نقلوها إلى هذه الغرفة المظلمة وأضجعوها على مرتبة بدون وسادة أو غطاء. دارت بنظراتها حولها... لم يكن هناك أحد قط، من بعيد أصوات صبية قدرت أنهم في الشارع، وأنها هي في غرفة في الطابق الأرضي...
ترى أين هي... وأين هو؟... لا يهم فهي الآن تحت سقف... في غرفة. هناك نسمة خفيفة باردة لا تدري من أين تجيء... دارت بنظراتها مرة أخرى... هناك نافذة عريضة مغلقة الدرف، ولكن النسمة كانت تأتي من الشقوق في ألواح الخشب المهترىء... تنفست ملء رئتيها... تحركت قليلاً... لتشعر كأنها ملفوفة في ثياب مبتلة. تذكرت المياه القذرة التي سقطت عليها في الميناء... رفعت يدها تتحسس الطرحة السوداء. كانت هناك على رأسها وحول عنقها مبتلة أيضاً... يظهر أنهم رشوها بالماء لتفيق من اغتمائها... وفجأة كاد يصعقها صوت نهيق حمار كأنه معها في نفس الغرفة... غير معقول... وما كاد يفرغ الحمار من النهيق حتى سمعت نهيق حمار آخر ولكن من بعيد... لم تفهم شيئاً... ظلت في ضجعتها حيث هي وقتاً لا تدري كم طال... من شقوق الخشب يتسلل جزء من شعاع الشمس... وأصوات الصبية لا تزال تتردد حاولت أن تفهم شيئاً مما يتصايحون به... كانت صيحاتهم أحيانا شتائم... صعقها أن بينها لعنات وألفاظاً تصف الأم والأخت بأوصاف قذرة جدّاً. كيف؟... لا تدري... ولكنها رجحت أنها ربما في حي من هذه الأحياء التي يهبط فيها مستوى سلوك الصبية وتصرفاتهم... ما عليها... المهم أين هي؟... وأين هو؟ زوجها وأولئك الذين قال إنهم إخوانه الذين استقبلوه في الميناء... وذلك الرجل الذي أنذره بأن ابنته لن تسكن مع (الطبينه)... وأن عليه أن يجد لنفسه بيتاً يسكن فيه معها هي التي جاء بها من مصر... وطاف بذهنها ذلك البيت الكبير الذي تحدث عنه أبوها وهو يقنعها بأن توافق على دخول زوجها بها في بيته وأفضل غرفة فيه، والأثاث الذي قال زوجها إنه على مستوى أين منه هذه الموبيليا (التعبانة) في مصر؟... كل ذلك في مكة طبعاً... فها هي في مكة الآن؟! مستحيل قطعاً... فملابسها وحتى الطرحة على رأسها وحول عنقها لا تزال مبتلة بمياه الأرض التي سقطت عليها... وهذا المكان الذي وجدت نفسها فيه يستحيل أن يكون غرفة في فندق... يستحيل أن يوافق هو على أن يتركها أو أن يسكن معها في هذا المكان... ليس عليها إلا أن تنتظره... لا شك أنه سيجيء في أي لحظة...
استطاعت أن تجلس... رأت هناك على ضوء الشمس عند الباب المغلق الحقيبتين اللتين جاءا بها من مصر وإلى جانبهما لفة البطانيتين اللتين افترشاها وظلا يرتفقانها طوال الأيام الثلاثة على السطح المكشوف في الباخرة... تذكرت عذاب قضاء الحاجة في الباخرة وتلك الأبواب المغلقة وطابور المنتظرين... كيف يمكن أن تقضي حاجتها هنا... ماذا وراء هذا الباب المغلق؟!... ليس في المكان أي باب آخر... نهضت... حاولت فتح الباب... اكتشفت أن عليه من الخارج قفلاً كبيراً. تلصصت من الفجوة... رأت ممراً طويلاً... وفي نهايته هناك رأت حماراً... لا شك أنه الذي سمعت نهيقه قبل قليل... وحوله مجموعة من المعيز وعدداً من الدجاج... أنها قطعا في زريبة... فليكن... المهم الآن أين تقضي حاجتها؟؟!... ولكن تحت قدمها على الأرض أحست ووجدت المفتاح... فهمت أنهم أغلقوا الباب بالقفل وتركوا لها المفتاح... وعليها أن تحاول فتح القفل... ولم يكن الأمر صعباً... استطاعت فعلاً أن تفتح القفل وأن تخرج إلى الممر الطويل... ولكن أين الحمام؟... الروائح الكريهة التي تملأ الممر أكدت أنها ستجده... ولم يطل بحثها... وجدته ودخلت فعلاً ولكن هذا الباب لا يغلق... هناك كتلة كبيرة من حجر، فهمت أنها التي تستعمل لإغلاق الباب.
طال انتظارها بعد أن خلعت ثيابها المبتلة وارتدت غيرها... حزمة أشعة الشمس أخذت تغيب... لا شك أنه الغروب... تلاشت صيحات الصبية... بعد لحظات سمعت آذان المغرب... وليس بعد ذلك إلا الليل والظلام في زريبة للحمير والمعيز والدجاج... عصر قلبها الرعب والخوف من المجهول...
أحست بلذعة الجوع... كان كل ما تبلغت به من الغذاء قطعة الجبن وشريحة صغيرة من الرغيف قبل رسو الباخرة في الميناء... ثم لا شيء بعد ذلك حتى الآن فليكن ليس الصبر على الجوع مشكلة... ولكن الظلام في الزريبة... ولا أثر لزوجها أو لأي مخلوق مع هذا الصمت الذي أطبق على كل ما حولها... المهم أين هو؟؟...
لم يسعها إلا أن تعود إلى المرتبة في وسط المكان... أحست ليست بالوحشة والخوف فقط، وإنما بالضياع في عالم لا تعرف عنه أي شيء. سوى الزوج الذي بدا لها الآن أن أباها قد ارتضاه زوجاً لها، لأنه الوحيد الذي تقدم لها وقد تجاوزت الخامسة والعشرين من العمر... تلك الحكايات عن عائلته وبيته الكبير، وحتى عن الصلاة... كلها أخذت تفقد بريقها، منذ وجدت نفسها معه على السطح المكشوف في الباخرة... والآن ها هي تراه مخلوقاً. يتركها في هذه الزريبة وراء أربعة جدران، وفي الظلام... وحدها... ثم ما الذي جعله يفكر في الزواج منها، وهو متزوج، وربما له من زوجته أولاد؟؟؟ لم تكن تنسى أن والدها كان قد حرّم عليها دائماً ما تتمتع به كل فتاة من زميلاتها من المكياج... حتى شعرها كان يرفض أن تذهب لتصفيفه كما تذهب الأخريات... اعترفت بينها وبين نفسها أن وجهها حين تواجه نفسها في المرآة كان يغلب عليه الشحوب ومسحة من الكآبة والحزن... فما الذي فيها وجعل هذا الرجل يتقدم لخطبتها وزواجها ويترك المئات غيرها من الفتيات الجميلات؟ وما أكثرهن في القاهرة... وحتى في كلية الآداب التي قال أبوها أنه يدرس فيها... واستوقفها هذا السؤال وكأنه أيقظها من غفلة طويلة لم يخطر لها أن تسأل: كيف يتفق أن يكون طالباً في كلية الآداب، ويتزوج، ثم يقرر العودة بالزوجة إلى الحجاز... لم يقل أبوها إنه يحمل الماجستير، أو حتى البكالوريوس كل ما قاله عنه، إنه طالب من الوافدين... طالب، ويتزوجها، ويعود معها إلى الحجاز لتسكن في البيت الكبير. وفي أفضل وأعظم غرفة فيه... كيف لم يخطر لها أن تناقش أباها... أو أن تسأله هو خلال الأيام التي قضتها معه في بيتها عن المؤهل الذي يحمله، أو عن السبب في عودته إن كان لا يزال طالباً...
واشتد الظلام... لم يعد يتسلل إليها أي بصيص من الضوء... ظلام دامس رهيب... وصمت مطبق... حتى الحمار لم يعد ينهق... لاحظت أنها تركت الباب مفتوحاً... غاص قلبها وهي في مكانها لا تدري كيف تصل إليه فتقفله... كيف تغلقه من الخارج وهي في الداخل... تسمرت في مكانها حتى الحركة لا تستطيعها في هذا الظلام؟ ولكن إلى متى؟؟!...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :723  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 11 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.