شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كلمة الختام...
والآن... وقد فرغت من تقديم هذه اللمحة عن الشخصية الأدبية عندنا، التي زعمت أنها القمة التي عرفت ولم تكتشف، أعلم أن بين من يقرأون هذا الحديث، من يطالبني بأن أضع أنامله، أو أفتح عينيه، على ما يثبت أنه (قمة) ويدفع عني تهمة إسرافي في الثناء عليها، مذهب من تجرفه العاطفة وقد فقد ما يخفّف من قوة تدفقها ضوابط المنطق والعقل، بل ضوابطاً لعلم بمكامن القوة ومناجم المعادن الثمينة، التي تدعم بالحجة ما زعمت.
وهذا مطلب أعترف بأنه عسير على من يكتب لمحة تستعرض القليل من أفكاره، والومضة من فنِّه، والنغبة من علمه، والشريحة الصغيرة المحدودة من سيرته وخلفياته الثقافية... ولكنه لا يتعذر ولا يتعسر على من يفرغ للأكثر والأوفى من هذه الأفكار، ومن هذا الفن، ومن هذا العلم بالتحليل والتتبع وفحص واختبار ما يبدو لكاتب اللمحة - وهو في عجلة من أمره - مبتكراً وأصيلاً ويتضح للمحلل والباحث أن له منابعه وأنه يتفاعل في نفس هذه الشخصية من مصادر أؤكد أنها كانت أكبر وأعز نفساً من أن تتعمد النظر أو التلفيق أو التعمية أو الإيهام والتمويه، ولكني لا أستبعد أن يكون مما تمثلته تلك المعدة الفكرية التي قلت إنها جبارة الهضم والتمثيل.
ومن يفرغ لعمل من هذا المستوى، لا بد أن يجد الوقت الذي يكرِّسه لموضوعه الواحد، ولسوء حظي وحظ حمزة شحاتة معي، أني لست ممن يجدون هذا الوقت الآن على الأقل، ولا أتحدث عن المستقبل وما بقي من العمر والجهد لا يشجِّع على أن ألتزم بشيء، أو أن أعد بما أصبحت أعدّه حلماً من الأحلام ليس بالنسبة لدراسة وتحليل ونقد آثار حمزة شحاتة فقط، وإنما بالنسبة لكثير ومتعدد ومتنوع من أعمال أدبية وفكرية تتجمع الرغبة في التفرغ لها، بل حتى في التفرغ لجميع وتبويب ونسخ ما يصلح منها للنشر، ولكن سرعان ما تطوقني الالتزامات الأخرى، فتنسف كل ما يتجمع، لتتركني مكرهاً على جرّ العربة المثقلة بالأعباء بينما نظرتي ترامق تلك الأحلام.
ومع ذلك... أفليس لذيذاً وممتعاً أن نظل نعيش ما بقي من أيام العمر كما عشنا ما مضى منه حالمين بالكثير والخطير دون أن نحقق في دنيا الواقع إلا القليل والتافه والنزر اليسير.
بلى... في الشعور بهذه اللذة والمتعة عزاء كثيراً ما أعان على البلوى وأسعف بالصبر الجميل...
مقتطفات من المحاضرة
* المجازفة في تاريخ نشأة الحياة، في تاريخ تطورها، قادت روادها إلى القمم الشامخة، وأعانت على كشف مساتير الوجود والفكر.
* الركود في تاريخ أمة، تتطلع إلى ما وراء حدودها الجامدة، شر من الخطأ.
* الأذواق متى ألفت أن تصيب لذتها من جمال محدود، تاقت بعد الفته، واستصفاء معانيه إلى ما يكمن وراء حدوده الظاهرة.
* إدمان النظر إلى الصورة الجميلة، يفقدها شيئاً من تأثيرها القوي، كلما تجدد إليها النظر المشغوف وارتوى منها الحسّ المنهوم، حتى تفقد مقدرتها على التأثير والأداء.
* الناس إن أدهشهم الرجل العادي لأنه لعب على الحبل بمهارة، لم يقنعوا من البهلوان الشهير إلا بما يدخل في حدود السحر من الأفعال الخارقة.
* إن كان الإنسان المتحضر اليوم لا يعيش كما كان يعيش سلفه، فإن قلبه لا يزال ذلك القلب، وقريحته الشعرية لا تزال تلك القريحة، ولا تزال أسباب الحب ومشاكله أو ابتعاثاته وأوهامه في نفس شاعر اليوم، هي ذاتها في شاعر الأمس.
* الشيء قد يكون صحيحاً في ذاته، وصحته لا تستدعي صحة الفكرة عن الاعتراف بإمكان تطبيقه أو استحالة هذا الإمكان... ولا تستدعي الإيمان به أو رفضه.
* حسبكم أن تقرأوا اليوم في الحجاز أساليب من الشعر وأساليب من الكتابة، لا يختلف بعضها، عما تعرفون لخيرة الكتّاب والشعراء في مصر... فمن الذي يعد هذا تقليداً أو سرقة؟؟؟ إنما هو أثر الاشتراك العام في مؤثِّرات فكرية متشابهة، وأثر انتشار الثقافة، وتهيؤ أسباب العلم بمستحدثات العقل والفكر والصناعة والفنون، وتوثق الصلات الفكرية والأدبية، وتوحد اللغة والدين وتقارب الطباع والأمزجة، وتأثير الاختلاط والامتزاج الاجتماعي والفكري... وفي شعراء مصر من نجد على شعره سمات شاعر عربي قديم وطابع صياغته وفي كتّابها من نجد من آثاره ما يعلن صلته الصريحة بأديب من كبار أدبائها... وفي كبار أدبائها من تطالعنا آثاره بأفكار أديب أو نظرات أو مذاهب فيلسوف من الغرب.
* الخلق الفاضل... يعرفه الناس، فلا يزيدهم فهماً له، أن تقيم الكلمات والتعاريف حدوده، فهم يكذبون ويخونون... ويؤمنون بأن الصدق والأمانة نبل.
وهم يتبذّلون ويشعرون أن العفة سمو.
ويظلمون... ويقدسون العدالة.
فالفضائل إذن صفات وأعمال تؤمن الجماعة الغالبة - اصطلاحاً - بفائدتها وضرورتها أو بأنها خير.
والرذائل صفات وأعمال تؤمن الجماعة الغالبة - اصطلاحاً - بضررها، أو بأنها شر.
فالنفع والأذى أساس الاعتبار في الفضائل والرذائل.
* الرجولة، في ميزان الاعتبار الأدبي، ليست هي الفارق الطبيعي بين جنسين، ولكنها مجموعة من الصفات الرائعة في خلق الرجل الرائع.
* لو أردت أن أضع تعاريف أدقّ وأكمل للفضيلة والرذيلة، والرجولة والأخلاق، لوجب أن أسوق أمامي قطيعاً من أفكار الحكماء والعلماء والأدباء والفلاسفة... وأكون قد عرضت عليكم بضاعة غيري...
* إذا انهزمت الرذيلة في مجال الحياة الظاهر... لم تنهزم في مجالها الباطن، فعرشها لا يزال موطد الأركان في النفوس.
* الإيمان الكامل الصحيح بالفضيلة معرفة... وعمل تقتضيه هذه المعرفة ثم إرادة... وحرية.
* الإيمان بالفضيلة دون العمل بمستلزماته ضعف لا يتناول حقيقة الإيمان بل يتناول قوة النفس وضعفها، وفتورها ونشاطها، فهو إيمان المعرفة لا إيمان اليقظة.
* لون آخر من الإيمان بالفضيلة تولده الضرورة لا يكون لاختيار الإرادة فيه مجال ولا لحريتها مساغ، كإيمان المرء بضرورة الثبات مع الاستبسال دون نفسه أمام خطر داهم، لا مناص له من مواجهته فالثبات هنا ليس إيماناً بالثبات، والعمل بمستلزماته ليس عملاً بمستلزمات إيمان يقوم على اقتناع الحرية المختارة لكنه إيمان ضرورة بهذه المستلزمات و الاستجابة لها. فهذا إيمان، وعمل بمستلزماته وإرادة ظاهرة. لا ينقصه إلا الاختيار ليكون إيماناً كاملاً... ففيم يختلف عن إيمان رجل تحمله بالسيف على أن يؤمن بأن الصدق خير من الكذب... على أن يكون صادقاً؟؟؟ فإذا عرف وصدق، فإنما يكون هذا إيمان ضرورة، وعملاً آلياً لا اختيار له فيه ولا حرية، وإنما يكون إيماناً تنقبض عليه نفسه كلما مارسه.
* الإنسان كما يشاء أن يفهمه الناس... غير الإنسان كما هو في نفسه.
* لرب رجل يأتي الأمر تظنه خيراً كله، وهو سبيله إلى الشر والأذى وانتهاك الحرمات ومطيّته إلى أغراض خائنة تسبح في دم الضحايا... يرى إعجابك وإعجاب الناس بما ظنوه خيراً، فيتهلل لأنه عرف مكانه من براعة الحيلة ونفاذ الدهاء... فوارحمتاه للإنسان من أخيه الإنسان...
* الوعظ يمسّ النفوس... ولا يرجها. ويثير فيها الرغبة، ولا يوقظ الإرادة، ولا أريد لحديثي الليلة أن يكون موعظة تلفّ النفوس فيما يشبه الغيم الرقيق، لا هو يجلوها، ولا هو يتركها، في غياهبها المطبقة.
* فرص الحياة شائعة يأخذ كل فرد في الجماعة بنصيبه منها.
هذا يطارد الغزال... وهذا يكمن له.
هذا يصيد أكثر... لأنه أكثر قوة وحيلة.
لا يصيد كثيراً إلا الأقوى.
القوي يعيش... والضعيف يموت.
هكذا آمن الإنسان بالقوة، وبمظاهر اقتدارها.
وهكذا آمن بالحظ... والزعامة... والبطولة.
* ألسنا في القرن العشرين... وفي دولة الفكر نرى أن القوة مصدر السلطان... وأن سلطانها عطل قوة الروح.
* الفقير، يشعر شعوراً متطرفاً بشكوى فقير مثله أو دونه.
الغني لا يشعر كشعوره، إلا نحو غني من درجته أو أقل قليلاً.
الفقير يعرف حرارة الجوع.
* الغني يعرف حرارة الاضطرار لبيع منزل... المسكين عنده من اضطر إلى بيعه... فهو في دنيا غير دنيا الفقر.
* النعمة لا تبطر... ولكنها قوة تجعل الإنسان انفرادياً... فهي تسدّ مسام الشعور والإحساس وتغلق نوافذ النفس.
ليس الأغنياء كلهم هكذا... ولا الفقراء كلهم هكذا.
هناك غني يشعر وتستجيب دواعي نفسه، ولكن في الألف.
وهناك فقير لا يشعر ولا يستجيب... ولكن في الألف.
* ليس في تغلُِّب قوة على قوة تغالبها، في ميادين التطاحن، شر ولا رذيلة... كلتاهما تعمل للبقاء والسيادة وكلتاهما تدافع عن حق تراه حقاً فالنزاع بينهما مشروع كما كان النزاع، بين الإنسان والحيوان مشروعاً.
* لا تزال الجماعة أقل دقة، وأسرع إيماناً وأعمق استجابة من الفرد.
* تضيق حرية الفرد كلما تقدمت أطوار الجماعة اجتماعياً، وكلما تكاثرت الروابط الاجتماعية، واتسعت الحدود لحرية الجماعة فيها.
* التمثيل قديم في حياة الإنسان... الأرجح أنه عرفه بعد أن عرف النار وتجمع حولها للدفء واللعب. رجل لذعته النار فقفز، وتوثّب على رِجل واحدة، وأمسك موضع اللذعة بيده... هذه مفاجأة يضحك لها الناس، لأن فيها شيئاً غير الجد المحض.
إذا قلّده أحدهم ضحكوا أكثر...
هذا تمثيل... ثم هو رقص...
هكذا اتسعت الحياة رويداً
والناس يمثّلون... ويقلّدون بعضهم، في الجد والهزل، لتحبهم الجماعة.
* المزاولة والتقليد أقدر على ترسيخ السجايا وتحويلها إلى مشاعر وأخلاق ثابتة من أحكام الضرورات.
* الحمار - وعلاقتي الأدبية به قديمة جداً - وعفواً - تضيق دائرة اتصاله بالإنسان، ولا يتخطّى حدودها الضيقة، لذلك كان تطوره التخلقي أقل مرتبة من تطور الكلب.
* لبيرناردشو، الكاتب والفيلسوف الإنجليزي - حمارة، ما أشك في أن لها نصيباً وافراً من الإدراك تخطّت به حدود بنات جنسها وأبنائه كثيراً، إن اطّرد القياس... وماله لا يطّرد.
* الثروة... أقدر على تحقيق المطالب والرغبات وبسط النفوذ من قوة الجسد وقوة الفكر.
* الفضائل أنانية مهذبة... والرذائل أنانية عارية.
* إذا عطفت أنا على مريض ملقىً في الطريق وواسيته، لا أنال التقدير يناله رجل بارز في المجمع يفعل فعلي...
* بعض المعائب والرذائل، يوسّع لها العرف العام صدره، متى كان المتصف بها قوياً وذا نفوذ.
* رقة الجانب، والبشاشة، والدعة، وصدق الشعور، والأريحية، ونبل الاتجاه، والإيثار، في رجل فقير لا تساوي كلها في ميزان الفهم والإعجاب، ابتسامة فاترة أو إيماءة مكرهة من رجل ذي نفوذ ولتكن بعد ذلك بارقة كاذبة لا أمل فيها.
* الناس لا يزالون يترنمون بالصدق ويحضون عليه ولكنا لا نجد له أثراً بينهم، وقد أصبح الكذب وما ولد من رذائل المكر، والخداع، والمداهنة، والتصنع، والمداورة، والرياء، قانون الحياة الاجتماعية.
* إذا قال قائل: إن حفظ الفضائل آخذ في الأدبار، لم يقل إلا بعض الحقيقة... الحقيقة كلها أن حظ الفضائل قد أدبر وزال.
* وارحمتاه للضعفاء... لماذا لا يتعلمون فن القوة إذن ليكونوا أقوياء؟!
* ما من فضيلة تمارس إلا وفي أطوارها دلالة على قهر النفس، وكبح غرائزها وجهاد لمطالب هواها فلا جرم أن يكون إعجابنا بها إعجاباً يؤدي معنى الاعتراف بقيمة شيء نجد صعوبة في اكتسابه أو نحسّ هذه الصعوبة في اكتسابه... وما تغلو قيم الأشياء - عادة - إلا بمقدار الصعوبة في الحصول عليها، وإلا بمقدار الحاجة إليها.
* الإيمان بالقوة ونفوذها، هو حقيقة الحياة، وهو قانونها في القرن العشرين، وفي القرون الأولى، وفي أطوار الحياة القديمة البعيدة.
* الدعوة إلى الفضائل حلم جميل بالحياة كما يجب أن تكون، لا كما هي كائنة... حلم ما تحققه إلا القوة.
* الكرم لم يكن في أول نشأته تضحية وإيثاراً وغراماً بالبذل، إنما كان - ولا يزال - دلالة افتخارية على اتساع نفوذ القوي ومقدرته على مواصلة الجد والإنتاج... على أنه لا يتناول إلا الزيادة... وسبيل تعويضها ممهودة هينة بعد اتساع رقعة التجربة والسعي، وامتداد مذاهب الحيلة، وحنكة المزاولة واتساع الثراء. ثم هو بعد، صفة لازمة لمن تحلهم قوتهم من الجماعة محل الأبطال والقواد... فالكريم أكثر أعواناً وأبعد صوتاً، وأعمق أثراً في النفوس وأرفع منزلة في العيون... ولا يزال في الناس من ينزلهم كرمهم منزلة الزعماء المسيطرين. والكرم فضيلة متعدية... لذلك كان الثناء و الإقبال على تمجيدها أكثر من الثناء والإقبال على تمجيد العفة... مع أن العفة قهر صارم، ورمز للقوة أكثر مما يكون الكرم الذي هو في معناه وطبيعة دوافعه، انتفاء للخوف من الفاقة، أو توكيد للمقدرة، أو استغراق في لذة نفسية، أو سعي وراء مطلب أدبي يكون أغلى من المادة المبذولة في نفس الباذل.
* إن كان الكرم شعراً وحماساً وخيالاً جميلاً، فإن البخل حكمة وفلسفة وفهم عميق.
* الكرم يعطي ليأخذ، والبخل اكتفاء... وما عاب الناس البخل إلا لما فيه من أثر الأنانية الواضحة، واعتكاف في حدود الذات... ونحن نراه أنانية محدودة قانعة... ونرى الكرم أنانية واسعة جشعة... همّها استرقاق النفوس والألسنة وذيوع الفخار وتحقيق المطامع، والاستمتاع باللذة الخفية.
* القناعة... كانت فضيلة - ولا تزال فضيلة الصابر المحروم - لأنها رمز الاكتفاء القوي عن الناس، والتحكم في مطالب النفس، وحد طماحها، ترفعاً عن التدلي لالتماسها منهم. ولكنها اليوم فضيلة خاملة، توشك أن تنقلب رذيلة في عرف الحياة الراهنة ومصطلحات طورها الحديث فهي معدودة في الفقير تسليماً بالعجز عن إدراك الرغائب وفي الغني دلالة الاستكفاء.
ولو قلنا: إنها في الغني والفقير دليل سمو النفس وترفّعها لم نقل حقاً.
ولا يسعنا أن ننكر أن قناعة الفقير والضعيف والعاجز، عزاء يلتمس لتخفيف وطأة الشعور بالحرمان عن النفس. وهذا المتنبي يقول:
كل عفو أتى بغير اقتدار
حجة لاجىء إليها اللئام
فالعفو عنده، لا يكون إلا من قادر... وهذا مطابق للاصطلاح... فلماذا لا تكون القناعة فضيلة - إن كانت - إلا ممن تتوفر فيه المقدرة على تحقيق الأطماع.
* من الذي يرى أن عفة الشيخ في طور كلاله واسترخائه فضيلة؟؟؟ إنما هي فضيلة السن وقانون الفتور. وليست فضيلة القوة والصبر والمغالبة، كما هي في الرجل القادر على تأمين مطالبه.
* الكذب في المدينة العامرة ضرورة اجتماعية واقتصادية، تعين على الرواج، وانتعاش حركة التبادل والإقناع.
فلو ساد الصدق فيها أصيبت مجالات الحركة والنشاط بركدة يتضاعف معها الشعور بأعباء الحياة وهمومها.
* الكذب دليل فقدان الثقة بنفع الصدق... وهو أكثر الرذائل نسلاً، وأرشقها دخولاً على النفوس وأوسعها حذقاً.
* الرياء، والتصنع والغيبة، والخداع، والمكر والمداهنة والمداورة، والمصانعة، والنفاق، والغدر، والدهاء من مواليد الكذب ومركباته.
وقد ضمنت له هذه الكثرة - في المواليد - الشيوع والسيطرة... وضيقت مجال الصدق حتى اعتبر خشونة وجهامة، وقلة بصر بالحياة... وسذاجة.
* بعض الرذائل ألصق بالحياة، وأقرب إلى طبائع النفوس من الفضائل، ويؤلمنا أن تكون المماراة في هذا ضرباً من العبث.
* لنا رأي... نخالف به الاصطلاح الشائع في الفضائل والرذائل خلاصته: أنا لا نرى صفة من هذه الصفات التي جرينا في هذا الحديث على تسميتها: فضائل ورذائل، ما هو خليق بهذه التسمية.
وإنما ندعوها محاسن ومعائب فردية يهبط بها العرف أو يعلو، على وفاق نصيب المتصف بها من القوة والضعف أو على نصيبها من الشيوع والخمول وأساسها الأنانية والمصلحة.
أما الفضائل التي نراها خليقة بهذه التسمية فهي التي نزل بها القرآن ودعا إليها... تلك فضائل لا يكون للمتصف بها، والمؤمن بقوانينها، نظر إلى مصلحة أو سمعة، وإن كان شيء من ذلك، فالمثوبة عند الله، والزلفى إليه.
فالكرم فيها إحسان إلى مستحقه... ينزل منزلة الحق المفروض له وخروج من سلطان المادة وحدودها في سبيل الله.
والأمانة مبدأ يعامل الأمين به الناس، كأنه يعامل الله...
والصدق ميزان دقيق... لا يستقر فيه الغش والتدليس، ولا يستقر فيه الحقد والرياء.
والتواضع إنكار للذات وقوتها في سبيل إيمانها بقوة الله.
والعفة سمو بالنفس لا تشيل بميزانه خالجة من خوالج الشيطان والهوى، فإذا انحرفت بها نزوة عارضة من نزواتها لجأت إلى التكفير والتوبة، والاعتراف لتتطهر من إثمها.
وهكذا حتى تكون الفضيلة حياء من الله تتجنب مواطن حرماته، فلا تأتيها ولو أتاها الناس جميعاً.
* فضائل الدين التي بعث محمد~، ليتمم بها مكارم الأخلاق - تضحية لا ينظر من ورائها إلى غرور الدنيا، وأعراضها الزائلة... تضحية لا تضمن للمقدم عليها متعة ولا فائدة إلا الزلفي إلى الله... ونعمت تجارة لن تبور.
تلك محاسن... وهذه التي جاء بها القرآن فضائل،
تلك فخاخ يصاد بها حطام الدنيا، أو تسحر أعين الناس.
وهذه وسائل ينال بها رضاء الله، وتبتغي المثوبة عنده.
تلك محاسن نزل بنا إيماننا بها إلى الحضيض، فكانت شارة ضعفنا... وهذه فضائل أقامت مبدأ سامياً فتح القلوب والنفوس، قبل أن يفتتح المدن والممالك... فما يعجزها والله أن تنهض بهذه الأمة التي قعد بها ضعفها، وقعدت بها محاسن ومعائب بنيها.
فلنلتمسها... ولنمهّد المجال لظهورها... فهي أمل النجاة، وسبب النهوض وسبيل القوة والظفر.
* إن كل فضيلة من فضائل القرآن تضرب المثل الأعلى الكامل للقوة وحريتها فآمنوا بها واطلبوها.
وكل فضيلة من فضائلنا تضر مثلاً للضعف والتهافت والتمويه فاعرضوا عنها وانبذوها.
وليكن الكريم الوهاب محسناً أنوفاً، يأبى أن يأخذ بما يعطي شيئاً.
وليكن محسناً بصيراً، يفرق بين الحسنة الواجبة، والمحمدة الزائفة.
وليكن الشجاع مجاهداً حراً... يغضب للحق كما يغضب لنفسه.
وليكن المتواضع صادقاً... لا طامعاً.
والصابر مختاراً لا مكرهاً.
والإيثاري زاهداً لا تاجراً.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :882  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.