شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المقدمة
في أدبنا قمة عرفت ولم تكتشف..
وليس وجه الغرابة في أنها عرفت ولم تكتشف، وإنما في أنها القمة، التي لم تخضع لما تخضع له القمم - حتى في التكوين الجيولوجي - من عوامل التحات والتعرية، وما إلى ذلك مما نتجنّب الخوض فيه بأي تفصيل يختص به العلماء.
والقمة التي أتحدّث عنها، ليست قمة من قمم جبالنا، وإنما هي قمة أدبية، وهذا إيضاح لا بد منه لمن يتوهم، أن قاعدة الأخذ من كل شيء بطرف بالنسبة للكاتب أو الأديب، لا تمنع أن أخوض في بحث جغرافي أو جيولوجي... ثم لا بد منه أيضاً لأؤكد أن هذه القاعدة، قد أصبحت خرافة نصيبها من السخرية هو النّصيب المقدور، لكل من يطيب له أن يتوسع في الادّعاء.
والقمة الأدبية التي أتحدّث عنها، لم تخضع لما تخضع له القمم من مثيلاتها، على امتداد وتلاحق السلسلة الطويلة من أولئك العباقرة الذين عرفهم تاريخ الأدب العربي، أو تاريخ أي أدب من آداب الأمم في هذا العالم الكبير.
إنها القمة التي أخذت العيون بشموخها، وكأنها ولدت قمة منذ درجت على تراب هذه الأرض... أو منذ تفتّحت هذه العيون على الأدب، ومنذ تعلّقت قلوب الذين عرفوها، سحر الإشعاع في الحرف، وتعشّقت حنان موسيقاه، وسرحت مع أطيافه ورؤاه وانساحت في ألوانه وظلاله.
ورصفائي من الشيوخ، هم أصحاب تلك العيون التي أخذتها القمة بشموخها... وهؤلاء الرصفاء رغم ما طال من الزمن معاشرة لها، وتفاعلاً مع ما يشبه تفجر الينبوع الثر من عطائها، ليس في الشعر فناً آسراً أخاذاً، وليس في النثر دوراً ولآلىء فحسب، وإنما في الفكر غواصاً في الأعماق ومحلقاً في أبعد الآفاق، ومتمرداً على المألوف، والتقليدي والمتبع، إلى حد كثيراً ما وصفه محبوه قبل شانئيه بأنه (لا يطاق)!
رصفائي هؤلاء... رغم طول العشرة، ورغم وثاقة تركيب إطار الزمالة، الذي جمعهم بها، بل ورغم وشائج الود والصداقة التي توطدت بينهم وبينها، يمكن أن أقول إنهم عرفوا هذه القمة شاهدوها... ولعل بعضهم، لم يعدم القدرة على دقة تقدير شموخها، وقد يبلغ بآخرين منهم، حد توهم أنهم لا يجهلون عنها شيئاً ذا بال، ما داموا قد رأوها،وطافت أبصارهم بهذا الجانب أو ذاك من جوانبها، ولكن أرجو أن لا أدهشهم، أو أثير استنكارهم إذا قلت: إن طبيعة كل قمة أن ترى... وأن تملأ العيون، وأن يتلامح هذا الجانب منها أو ذاك، مما يبدو وكأنه يغني عن اكتشاف الذروة فيها، والبحث فيما وراء الظاهر من قوامها... ولكن... كل هذا... لا يعني اكتشافها...
أن نسمع بقمة من قمم الهيمالايا، أو أن نقترب من سفوحها وأن نرفع أبصارنا إلى ذراها الضاربة في أحضان السماء، وأن يأخذنا العجب، بما يتلاحق فوق سطحها من المرائي والصور، يتفرق عنها الضباب فتشرق وتسطع لها الألوان والظلال ثم يتجمع ويتماسك، فيلفها، وتتلامح فيشتد الشغف بتأمل الدقائق واستشفاف التفاصيل الغائبة وراء هذا الضباب... كل هذا لا يعني سوى أننا رأيناها... ولكن الاكتشاف شيء آخر... وليس بيننا من لم يسمع عن البعثات التي تغامر بمحاولة اكتشاف هذه القمم، وما يتعرض له أعضاؤها من الرجال، من أخطار بل ما يفاجأون به من أسباب الفناء والدمار.
وهذا... وأعني اكتشاف القمة الأدبية التي أتحدث عنها، لم يحدث حتى هذه اللحظة...
ولقد كنت واحداً من هؤلاء الذين رأوها... بل كنت واحداً ممن جمعهم بها إطار الزمالة - ولا أقول الندادة - وممن توثقت بينهم وبينها وشائج الود والصداقة والألفة، والتصادم الفكري، ولكني كنت أيضاً واحداً ممن لم يزد حظهم من اكتشافها حظ الآخرين... وأعني أنني عرفتها وشهدتها شامخة، تعيش الحياة، وأعيشها معها عرضاً أغني عن الطول، وفترة من أيام بل سنوات صرم حبل امتدادها نزوح هذه القمة إلى مصر، وتعسر كل محاولة بذلتها للعودة إلى وطنها... إلى هذه الأرض وإلى جدة بالذات، إلا بعد أن اجتازت هذا الممر المحتوم، من الحياة الفانية إلى الدار التي ينكشف عنا - في انتقالنا إليها - الغطاء فبصرنا يومذاك حديد... ولكنها أيام وسنوات كانت على قصرها أزماناً طويلة وعريضة وعميقة، ترافق فكر، وتموج شعر، وتزخاراً بما يشبه الكنوز الدفينة ثراء ذكريات، وتجنح أحلام وآمال.
وبعد... إن هذه القمة في أدبنا، هي الصديق، والأخ الحبيب، والزميل الكبير المرحوم الأستاذ (حمزة شحاتة).
وما كاد ينشر خبر وفاته في الثاني عشر من شهر ذي الحجة عام ألف وثلاثمئة واثنين وتسعين، حتى ازدحمت جميع صحف المملكة ومجلاتها، بما جاشت به نفوس وعواطف الأدباء والشعراء من مشاعر الفجيعة فيه، والتقدير لمكانته، والحسرة والأسى لفقده...
وكانت هذه الهزّة التي سرت في نفوس الكتّاب والأدباء، وأخص منهم الشداة والناشئين ظاهرة، قل أن ألتفت إلى عنصر الغرابة فيها أحد، ممن ظلّوا يوالون الكتابة عنه راثين، وفي رثائهم دفقات فوارة من الإعجاب بأدبه. وزخات محتدمة من الإشادة بعبقريته.
وعنصر الغرابة في هذه الهزّة، وفي هذه الدفقات من الإعجاب والزخات من الإشادة، هو أن حمزة يرحمه الله، ظلّ - طيلة حياته - أحرص أقرانه ورصفائه على الزهد في نشر روائعه في الشعر وأسماط لآلئه في النثر، وشوارده من الحكم، التي تدخل ساحة ما يسمى (آفوريزم) أو (الأقوال المأثورة) من أوسع الأبواب، ليس في الأدب العربي الحديث فحسب، وإنما - ودون مبالغة أو انجراف عاطفي - في الأدب العالمي على أوسع نطاق!
فكيف يتفق أن تتقرر لهذه الشخصية هذه الشهرة الساطعة، والصيت البعيد، وأن تتبارى أقلام الشداة والناشئين في التحدّث عن عبقريته وفنّه، طيلة أسابيع، وربما حتى اليوم، دون أن تتاح لهم أو يتيح لهم الشاعر أن يقرأوا إلا أقل القليل من أعماله؟!
لا وجه للدهشة أو الاستغراب، حين نقرأ للأستاذ (أحمد قنديل) أروع ما توهجت به مشاعره أو مشاعر الراثين من الشعراء في القصيدة التي رثى بها (حمزة)... وليس مما يؤخذ مأخذ الانسياق والاتباع حين نقرأ ما كتبه الشاعر الأستاذ السيد (محمد حسن فقي)، ولا نتردّد في التقدير والإعجاب بما كتبه الأستاذ (محمد عمر توفيق) أو الأستاذ (حسين بن سرحان)، أو الأستاذ (ضياء الدين رجب)... لا وجه للدهشة والاستغراب لأن هؤلاء مع غيرهم من زملائه، هم الذين عايشوا الشاعر الفقيد، وعاشوا تفتح عبقريته وازدهار عطائه وامتلأت نفوسهم انفعالاً وتأثّراً بإشعاع تلك العبقرية، ونفحات ذلك العطاء... بل هم الذين عايشوا مرحه وروحه الآسر، وصراعه الفكري، وغوصه على الحقائق، أو ما يريد هو أن يجعله حقائق، بمنطقه القوي المكتسح.
وإنما الدهشة والعجب، من هذا الفيض الذي ظل يتدفّق من أقلام الشداة والشبان، الذين لا أشك في أن بينهم من لم ير الشاعر إلا في الصور التي نشرت له، ولم يقرأ له إلا ما نشر في: (الشعراء الثلاثة) وفي: (شعراء الحجاز في العصر الحديث) وهما المؤلفان المعروفان للأستاذ (عبد السلام الساسي) وقد لا أكون مبالغاً ومسرفاً في الشك، إذا ذهبت إلى أن بعض من كتبوا عنه - وبحرارة - لم يطلع حتى على ما نشر له في هذين الكتابين.
وإذا كان لا بد من تفسير لهذه الظاهرة، ولا بد أن نسميها (ظاهرة)، فهو أن أقل القليل من هذا الذي نشر له وعنه، كان له من الأثر في النفوس، والإيغال في المشاعر، والرسوخ في الأذهان ما لم، ولا يتوفر لغير حمزة شحاتة، إلا بالكثير المتوالي من عطاء منشور، وعلاقة موصولة.
وهذا يؤكد - مرة أخرى - أن حمزة شحاتة في حياتنا الأدبية كان وما يزال القمة التي عرفت، ولكنها لم تكتشف... فهؤلاء الشداة والناشئون الذين صالوا وجالوا بأقلامهم على اختلافها قوة وضعفاً وسطحية وعمقاً لا يختلفون عن أولئك الذين يشهدون إحدى قمم الهيمالايا، ويؤخذون بشموخها، ولكنهم يلتزمون الصّمت إذا ما سئلوا عن هذه القمة تكويناً يتعقد، ومسالك تتوعّر أو تسهل، ومداخل تتجهّم أو تهش، وأنواعاً من المعادن النادرة، والأحجار الثمينة، تظهر على السطح فتنالها الأيدي، أو تتستر وتتوارى في الأعماق، فلا يصل إليها إلا المختصون في التنقيب عن المعادن، إلى جانب أنواع من الدوح وصنوف من الحشائش والأعشاب، لها من ألوان الزهر، وغرائب الشكول، ما لا يعرف خصائصه، وفصائل انتمائه، إلا كبار الأخصائيين في النبات من علم الأحياء.
ولا أحب أن أتورط فأزعم، أني استطعت اكتشاف هذه القمة، وأن هذا الحديث يكشف، أو يعرض الكثير من المجهول عنها... وأرجح الظن أن رصفاءنا من الشيوخ، لا يرضيهم بل لا يرضيني أنا معهم، أن تقال الكلمة الأخيرة أو الوافية المنصفة، التي تعطي (حمزة شحاتة) حقّه، وحق أدبه وعبقريته من البحث والتحليل والتقدير، في مثل هذا الحديث، الذي يمكن أن أسميه مقدمة.
فإذا لم يقدر لي هذا - وظاهر الحال يؤكّد أنه بعيد المنال - فإن في شبابنا الجامعي المؤهل وهو يتفرّغ لتحضير رسالة في مستوى الماجستير، أو مستوى الدكتوراه، من أرجو أن تحفزه هذه المقدمة أو هذا الحديث كما أحب أن يسمى، إلى أن يجعل إحدى هاتين الرسالتين عن حمزة شحاتة شاعراً وأديباً وفيلسوفاً... أو فلنقل رائداً من رواد الفكر في هذا البلد الذي يكفيه حين تقفر حياته الفكرية طيلة ما يقرب من نصف قرن، ممن يمكن أن يعتبروا رواداً، أن يكون فيه ومن أبنائه البررة حمزة شحاتة رحمه الله.
كيفَ عرفته؟
عرفت حمزة شحاتة ذات مساء، بعد إطلاق سراحه من معتقله في الرياض، مع عدد من شبّان تلك الأيام على أثر الفتنة التي شغب بها (حامد ابن سالم بن رفادة) وانتهت بمقتله وابنيه على مقربة من ((ضبا)) في الشمال من ساحل البحر الأحمر، في عام ألف وثلاثمائة وواحد وخمسين. وكان من هؤلاء الشبان أستاذنا الشيخ ((عبد الوهاب آشي))، أول رئيس تحرير لجريدة صوت الحجاز التي كان العدد الأول منها قد ظهر في يوم الاثنين السابع والعشرين من شهر ذي القعدة عام ألف وثلاثمائة وخمسين... كما كان منهم الأستاذ ((محمد حسن عواد)) الذي كان بدوره مديراً لتحرير هذه الجريدة... وإذ كانت جريدة صوت الحجاز تصدر في مكة المكرمة وكنت من سكانها فقد كانت معرفتي بالأستاذ (عبد الوهاب آشي)، وبالأستاذ (محمد حسن عواد) أسبق من معرفتي بحمزة.
كنت أمشي خارجاً من مظلّة المسعى، إلى ساحة الصفا، برفقة صديق أرجو ألا تخذلني الذاكرة إذا قلت إنه الشيخ الأستاذ ((صالح باخطمة))، وقد كان، وأرجح أنه لا يزال رغم صمته، من رجال القلم والفكر، مع الزهد في النشر، وإن كنت لا أنسى له جولات في صوت الحجاز ينشرها بتوقيع (المقنع).
كنا على موعد لزيارة الشيخ (عبد الوهاب آشي) لتهنئته بسلامة العودة وبالبراءة مما نسب إليه مع أخوانه... وسمعت الشيخ ((صالح باخطمة)) يهمس: (انظر... هذا الشاب... أبو نضّارة)!، وأشار بأصبعه، فرأيت شاباً، فارع القامة وثيق البنيان، عالي الجبهة، أسمر اللون وعلى رأسه تلك الكوفيّة التي كان شباب جدة يتأنّقون، ليس فقط في طريقة وضعها مائلة أو مستقيمة ومنحدرة إلى الوراء، أو متوثبة إلى الأمام، وإنما في معالجتها بالنشا والكي والتكوين الخاص... وعلى العنق، قطعة من القماش ما زلت أسميها (شالاً) ولعل لها عند إخواننا في جدة اسماً آخر... وقد تختلف هذه القطعة أو هذا الشال مادة ونسيجاً كما تختلف ألواناً وأثماناً، ترتفع فتبلغ عدداً من الجنيهات الذهبية، وتنخفض، فلا تزيد على عدد من الريالات الفضية... ولكنها - وأعني هذه القطعة من القماش - دائماً حول العنق، يتدلى طرفاها على الصدر، يحيط به المعطف - وكانوا يسمونه ((كوتا)) - الذي يغلب أن يكون من لون الثوب، وهذا الثوب لا بد أن يكون ناصع البياض، كما هي الحال الآن - ولكن لا بد بالنسبة للمتأنقين المترفين من شباب جدة، أن يكون أقصر، أو قصيراً، يسمح بظهور السروال، (الذي لا يختلف عن البنطلون في شيء) وقد سمعت أن النساء كن يبذلن الطائل من الجهد لكيّه، وإبراز استقامة خط الثَنْية فيه.
وأضاف الشيخ صالح باخطمة: (هذا أبو عرب... حمزة شحاتة) وكان يعرفه فاستوقفه مرحباً أو استوقفناه معاً، أمام بيت باناجة الذي كان يحتلّ الصدر من ساحة الصّفا للقادم من أجياد أو سوق الصغير، ويفصل بين المسعى والقشاشية.
وكان حمزة ذاهباً، هو أيضاً إلى منزل الشيخ عبد الوهاب آشي في القشاشية، فترافقنا وما زلت أذكر تصعيدنا في سلالم منزل الشيخ عبد الوهاب طابقاً بعد طابق، إلى أن وصلنا إلى السطح، أو ((الخارجة))، كما كانت تسمَّى تلك الساحة ويسهر فيها الأصدقاء المقربون، في البيوت التي تتعدّد فيها الخوارج، هرباً من الحر وطلباً لنسمة الهواء.
ولا بد أن أذكر في هذه اللحظات إعجابي البالغ، بالمثال الذي بدا لي رائعاً للأناقة في هندام حمزة وملابسه... كان له ذلك المظهر السَّرِي الذي يذكِّرك بإحساسه المرهف ببواعث الشباب ونوازعه وما يستتبعانه من تعلّق بالترف، وحرص على التأنق، في إطاره من صرامة الرجولة، ودفقة عنفوانها واعتزاز بالشخصية وإحساس بالوزن الفكري تحلِّق به مشاعر النبل، وليس التنبّل، والرفعة، وليس الترفّع وصدق العاطفة فيما يفضِي به عن ذات نفسه، وخلوصها، وليس افتعالهما أو التظاهر بهما.
ويطول الحديث عن مراحل العلاقة بين حمزة، وبين أصدقائه في مكة حين يسكنها وبين هؤلاء وأصدقائه في جدة حين يعود إليها كلما استقال كعادته من الوظائف التي يتقلّدها... بل قد لا ينتهي هذا الحديث إذا ما ذهبنا إلى استعادة ذكريات ليال، لم تكن تخلو من المرح والعبث، ولكنها تزخر وتزدحم أشد الازدحام أيضاً بالحوار والنقاش، حول ما لا يحصى من شؤون الفكر والأدب والفلسفة والفن والسياسة والأخلاق.
وما زلت أذكر، ولا ينسى رصفائي من الشيوخ، كيف كانت تنقضي الليلة من الغسق حتى الفجر في حوار حول آراء أفلاطون في جمهوريته، التي اشتريت أول نسخة منها بجنيه ذهبي ممن آن الأوان لذكر فضله على ناشئة تلك الأيام، باستيراد هذه الكتب أو اصطحابها معه في عودته من مصر وهو الشيخ ((أحمد حلواني)) في مكتبته، أمام دائرة البريد في القشاشية، وكانت أول ترجمة للجمهورية ظهرت في اللغة العربية بقلم (حنا خباز)... ثم حول الفارابي ومدينته الفاضلة، بل حول داروين ونظريته في أصل الأنواع، وقد ترجم كتابه الأستاذ ((إسماعيل مظهر))، بل لست أنسى كيف كنا نتناوب على النسخة الوحيدة من كتاب أو كتب الدكتور ((شبلي شميل))، رغم ما كان معروفاً عنه من تطرّف في الدعوة إلى التحرر من الآراء والعادات القديمة ومن تسليمه بمذهب داروين تسليماً مطلقاً انتهى به وبأمثاله في تلك الفترة إلى الزندقة والإلحاد... وهذا إلى جانب تهافتنا على جريدة (السياسة الأسبوعية) التي كان يصدرها ويرأس تحريرها الدكتور ((محمد حسين هيكل)) ومن محرريها المرحوم الأستاذ ((إبراهيم عبد القادر المازني)) والدكتور ((طه حسين))، و((عبد العزيز البشري)) و((عباس حافظ))، ومنهم، من لا بد أن يعتبر طليعة شعراء التجديد، المرحوم الشاعر (علي محمود طه المهندس) الذي نشر فيها قصيدة (البحيرة) لألفونس دي لامارتين، وقد نقلها إلى العربية شعراً منظوماً ومطلعها:
ليت شعري أهكذا نحن نمضِي
في عباب إلى شواطىء غمض
وما زلت أذكر أول عهدي بكتاب ((الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني)) ولم تكن دار الكتب المصرية قد أصدرت من أجزائه سوى الأجزاء من الأول إلى الخامس، وما كدت أراه مجلداً تجليداً أنيقاً، في مكتبة الشيخ ((أحمد حلواني)) حتى أخذت أوفر قيمة هذه الأجزاء من الراتب الذي لم يكن يزيد على ستة جنيهات ذهبية، تدفع (بقيمة اعتبارية قدرها عشرة ريالات) بينما قيمة الجنيه الذهبي في السوق، لا تقل عن عشرين أو ثلاثين ريالاً.
ويصدر في هذه الفترة، (كتاب في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين، ونقرأ في الصحف المصرية، تلك الضجة التي أثيرت... فقرأناها وظللنا ندير الحوار حول آراء الدكتور طه وآراء من ثاروا عليه، ونعود إلى ما بين أيدينا من الشعر الجاهلي، وعلى الأخص منه المعلقات بشرح الزوزني فنجد بيننا من يسفّه آراء الدكتور، ومن يعتدل فيتروَّى ويطيل التأمل فيما قاله ويقوله خصومه والثائرون عليه.
وإذ كنا قد التفتنا إلى الدكتور ((طه حسين)) بكتابه هذا وبالثورة التي أطاحت بوزارة الحزب الذي نسيته الآن، ولعله حزب الأحرار الدستوريين فلم يكن لنا مناص من التهافت على ما يكتب في الصحف وما ينشره من كتب أو مقالات وعلى الأخص في جريدة الجهاد... وكأنَّ الشيخ ((أحمد حلواني)) كان يتحسس اتجاهاتنا، ويفهم مسار تطلّعنا دون أن يشعرنا بشيء، وهو ما يمتاز به عن المرحوم الشيخ (عبد لله فدا) وكان كتبيّاً عريقاً، ومعدوداً في الأدباء والخطباء. فإذا بالشيخ أحمد يستورد أو يعرض في مكتبته، كتاب (حديث الأربعاء) ثم كتاب (الأيام) للدكتور طه حسين أيضاً... فنشتريهما، ونعكف على قراءتهما حيناً وننصرف إلى سماع أغاني عبد الوهاب من فيلم الوردة البيضاء من جراموفون، نحكم سدّ بوقه أو سماعته بالقطن حيناً أو المنشفة المبللة بالماء حيناً آخر...
ثم فاجأنا الشيخ أحمد حلواني أيضاً بكتاب لم يكن مما ينبغي أن نهتمّ به أو نُعنى بقراءته، إذ لم يكن أدباً ولا فلسفة، ولكنه يحمل عنواناً مغرِياً، كان عنوان الكتاب: (فقه السياسة لمؤلفه أحمد وفيق)... وكان في مجلدين ضخمين... لا تقلّ صفحات كل منهما عن خمسمائة صفحة. فاشتريته بكل ما بقي من الراتب الضئيل... وجاء (حمزة) من جدة، في إحدى جيئاته، ورأى الكتاب، فنظّمْنا ما يُشبِه برنامجاً للقراءة وسماع أغاني محمد عبد الوهاب بطريقة سد البوق، في البيت الذي كنت أسكنه من أملاك (ملائكة) في ربع مغازل... ولا أذكر أني فهمت شيئاً ذا بال من هذا الكتاب، ولكن لم يكن بد من قراءته من الجلدة إلى الجلدة، ومن الحوار حوله، والمؤلف، يرجعنا إلى مصادر بحثه التي لم يسبق أن سمعنا بها قط.
وفي هذه الفترة أيضاً، صدرت طبعة منقحة ومصححة ومحققة من كتاب (العمدة) لابن رشيق... ثم طبعة لكتاب (فقه اللغة) للثعالبي، ولم يمض وقت طويل حتى صدرت طبعة جيدة لكتاب (يتيمة الدهر) للثعالبي أيضاً...
* * *
معركته مَع العواد!
ولست أذكر كيف وقعت الواقعة بين (حمزة) رحمه الله، وبين الأستاذ (محمد حسن عواد)... وأهم ما يعنينا الآن، تلك المعركة حامية الوطيس التي نشبت بين الشاعرين... معركة هجاء مرير، قد لا نتقبّله خُلُقياً، وقد نضيق به أشد الضيق تجريحاً، ومساساً بما للشاعرين الكبيرين من كرامة ووزن وسمعة نقيّة وخُلُق كريم، ولكنّا لم نكن نملك إلا الإعجاب بأصالة الشعر، وبالابتكار في تناول المهجوّ، تناولاً يُغرِق في التعريض بقيمة كل منهما، وبالأسلوب الرفيع، في أداء المعاني، وفي التصرّف المذهل، في وصف المختلق من الأحداث...
وبعض هذا الهجوم قد نشر في جريدة ((صوت الحجاز))، وهذا أغرب ما يمكن أن يكتشفه اليوم من لم يعاصروا تلك الفترة من مسيرة الأدب في بلادنا... ولكن ما كان ينشره الأستاذ (عبد السلام الساسي)، ويحفظه عن ظهر قلب لكل من الشاعرين ظلّ ولا يزال هو الذي يعطينا نموذجاً من الفحولة التي لا تقل بحال عن نقائض وأهاجي الأخطل والفرزدق وجرير، في العصر الأموي، وعن ابن الرومي وبشار بن برد في العصر العباسي...
وما زلت أذكر، والأستاذ (عبد السلام الساسي) لن ينسى أبداً، مركازنا في ((الأولمب)) وهو تلك الهضبة التي تشرف على مزارع المسفلة وبركة ماجن... كيف كان يقف، ويلقي علينا قصيدة (العواد)، في هجو (حمزة) ثم قصيدة (حمزة) في (العواد)... ولم يكن يقرأها في ورقة مكتوبة، وإنما من حافظته الغريبة حقاً وإن كان لا بد من أن نعترف بمشاعرنا نحو البطلين في هذه المعركة - وقد شارك فيها الأستاذ (أحمد قنديل) نصيراً لحمزة والأستاذ (محمود عارف) نصيراً للعواد، فلا أخفي أني كنت أشدَّ إعجاباً بقصائد حمزة في هجو العواد... وما زلت أذكر، أني كنت في القاهرة، ولي فيها صديق أزهري، يحفظ المئات أو الألوف من قصائد ومقطوعات الشعر القديم، جمعني به لقاء، دار الحديث فيه عن الشعر والشعراء فذكر على جاري العادة فيما يذكر عن الشعر في الحجاز قديماً... عمر بن أبي ربيعة، وغزله، وأخذ يترنم:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجّر
ثم انتقل إلى العصر الأموي، والنقائض، وأهاجي جرير والفرزدق والأخطل... ولست أدري كيف ذكرت أبياتاً من هجاء حمزة في العواد رويتها له ويتعذّر أن أرويها الآن وقد التزم حمزة في قافية القصيدة، التاء المكسورة والهاء الساكنة... مثل: آهاته... وفلتاته...
فما كاد صاحبنا الأزهري يسمعها، حتى وقف مهتاجاً صائحاً: (يا سلام... يا سلام... مستحيل أن يكون في الحجاز شعر بهذه القوة في هذه الأيام).
ولا بأس، ونحن في مجال هذه الذكريات البعيدة أن نقول: إن أخانا الأستاذ (عبد السلام الساسي) قد نشر في كتابه الشعراء الثلاثة قصيدة بعنوان (ملحمة) لحمزة رحمه الله وكانت واحدة مما نشر في صوت الحجاز. ولكننا لا نجد حرجاً، في أن نرى ختام هذه الملحمة التي يقول فيها حمزة:
حدث الليل... قال: وانفرد
البحر يواسيه شاطىء مهجور
ادبرتْ عنهما الحياة وأهلوها
فذا ضاحل وذا منذور
قُنَّعاً صاغرين بالواقع البخس
ويرضى بعيشه المكثور
ومضى الدهر، لا يثقّل رجلاً
تستوِي عنده صَبا ودبور
هازئاً بالغرور والضعف
والباطل والدهر بالحياة بصير
ذلك استطراد استلزمه ما لا يزال يذكره الشيوخ، من زملاء الفقيد، وما لن تتم الصورة عن حمزة رحمه الله إلا باللجوء إليه، وما أظن، أن مما يتّسق مع الرغبة في تكامل اللمحة عن الشاعر، أن نتخطَّى ما لا ينبغي أن يُعدَّ في المباذل، ما دام القصد هو محاولة اكتشاف هذه القمة الشامخة.
* * *
مَسيرته الثقافِية...
ونعود إلى الخلفيات الثقافية في حياة الشاعر، وفي حياة رصفائه في تلك الأيام... ولا أجد بُداً من وقفة قصيرة عند لطفي السيد باشا، فقد كنا نتسامع بعبقريته وعلمه وفضله على العلم والعلماء والأدب والأدباء، والفكر والمفكرين... كما كنا نتسامع عن ترجمته لكتاب (السياسة) لأريسطو طاليس... عن الترجمة الفرنسية لبارتي سانتيهيلير... فنتمنَّى أن نرى هذه الترجمة مطبوعة... ولم تطبع إلا في عام 1947 وأذكر أني كنت في القاهرة وكان حمزة رحمه الله قد استقر فيها، فما أسرع ما أخذنا نتدارسه معاً... فينقضي الليل، وينام من في البيت من الأهل والأطفال... ويستيقظون في الصباح ليجدونا لا نزال كما تركونا في الساعات الأولى من الليل... وأطباق الرماد طافحة بأعقاب السجاير، وأكواب الشاي تتثاءب فراغاً وحلق كل منا يتقصّف جفافاً، فلا نكاد نلمح من استيقظ، حتى نستنجده بطلب شاي جديد، لنبدأ أو لنواصل الحديث عن أريسطو، وعن ذلك الغرض البعيد، الذي استهدفه (لطفي السيد) من ترجمة هذا الكتاب بالذات ومقدمة سانتيهيلير فيه على الأخص... بل ذهبنا إلى أن لطفي السيد لم ينقل الكتاب إلى العربية، إلا لينقل إليها هذه المقدمة...
وأدَعُ جانبا تلك الدفقة الكبيرة من القصص التي نشط لنقلها إلى اللغة العربية أساطين فن الترجمة في مصر، من أمثال المرحوم الأستاذ (إبراهيم عبد القادر المازني) في قصة (ابن الطبيعة) للكاتب الروسي المغمور (هاتز بياتشيف)، وقد نقلها المازني عن الإنجليزية، ولهذه القصة في حياتنا، تلك الأيام أثر لا ينسى، فقد كان يطيب لحمزة رحمه الله، أن يسمِّيَ كلاًّ منا بأسماء أبطال القصة، ويختار لنفسه بطلها الأول أو الأظهر الذي تدور حول حياته القصة كلها، وهو ((سانين))، واختار لي اسم (يوري) ولست أذكر بماذا سمَّى بقية المجموعة من الأصدقاء. وقد نشر المازني، بعد أكثر من عشر سنوات قصة بعنوان إبراهيم الكاتب اتهمه بعض النقاد بأنه قد سرقها من (ابن الطبيعة)، وقد قرأنا القصة، واستسْخفتُ أنا رأي هؤلاء النقاد إذ لم يكن في وسع المازني أن يستغنيَ أو أن يتخلَّى عن أسلوبه فيما يكتب، من أدبه أو من الآداب التي ينقلها إلى العربية، وكانت وجوه الشبه بين القصتين، تنحصر في هذا الأسلوب الرفيع الذي عُرف به المازني رحمه الله.
ومن القصص التي لا بد أن تذكر، وتعتبر من الأسس في خلفياتها الثقافية، قصة (تاييس) و(الزنبقة الحمراء) لأناتول فرانس، وكان مما دار بيني وبين (حمزة) عن أناتول فرانس في هاتين القصتين، أن إنسانية فرانس، ومعالجته لموضوع العهر والطهر، بالنسبة لتاييس، والراهب بافنوس، قد انطوت والتفَّتْ أو هي اندثرت في الجو الخاص الذي تدور فيه أحداث الزنبقة الحمراء، وأن حريته المطلقة التي مارسها في تصوير (تاييس) الغانية، ثم (تاييس) القديسة قد جمدت جمود الكريستال على الموائد المترفة، وجمود الماس واللؤلؤ على صدور النساء في حفلات العشاء التي يدور حولها الأبطال في (الزنبقة الحمراء) ومع ذلك، فلم نكن نملك إعجابنا بأسلوب فرانس وتصويره الرائع للصراع الرهيب الذي ظل يعانيه الراهب (بافنوس) مع أفاعي الجنس التي تنهش صدره، والذئاب الجائعة في أعماق نفسه المحرومة من مطلبها الغريزي... كان صورة أخاذة، عبقرية الملامح والألوان والسمات، لقدرة فرانس كفنان منطلق لا سبيل إلى أن تقف أمام ريشته وأفكاره أية سدود أو قيود. وأذكر كيف كنا نعض أصابعنا أسفاً، على جهلنا باللغة الفرنسية، لنقرأ المزيد مما كتبه (أناتول فرانس) ولم يطلْ بنا الانتظار، فقد ترجم له من لا أذكر اسمه الآن - وليس من أعلام الترجمة - كتاباً باسم (حديقة أو مائدة أبيقور) فيلسوف اللذة المعروف ثم وقع في أيدينا كتاب آخر للأمير (شكيب إرسلان) عن (أناتول فرانس في مباذله) وبذلك توهمنا أننا قد استكملنا بعض ما كان ينقصنا عن الإلمام المعقول بأدب (أناتول فرانس)، ومن المؤسف أننا لا نجد من يهتم بإعادة طبع هذه الكتب اليوم، لنعود إلى شرائها، بعد أن بعتها في مزاد.
وإذ أذكر هذه القصص، لا أنسى، ولا ينسى رصفاؤنا الشيوخ، رواية نقلها إلى العربية (طانيوس عبده) تحت عنوان (أهوال الاستبداد) كاتب روسي نسيت اسمه الآن، ثم (أنّا كارينينا) لتولوستوي ولم تكن قصة (الحرب والسلام) وهي من أشهر أعمال تولوستوي قد نقلت إلى العربية بعد، ولكن لم يفتنا أن نقرأ ما يكتب عنها في المجلات والصحف وعن تولوستوي نفسه، وما زلت أذكر كيف كان تطلعنا إلى إنتاجه يزداد ويحتدم وبالأخص يوم قرأنا كلمة نسبت إلى (بيرناردشو) يقول فيها عن كتاب لم ينقل إلى العربية باسم (ما هو الفن؟) لتولوستوي: (ها نحن نسمع صوت أستاذ بحق)... وبالتتبع وبما كانت تحفل به مجلات تلك الأيام، عن أعاظم كتَّاب الأدب العالمي، استطعنا أن نكون حصيلة لا بأس بها من المعلومات والأفكار عن كثيرين ممن ذكرت وممن لا يتسع الوقت لذكرهم في هذا الحديث.
أما أدب المهجر، وعلى الأخص من أدبائه (جبران خليل جبران) و(إيليا أبو ماضي) و(ميخائيل نعيمة) فليس بيننا من ينكر أثرهم في بداية مراحل هذه الثقافة الذاتية، ومثل هذا الأدب وفي بداية تلك المرحلة أيضاً، يمكن أن نذكر كتب (مصطفى لطفي المنفلوطي)... ولكن ما كدنا نوغل في الأمّهات من كتب الأدب العربي، وفي الروائع من المنقول إلى العربية من الأدب العالمي، ولجنة التأليف والترجمة والنشر في مصر صاحبة الفضل الكبير، في هذا النقل، حتى أخذنا نشعر بأن أدب المهجر يمكن أن يوقظ المشاعر ويوجهها نحو أجواء الفن، ولكنه لا ينميها، ولا يبني العضلات الفكرية القوية، وأن أدب المنفلوطي يمكن أن يصلح للشداة والناشئين إذ يغري بالقراءة، ويعين على تكوين محصول قوي أحسن المنفلوطي اختياره من مفردات اللغة العربية، التي يسهل تناولها وربما هضمها في قصة كما جدولين أو سيرانودي برجراك، بينما يتعذر هذا الهضم على الشادي والناشىء، إذا ما قرأ ((البيان والتبيين)) للجاحظ، أو ((مقدمة ابن خلدون)) أو أي كتاب لأبي حيان التوحيدي. أطلت دون شك، فيما يبدو استطراداً، وجنوحاً عن الحديث عن القمة التي لم تكتشف، ولكني أتحدث عن مسيرة ثقافية عشناها مع الفقيد في ظروف، كانت فورة الشباب، ونوازع الطموح ومشاعر الإيمان بحق الوطن علينا، تخفف من عسرها ووعثاء الرحلة ووعورة مسالكها، مع ضعف الموارد وانعدام أسباب الدعة والرخاء... بل وانعدام الضوء الذي نسهر به عاكفين على القراءة والبحث والمتابعة باستثناء (الفانوس الهندي) الذي نفضِّل الحجم الصغير منه، لندخله معنا في ((الناموسية))، رغم شدة الحر، واحتباس النسمة، هرباً من البعوض، وإصراراً على القراءة والدرس مع عدم التخلّف عن العمل في الوظائف التي نشغلها في أوقات الدوام المقررة، وقد كانت تعرف البداية في الصباح، ولا تعترف بالنهاية، ما دام هناك عمل يجب أن يُؤَدَّى، ولو استغرق ساعات طويلة من الليل. ولا أستطيع أن أؤرخ لدخول ما يسمى (الاتريك) في حياتنا ولكني أذكر فرحتنا به حين أصبح من الميسور شراؤه، بفتيلته وغازه، وعملية نفخه وشحنه بالهواء، ولا أخفي أننا كنا نشعر بالزهو، حين نستعد به لاستقبال الزائرين والضيوف، ولعل انتفاخة الزهو ونحن نراه يضيء (المجلس) كانت لا تقلّ عن انتفاخ الاتريك نفسه، مع إحساس بأننا - والحمد لله - قد أخذنا طريقنا إلى ما كنا نسمع عنه، ولا نرى له أثراً من حضارة القرن العشرين وبعد... فقد قلت إن حمزة شحاتة يبدو، وكأنه قد ولد قمة منذ درجت قدماه على تراب هذه الأرض، وللقارىء أن يسمي هذا مبالغة وإسرافاً في التقدير، ولا أنكر أن التعبير ينبض بهذا المعنى ولكن عندنا من الشواهد، ما يجعلنا نتساءل ونحن نستعرضها: متى؟؟؟ وكيف؟ استطاع حمزة أن يهضم كل الذي هضمه وتمثله من ثقافات، مصادرها التراث العربي القديم من جهة، ثم ما شهده الأدب العربي من تطور خلال فترة يمكن أن تحدد بما لا يقل عن قرن من الزمان من جهة أخرى.
صحيح أنه كان يقرأ ما نقرأ... وصحيح أن ما كان يصل إلى أيدينا من الكتب، كان يصل إليه أيضاً ولكن، كيف تأتى له ذلك النضج العقلي والفني وهو بين مرحلة الصبا الغضّ والشباب في فجره دون ضحاه؟
* * *
مَولده وَتعليمه...
ولد حمزة شحاتة بمكة المكرمة في عام ألف وثلاثمائة وثمانية وعشرين، وأتمّ دراسته في مدرسة الفلاح بجدة، وكان واحداً ممن ابتعثهم مؤسس هذه المدرسة ومثيلتها في مكة المرحوم (الحاج محمد علي زينل رضا) للدراسة أو لاستكمالها في الهند... ولست أدري إن كان قد زامل السيد (محمد حسن كتبي) أم لا...؟ ولكني لا أشك في أنه قد زامل المرحوم الشيخ (عبد القادر عثمان)، إذ أجد لحمزة قصيدة عارضها، أورد عليها من نفس الوزن والقافية الشيخ (عبد القادر) في مطلعها:
سلام النيل يا غاندي
وهذا الزهر من عندي
يقول:
ولو ساعفني الدهر
لقابلتك في الهند
ولكني كما تدري
فقير عاثر الجد
أضعت البيت والقر
شين في التهليس والجد
وبعت العنزة الكبرى
على صاحبنا السِّندي
وأما سائر العَفْش
فقد صادره وجدي
ووجدي هنا شخصية حقيقية، فقد كان أحد ضباط الشرطة في جدة.
ثم يقول:
لقد أوحشتني جداً
ومالك سلوة بعدي
كلانا مخفق المسعى
وبَرْبَنْدك بربندي
فأرثيك وترثيني
لعل رثاءنا يُجدي
وقد ضيّعني قومي
وقد ما أنكروا جهدي
وما بددت من وقت
وما فرّقت من نقد
ولما طقّني الفقر
وأضحت أمتي ضدي
توكّلت على المولى
وعوّلت على زَنْدي
أبيع الفول والحُلْبة
والفِصْفِصَ والمنْدِي
فطوراً الْتَقِي أكْلي
وطوراً أطْفح الدِّرْدِي
ولا بأس بأن نقرأ المزيد من هذه القصيدة الضاحكة فهو يقول:
وكان الحال مستوراً
وأشغالي على قَدِّي
ولي جار رقيق الحال
يدعى الحاجْ خوجَنْدي
ركنت إليه من غُلْبي
فجازاني على ودِّي
بأن رشّحني يوماً
لدى التعْدين في المهْد
وهو يقصد شركة التعدين التي كانت أعطيت امتياز التنقيب عن الذهب في المهد بالقرب من المدينة المنورة:
فرحت وكنت مِرْطاناً
أسمِّي النور، نورْمَنْدي
فرقاني المدير إلى
وظيفة كاتب الجَرْد
وكان إذا رآني قا
ل (قُودمورْننج، أوفرند)
فلما ثارت الحرب
وجرَّ الويل هتلردي
أقالوني وردّوني
وصحّ الجمع في جُغْدي
وناهيك بحرٍّ نا
م في البَرْدِ بلادَ قدِي
والد قدي، هو الدَّقْديق،ولا أعرف أصل الكلمة، ولكن يقصد بها نوع من الأغطية التي ترفق عند النوم اتقاء للبرد كالتي نسميها (البطّانية) في هذه الأيام... أو قد تكون العباءة تصنع من الصوف والوبر في جبال الحجاز والطائف.
تمنَّى سُتْرةَ الحال
فلم يعثر على صلدي
والصلد هنا قطعة نقد إيطالية...
ولو انصفت الأيا
م حابته باوكلندي
والأوكلاند، نوع من السيارات الأمريكية الفارهة، تصنع في تلك الأيام، ولعل القدماء من موردي السيارات يعرفون مزاياها، أو يعرفون، ما الذي حل بها، فلم تعد تتواجد في الأسواق.
إلى أن يقول:
فما رأيك في أمري
إذا جئتك والقندي
والقندي هنا هو صديقه الحميم (أحمد قنديل) الذي نَدَر أن يُرى (حمزة) في مكان دون أن يرى معه القنديل وقد ظلَّ ذلك شأنهما سنين في المملكة، ثم في القاهرة.
وهل عندك ما يكفي
من الشاول والهُرْد
وهل نلقاك مرتاحاً
إلينا، أو شَلُوجَلْدِي
ولا أعرف ما هو الشاول، ولعله الأرز في لغة الهنود، والهرد بهار معروف، أما شلو... فكلمة هندية يطرد بها من لا تحب أن تراه كما نقول (برّة... أو اطلع برّة)... وجلدي... كلمة هندية أيضاً معناها (بسرعة).
وليس في كتاب الأستاذ عبد السلام الساسي، ما يشير إلى تاريخ نظم هذه القصيدة، ولكن هناك ما يدل على أنها نُظمت في أيام الحرب العالمية الثانية وهو قوله:
فلما ثارت الحرب
وجرّ الويل هتلردي
ونجد في (شعراء الحجاز في العصر الحديث) للأستاذ (عبد السلام الساسي) أيضاً: قصيدة المرحوم الشيخ (عبد القادر عثمان) من نفس الوزن والقافية يقول فيها:
تحايا الحب والوجد
لأصحابيَ في الهند
وأشواقي تُؤرِّقني
وترمي الجفن بالسهد
وذكرى لا تفارقني
ولو وُوريتُ في لحدي
ومن أهمّ ما يلفت النظر في هذه القصيدة قوله:
ولِي أشعار أخفيها
لتنشر في الورى بعدي
سكبت حوادثي فيها
وقد فاقت على العدّ
فالذين يؤرخون للأدب السعودي، أو يجمعون شتاته، قد يجدون هذه الأشعار التي يخفيها الشاعر لتنشر في الورى بعد وفاته، خصوصاً وأنه قد سكب فيها حوادثه.
وهو لا شك يردّ على حمزة حين يقول:
لئن ضاقت بما رحبت
عليَّ الأرض في الهند
أتيت ديار أمجاد
وعُرْباً من بني سعد
فألقيت عصا التِّسْيار
بين معالم المجد
ولاقيت من التكريم
ألواناً مع الحمد
ففي الإحساء ترحيب
يرد صداه في نجد
وفي جدة والطائف
أياد سُجِّلت عندي
وهو يختتم القصيدة بهذه الأبيات التي تعود إلى الشكوى، من وعثاء الحياة التي كان يلقاها فلا يختلف عن المضمون الذي ذهب إليه حمزة، إلا في روح السخرية الضاحكة عند حمزة، والعابسة الجادة عند الشيخ (عبد القادر عثمان)، فهو يقول:
أصيحابي تلوموني
وما أبقيت من جهد
أترضون بأن أحيا
كئيباً عاثر الجَدِّ
وأقضي العمر في نَصَبٍ
وفي شَغَب وفي كدّ
وأحسب مال قارون
وما خردلة عندي
وفي هذا البيت إشارة إلى أنه كان يعمل محاسباً في أحد البيوت التجارية، التي يشبه ثراءها بثراء قارون ولا ندري بالطبع أي بيت هو، في تلك الأيام...
واحسب مال قارون
وما خردلة عندي
أضيء كأنني المصبا
ح والنيران في كَبْدي
فهل في شرعة الإنصاف
يحيى الحر كالعبد
إذا لم يَكُ من حدِّ
فإني واضعُ الحدّ
ولا ندري كيف وضع الشيخ (عبد القادر) هذا الحد، وإن كنا نعرف أنه توفي مستور الحال موفور النعمة رحمه الله.
وهذا الشعر الضاحك في قصيدة حمزة، الذي تختلط فيه العامية بالفصحى، تزعّمه ولعلّه أول من بدأه، الأستاذ (حسين شفيق المصري) رحمه الله وله في كثير من مجلات مصر، وعلى الأخص (الفكاهة) من مجلات دار الهلال، روائع حافلة بالتعبير الكاريكاتوري عن مشاكل مصر، يبلغ النقد فيه بهذا الأسلوب الساخر الضاحك، ما لم تكن تبلغه المقالات الجادة بأقلام كبار الكتاب، والسبب بالطبع هو اقترابه من مستوى الجماهير، وهي في مصر مولعة بالنكتة والمفارقة، وقد شارك في هذا النوع من الشعر وبرع فيه، إلى حد القدرة على ارتجاله، الشاعر المرحوم (محمد مصطفى حمام)... ولا أعرف من الذي سبق حمزة في المملكة، ولكن الأستاذ (أحمد قنديل) وهو كما قلنا صديق حمزة ورفيق دربه الطويل، يكاد يكون الوحيد في المملكة اليوم، الذي لا يزال يتحفنا به حتى الآن.
قلنا إنه ابتعث إلى الهند، وهناك من يقول إنه لم يبتعث، وإنما طلب للعمل في بيت الحاج (محمد علي زينل رضا) رحمه الله، بغرض تدريبه على إمساك الدفاتر التجارية في بيت زينل في جدة، وقد لا يخلو هذا من الصحة، إذ كان حمزة من الأوائل الذين نظموا قيودهم التجارية، عندما كان يمارس التجارة مع أخيه المرحوم الشيخ (محمد نور شحاتة) في جدة، بطريقة القيد المزدوج، وهو ما لم يعرف أو يأخذ به المحاسبون في البيوت التجارية عندنا، إلا منذ أقل من خمسة عشر عاماً، وإذا صدق من روى لي ذلك، وليس لي أن أشك، وقد كان الراوي رجلاً ممن مارسوا الأعمال الحسابية، لأكثر من بيت تجاري، في جدة إلى أن أصبح من كبار الموظفين في أحد البنوك.
ثم، الأغرب، من هذا كله أن تلك الآفاق الثقافية التي كان يحلق فيها حمزة حين يتحدث أو يكتب، شعراً أو نثراً، لم تكن تعتمد على مصادر في غير اللغة العربية إذ لم يكن يجيد الإنجليزية، وإن كان لا يجهل الكثير من مفرداتها، ولا شك أن إقامته في الهند لم تتح له أن يتعلم الأوردية وهي الأكثر شيوعاً واستعمالاً، فضلاً عن السنسكريتية.
* * *
الكاتب... الخطيب... الفنّان!
ومع أن حمزة رحمه الله قد كتب الكثير الذي لم ينشر، ومنه رسائله إلى أصدقائه وكل رسالة منها تحفة جديرة بأن تعتبر نموذجاً لأرفع من مستويات النثر في الأدب العربي الحديث، فإن ما أجده في متناول اليد، وأنا أكتب هذه السطور، هو محاضرته التي ألقاها في جمعية الإسعاف الخيري بمكة المكرمة وكانت كجميع أعماله الأدبية لم تنشر، وكل حظها من الشهرة والانتشار هو سماعها يوم ألقاها، وكنت ممن سمعوها، وما زلت أذكر كيف ازدحم المكان الذي ألقيت فيه - وهو البناية التي كانت دائرة للبريد في عهد الحكم العثماني ثم الهاشمي ثم نقل البريد إلى القشاشية لتصبح البناية مقراً لجمعية الإسعاف - بل أذكر كيف بلغ ازدحام الراغبين في الاستماع إلى المحاضرة، حد وقوف الكثيرين في السلالم، وفي الشارع يصغون إليه وهو يلقيها بصوته الجهوري - وليس المنبري - ولا بد أن أذكر أنه كان رائعاً في إلقائه، ساحراً في السيطرة على أعصابه، فليس هناك انفعال، ولا اصطناع للحماس، ولا توثب أو إشارات بالأيدي، مما كانوا يعلموننا في المدارس أن نلتزم به عندما نلقي الخطب في الاحتفالات... فإذا لم ننس أن جهاز الراديو لم يكن قد انتشر في المملكة وأن فن الإلقاء الإذاعي الحديث أو القديم لم يكن معروفاً، فإن طريقة إلقائه لهذه المحاضرة كانت وحدها ظاهرة لا أزال أذكرها ولا أملك إلا أن أعجب بها وأعدها فيما يُعَدّ له من تفرد وامتياز في الكثير مما تفرد وامتاز به مما أرجو أن يتسع الوقت لإيجاز الحديث عنه.
وكأني - والحديث عن المحاضرة - قرأت للأستاذ (محمد حسين زيدان)، أن حمزة قد ارتكز واستمد عناصر محاضرته من كتاب (علم الاجتماع) لنقولا حداد... وأنا أختزن ما قرأته للأستاذ (زيدان) إلى هذه اللحظة لأقول له ولمن قد يرى رأيه: إن حمزة كان يتمتع فعلاً بمعدة فكرية جبارة القدرة على الهضم والتمثيل، وكان هذا الكتاب مما تواجد عندنا مع الكثير غيره من الكتب التي ذكرت بعضها، ولكن الفرق كبير جداً بين القدرة على الهضم والتمثيل، وبين العمل المبتكر الأصيل في هذه المحاضرة بوجه خاص. ولا ينسى الأستاذ ((محمد حسين زيدان))، كما لا ينسى الأساتذة ((محمد عمر توفيق))، و((أحمد قنديل))، و((عبد الله عريف))، و((حسين بن سرحان))، و((محمد حسن فقي))، أن ((حمزة)) كان من القلائل - في العالم العربي - الذين لا يرضون لأنفسهم أو لأعمالهم أن تلمع فيها بارقة اقتباس أو تأثر أو تقليد... كانت أبرز خصائصه - وهي في نفس الوقت سبب الكثير من المتاعب التي واجهها في حياته - ذلك التعشق الملهوف للاستقلال الفكري، والحرص الممض على الابتداع، والترفع عن الاتباع، ليس فقط فيما يكتب من شعر أو نثر، أو فيما يديره من حوار ونقاش، وإنما في مسيرة حياته الخاصة حتى لقد كان يتعذر على مخالطيه وعشرائه من أصدقائه بل وأهله أن يفسروا الكثير والغريب - بل والمذهل أحياناً - من تصرفاته،وليس من تفسير سوى هذا التعشق للاستقلال والتفرد بالخصائص والسجايا وأنماط السلوك...
وقبل أن استشهد ببعض ما جاء في هذه المحاضرة من آرائه، وفي تعبيره عن هذه الآراء كنموذج لأسلوبه، أحب أن أذكر ما قد يلقي بعض الضوء على قدراته وطاقاته، مما قد لا يدخل في الأدب والفلسفة والفن، ولكنه - مع ذلك - يستكمل الصورة إلى الحد الذي يقرِّبها من التصور وإن كان سيظل بعيداً أشد البعد عن كشف أو اكتشاف المكنون والسامق من سموها، والباذخ المترف من مدخورها.
يحضرني حديث دار بيني وبين معالي الأستاذ (حسن آل الشيخ)، عن حمزة رحمه الله، وكان قد زاره في منزله في الجيزة، قبل وفاته بأسابيع قلائل... وخلاصة حديث الأستاذ الوزير عن الفقيد، هو إعجابه البالغ بسعة آفاقه، وعمق تفكيره وبعد نظراته وتأملاته، وطلاوة حديثه، وسرعة خاطره... وأذكر أني قلت لمعاليه: إن خصيصة حمزة التي تبدو خليقة من خلائق العبقرية النادرة، هي القدرة على إتقان ما يولع بإتقانه، بحيث لم يكن يرضى قط إلا بأقصى مراتب التفوّق فيما يعن له أن يُعنى بمعرفته ودرسه... كان لا يكتفي بمجرد الإلمام، على قاعدة الأخذ من كل فن بطرف، وإنما الذي يجهد نفسه فيه، هو استغراق واستيعاب كل ما يستهدفه من عناصر تكوينه ومادة وجوده... ولا يقف ما كان يولع به عند الشعر أو النثر أو الفلسفة أو علوم اللغة العربية وتاريخها وأدبها القديم والحديث، أو ما يتصل بكل ذلك من المعارف وألوان الثقافة وأغذية الفكر، بل ينسحب هذا الحرص على التفوق والإتقان حتى على أسباب اللهو... فقد تعشّق الموسيقى والعزف على العود مثلاً، فلم يكتفِ بأن يكون واحداً من المعدودين في الحجاز بالبراعة النادرة في هذا العزف، إنما عكف على دراسة الموسيقى العربية، مقامات وأنغاماً ومصادر لهذه المقامات والأنغام وتاريخها عند الفرس، وفي الأندلس، وعند الأتراك، وفي حلب، وما يتولّد من هذه المقامات وكيف تتعاشق وأين تتنافر، وما يقال عن علاقة بعضها بالساعة من الليل أو النهار... ثم... الموسيقى (صوت)... فلا بد إذن من دراسة ((علم الصوت)) في مصادره من كتب الطبيعة في مستوى المراجع، وليس في مستوى الكتب المدرسية... كيف يحدث؟... وكيف يتردد؟ وهل يفنى أم لا يفنى؟ ولماذا لا يفنى؟
والدليل أو الأدلة على كل ذلك، وكيف يبلغ من تأثيره في خلخلة الهواء، أو تمويجه وتحريكه أن تحطم (سحبة) القوس على وتر من أوتار الكمان الزجاج أو ما هو في صلابة الزجاج من الأشياء... ثم ينتهي فيقول لي: ومنذ أكثر من عشرين عاماً - ما الذي يمنع أن يخترعوا آلة مدمرة، لا تعتمد على القنابل أو الديناميت أو حتى على الذرّة، وإنما على الصوت وحده؟
وقد تمنّيت أن لو كان معي أو كنت أنا معه في القاهرة، عندما كانت إسرائيل تستعرض عضلاتها بعد حرب الخامس من يونيو فيما سُمّي حرب الاستنزاف، فتخترق بطائراتها الأمريكية حاجز الصوت، فتهشّم الزجاج وتهدّم المتداعي من المباني دون أن تلقي قنبلة، وإنما بالصوت فقط... كنت تمنيت ذلك لأذكره بما استنتجه في ذات ليلة كنا نتبادل فيها الأحاديث، عن مواضيع مختلفة، منها الموسيقى... والصوت... ولي أن أقول اليوم إن زهده في الشهرة وذيوع الصيت - رغم ما ثبت بعد وفاته من سطوع هذه الشهرة وذيوع هذا الصيت - قد جنى عليه في هذا المجال الغني والسخي بالعطاء، إذ أحسب أن لو أراد حمزة أن يكون في عداد كبار الملحنين في مصر، لما أعجزه ذلك، وقد بلغ في الموسيقى مستوى العلماء، وما زلت أذكر كيف كان يقع على الأخطاء في تلحين كبار الموسيقيين في مصر ويذهب في نقدها - والتوائها، أو في اكتشاف السرقة أو التأثر بالشيخ سيد درويش أو بمن يعرفهم من أئمة الموسيقى التركية القديمة إلى حد التصحيح بعزف اللحن كما ينبغي أن يكون، وتشعر أن اللحن قد استقام فعلاً بما يبعثه من الارتياح والانسجام ثم يقول بعد ذلك: (ما أشد ما يخسر الصوت القوي من أصالته وقدرته على الأداء بما يجنيه الملحنون على المطربات والمطربين).
وأصدقاء حمزة القدامى يذكرون كيف كان في مركز البطل الأول في لعبة (الكيرم) عندما شاعت وغزت البيوت في الثلاثينات من هذا القرن، إذ اتقنها رحمه الله إلى حد كان يحمل المشهورين بالبراعة فيها على السفر من مكة إلى جدة أو بالعكس، حيثما يكون لمباراته فيها، وكلنا نذكر كيف كان يندر أن يغلب. والأستاذ (أحمد قنديل) كلاعب شطرنج يستطيع أن يتحدث - إذا شاء - عن براعة حمزة في هذه اللعبة أيضاً. وهواة الرياضة من القدماء يعرفون أو يذكرون على الأقل، ممارسته لأنواعها المتاحة، مع علمه بتاريخ اللعبة وفوائدها، والمعدودين من مؤسسيها أو مبتكريها الذين لا أدري أين وقع على معلوماته عنهم، والرياضة في تلك الأيام، طارىء جديد على حياة البلدان المتقدمة في العالم العربي، فضلاً عن جدة أو الحجاز؟!
فارس الحوار... وَالرسَائِل
وأما حمزة كأستاذ في الحوار وفي الحديث فليس من يمكن أن يكون شبيهاً له، إلا فيما نسمع أو نقرأ عن كبار الفلاسفة المشّائين، كسقراط، وأنا شخصياً لم أعرف له نظيراً حتى اليوم، على كثرة من عرفت في المملكة وفي غيرها من نبغاء باستثناء الدكتور طه حسين، الذي قضيت معه أكثر من نصف ساعة أيام كان مستشاراً لوزارة المعارف في مصر، وما يستغرب من حمزة وقد مررنا بخلفياته الثقافية، لا يستغرب بالطبع من عالم كالدكتور طه، تلقّى علومه في الأزهر وفي الجامعة المصرية، ثم في السوربون.
كان يحدث أن يدير الحديث عن موضوع فكري بحت، يمكن أن يفهمه المثقفون من أصدقاء حمزة ولكن أعجب ما كان يمتاز به أنه حتى وهو يتحدث عن موضوع من هذا النوع، كان يشدّ الأسماع، حتى ولو كان بين جلسائه أشخاص من عوام الناس وممن لا يمكن أن تكون لهم أدنى صلة أو علاقة بالموضوع... كان يملأ جو الجلسة حركة وحيوية ومرحاً، بما يتتابع في حديثه من نوادر وطرائف ونكات وتعليقات، ولا يعفى نفسه من التمثيل أحياناً بحركة في العينين أو الأنف، حين لا يجد بدا من تجسيد الصورة الساخرة للفكرة أو للرجل الذي يتحدث عنه... وهذا فيما يشبه تدفّق مياه السدود قوة وانطلاقاً، وحفولاً بما يشبه الموسوعة من أخبار القدماء والمحدثين، وليس في الأدب والفلسفة أو الشعر فحسب، وإنما في التاريخ والسياسة والمبادىء، وأنظمة الحكم، ثم، ليس في التاريخ العربي أو الإسلامي فقط، وإنما في تاريخ اليونان والرومان والهنود والفرس والمغول والجرمان، والصقالبة، وفي فلسفة كونفوشيوس، وبوذا، وأثرهما على شعوب جنوب شرقي آسيا، ومنها البرهمية في الهند وما طرأ عليها من تغيّر وتطور، وعلاقة كل ذلك بمسيرة التاريخ والاقتصاد.
أعجب من هذا كله، وما أكثر العجيب والأعجب في حياته وخصائص شخصيته، أحاطته الواسعة بسيرة وحياة بيرناردشو، وبعلاقته بالجمعية الفابية، ويذهب في هذه الإحاطة إلى حد الإعجاب بالكاتب الأيرلندي العظيم، وإن كان يصر على أنه إنجليزي، وحجته أن الرجل، يعيش، وينتج، في إنجلترا منذ غادر مسقط رأسه ((دبلن)) في صباه، ولم يعد إليها إلا بعد ثلاثين عاماً... وما قرأه من مسرحياته لا يعالج مشاكل أيرلندة، وإنما هو يعالج مشاكل العالم، في شخصيات ليس بينها (أيرلندي)... فإذا خطر لك أن تسأله عن أديب من أدباء إنجلترا، أو روسيا أو فرنسا، وقد كنت أفعل كثيراً في محاولة لوزن مدى علمه أو معلوماته عنهم، وفي ظني أنه لا بد أن يجهل الكثير، فإذا به يفاجئني بالفهم العميق للمدرسة الأدبية التي ينتمي إليها هذا أو ذاك، فإذا طال البحث، تكتشف أنه يعرف العلاقة بين هذه المدارس الأدبية، وبين مثيلاتها في الفنون التشكيلية.
ثم لا بد أن نعرف أن حمزة قد يكون من القلة القليلة في هذا العصر في الأدب العربي، الذين يعنون عناية فائقة تكاد تكون متخصصة بأدب الرسائل، ولعل الذين يحتفظون برسائله من أصدقائه يرون الآن كيف يندر أن تخلو رسالة من رسائله إليهم من ومضات فكره وفلسفته وآرائه وسخريته، وهو ينطلق في هذه الرسائل، على سجيّته وكأنه يجد فيها المدى الأوسع لحرية الكلمة التي لا يجدها في مجال آخر. ولم أعرف قط، شاعراً أو كاتباً فناناً في مستواه الرفيع يحرص على أن لا ينشر الأبدع والأروع من أعماله باستثناء ما نشر أو ما أعتقد أنه ضنّ به على التمزيق في الأعوام الأخيرة من حياته، ولهذا فإن ما بقي من هذه الأعمال، لا يزيد على جزء من عشرة أو من مئة مما كتب طيلة حياته... أو فلنقل طيلة ما يقرب من أربعين عاماً ندر أن يمرّ فيها أسبوع على الأقل دون أن يكتب قصيدة أو رسالة أو أقوالاً قلت إنها تدخل في باب (الأفوريزم) أو الأقوال المأثورة من أوسع الأبواب في الآداب العالمية.
* * *
محاضرته الشهيرة...
أخواني من الشيوخ يذكرون المحاضرة التي ألقاها حمزة في جمعية الإسعاف في شهر ذي الحجة عام ألف وثلاثمائة وتسعة وخمسين... ولا شك أني سعيد الحظ حين تلقيت هدية الدكتور منصور إبراهيم الحازمي وهي الجزء الأول من كتابه: (معجم المصادر الصحفية) عما نشر من المقالات والقصائد والبحوث في جريدة أم القرى في الفترة من سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وأربعين إلى سنة ألف وثلاثمئة وخمس وستين، وأجده يمدّني بما لم يكن في الوسع أن أذكره إذ يقول في الصفحة الثانية والخمسين: (أما قلة المحاضرات قبل عام 936م فيرجع فيما يبدو، إلى عدم وجود رابطة تجمع بين الناشئة من الأدباء المثقفين) ثم يقول: (ولعل هذه الرابطة قد بدأت تبرز إلى الوجود عندما تأسست جمعية الإسعاف الخيري بمكة المكرمة عام ألف وثلاثمئة وخمسة وخمسين، وهي السنة التي شهدت بدء النشاط الثقافي في إلقاء المحاضرات العامة، وقد رأينا جمعية الإسعاف تجتذب الكثير من الأدباء والمفكرين والأطباء والعلماء... ولا شك أن من يؤرّخ للحركة الثقافية في البلاد السعودية، لا يستطيع أن ينسى الدور المهم الذي لعبته هذه الجمعية الطبية الخيرية، والتي تأسست بعد سنوات قليلة من تأسيس الحكم السعودي في الحجاز)... وينهي الدكتور منصور إبراهيم الحازمي هذه الملاحظة بقوله: (الطب، والدين، والقضايا الإسلامية، والتاريخ والتراجم...) ثم يضيف: (وهناك بعض المحاضرات التي تناولت موضوعات أخرى كالأدب والصحافة والاجتماع والاقتصاد والتعليم ولكنها قليلة إذا ما قيست بعدد المحاضرات التي تناولت الموضوعات الرئيسية الثلاثة التي ذكرناها) وفي الصفحة التاسعة والعشرين بعد المئتين، ضمن قائمة (المحاضرات) يذكر الدكتور منصور ما يشير إلى أن جريدة أم القرى قد نشرت (خبراً) عن محاضرة ألقاها (حمزة شحاتة) بعنوان (الخلق الكامل عنوان الرجولة).
ولم تنشر هذه المحاضرة كما سبق أن أشرت ورفض حمزة يرحمه الله أن يصدرها في كتاب، مستقلة أو مع أي مجموعة من شعره أو نثره... ولكنها ظلت المحاضرة التي لم ينسها أحد سواء ممن سمعوها منه أو سمعوا عنها ولعلهم لا يزالون يسمعون عنها حتى اليوم.
وهنا لا بدّ من وقفة قصيرة، نلتمس بها نوعاً من وزن الأسلوب الذي كتب به حمزة هذه المحاضرة وتمعن مستوى الأستاذية في اللغة، نحواً وصرفاً، ومفردات، وقدرة على أداء المعنى وانتقاء الألفاظ التي يراعي فيها دقة الجرس الموسيقي في اللفظ بالنسبة للجملة، ثم منهج التحليل للموضوع الذي عالجه وهو كما أراده لا كما اقترح عليه وكما نشرت عنه جريدة أم القرى... فقد عدل عن (الخلق الكامل عنوان الرجولة) واختار (الرجولة عماد الخلق الفاضل).
والتماس الوزن هنا يعود بنا إلى ما قلته من أن حمزة يبدو وكأنه قد ولد ودرج على تراب هذه الأرض قمة شامخة... ولا أقول ولد عبقرياً، إذ خصيصة العبقري، أن يولد بطاقة قد تبكر في الظهور وقد تتأخر إلى أن يتاح لها التفجر والاندفاع بينما حمزة، قد بدا منذ عرفه عشاق الحرف والكلمة قمة لا تدري كيف تكونت...؟
ولد حمزة، في عام ألف وثلاثمئة وثمانية وعشرين - كما سبق أن أشرت - وألقى هذه المحاضرة، في عام ألف وثلاثمئة وتسعة وخمسين فهو يومها قد أتم الثلاثين من عمره... ونحن نعلم أن هذه المحاضرة ليست أول أعماله، فقد سبق أن ذكرت أني عرفته في عام ألف وثلاثمئة وواحد وخمسين، أي يوم كان لا يزال في الثالثة والعشرين ويعرفه قبلي الأستاذ (عبد الوهاب آشي) والأستاذ (محمد سعيد عامودي) والأستاذ (محمد حسن عواد)...و كلهم عرفوه شاعراً في الذروة وناثراً يمتلك ناصية اللغة والأسلوب امتلاك أستاذية تعمقت فنها وعلمها في الأمهات من المصادر.
ومرة أخرى، أجد نفسي مضطراً أن أتساءل متى؟ وكيف؟ أتيح له أن يبلغ هذه المرتبة التي نفترض أنه بلغها في العشرين... ومن المفروض أنه لم يكن الوحيد الذي تخرّج من مدرسة الفلاح ولم يكن أيضاً الوحيد الذي ابتعث إلى الهند، لم يكن الوحيد الذي قرأ ما قرأناه وظللنا نقرأه من مصادر الثقافة وينابيع الفكر.
يستطيع من يتفرغ، لبحث أدب حمزة، فيما نرجو، أن يجمع من شعره، ونثره، وعلى الأخص رسائله، أن يجيب بما أسمِّيه اكتشافاً للقصة، التي أقدِّم اللمحة عنها في هذا الحديث، واللمحة، لا أكثر ولا أقل.
بلغ عدد صفحات هذه المحاضرة مئة وإحدى وعشرين صفحة، بخط يده على ورق مقاسه (متوسط) واستغرق إلقاؤها أكثر من أربع ساعات وقوطعت بالتصفيق أكثر من ثلاثين مرة واجتمع لسماعها عدد من الناس قلّ أن أجتمع لسماع أي محاضرة سبقتها في جمعية الإسعاف... فماذا في هذه المحاضرة؟؟؟
لا يتسع الوقت لعرض الكثير... ولكني أستطيع أن أقدم النّتف، والقطوف التي تلمح، أو تلقي بعض الضوء على الكثير مما فيها مما لا أجد له اسماً أكثر أو أقل من أنه فكر، وأدب، وفلسفة، وفن.
يبدأ المحاضرة بقوله: (عندما يكون الإقدام على المخاطرة ضرورة... لا يعدّ شجاعة).
ويعلّق على هذه الضرورة، فيقول: (للضرورة في حساب الحياة أبعد الأثر، والتطور ما لعب دوره الخطير في تكميل أسباب الحياة الاجتماعية إلا على أساس الضرورة الحافزة).
ويقدم أسباباً لعدوله عن العنوان الذي اقترح عليه للمحاضرة أو لموضوعها فيقول:
(إن حديثي في الواقع، ولا أسميه محاضرة، عن الخلق الكامل كعماد للرجولة، لا عن الضرورة كأساس للخلق الفاضل، أو كعماد للرجولة، لكني اخترت أن أمهد لهذا الحديث هذا التمهيد، وأن أزحزح العنوان المقترح عن وضعه قليلاً فيكون (الرجولة عماد الخلق الفاضل) لا الكامل، فلا يزال الكمال نشدة الحياة المطولة ووهمها الذي تنساق أبداً في طِلاَبه. وما دامت مراحل الحياة تمتدّ ولا تنتهي، وقوافل الأحياء تسير ما يثقل خطاها الزمن الجاهد، وما دام التغير الدائم، دأب الحياة وسبيل ما فيها، فهل نقول إن شيئاً كمل، قبل أن يوفّي على غايته ويبلغ تمامه؟).
ويضيف، وكأنه يعتذر عن (زحزحة العنوان) فيقول:
(وأنا لست أعرف معنى لهذه الحرية، بيد أني ألفت أن أطلق لفكري عنانه... فهذا عندي أخلق، بأن يجعلني أكثر شعوراً بحياتي، وفهماً لها، وأنا طامع بعد، في أن تحمدوا لي نتائج هذه الحرية إن شاء الله).
ثم يفلسف ألفته في إطلاق العنان لفكره فيقول: (لا تكون النظرة إلى حقائق الحياة والفكر خالصة إلا من أناس يرون أنفسهم فوق قيودها وقوالبها، وهؤلاء يدعون بالمجانين تارة، وبالفلاسفة وقادة الفكر تارة، لأن حظ الصفات والمبادىء والنزعات يرتبط دائماً بحظ الداعين إليها والمتصفين بها من النجاح. هذه حقيقة فطن لها الناس من القدم فقالوا كثيراً ما معناه:
الناس من يلق خيراً قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطىء الهبل
ليس هذا حظّ الأحياء فحسب، بل حظ المبادىء والأغاني والنظريات، والفضائل وحظ موقفي بينكم الليلة...).
(وأنا أريد التجربة، والتعرية كباحث لا كمحاضر، فإني لو قصرت كلامي على الرجولة أو على الخلق الفاضل، خشيت أن يتحوّل حديثي إلى موعظة، لا تعدو أن تكون تمدُّحاً حماسياً بالفضائل دون تحليلها وردها إلى مصادرها، وتحديد قيمها ومعاييرها، وأثرها من صميم الحياة، وعلاقتها بالنفوس).
والتجريد مبدأ قديم لي، وهو مرضي الذي لا أشفى منه، عرفني به من عرفوا طريقتي في الحياة ومن قرأوا نظراتي القديمة في الخير والشر، وفي الفضائل والرذائل، وفي الحب... وفي الشعر).
فإذا ظن ظانٌّ أن فيما أقوله الليلة خلطاً أو إطلاقاً أو شذوذاً، فإنما يكون هذا الظن معقولاً لا أضيق به، فهو عندي شبيه بالنظرة إلى مجهول لم يتكشف، لا إلى مجهول أخذ سبيله في التكشف والوضوح).
ويمضي بعد هذه المقدمة القصيرة، في ما يشبه التحليق تارة، والغوص تارة، وراء موضوعه، بحيث يرينا دنيا مترامية الأطراف. تلتف فيها خمائل الفكر، وتتفتح في ساحاتها مساتير الحقائق وتتلألأ في سمائها وأفلاكها أنهار من الضوء تمعن في أبعاد سحيقة، قد تحتاج لاستيعابها إلى منظار مقرِّب يسعفك بالتفاصيل ومقومات البناء والتكوين وتسرف في الاقتراب والإشعاع، حتى تبهر البصر، وترهق أو تزلزل ما استقر في الذهن من القواعد والأسس للكثير من المسلمات والبدَهِيّات.
وقد رأينا في هذه المقدمة على قصرها، مستوى الأسلوب، الذي سبق أن تحدثْتُ عنه، وما أظن أن أحداً من الكتاب في المملكة، وفي غيرها، تلك الأيام قد بلغ هذا الأوج من الجمال والترابط وتوخَّى جرس اللفظ في اتساقه مع الجملة، وهذا إلى الأستاذية، التي لا تقف عند حد المعرفة المتمكنة من اللغة ودقائقها ومن نحوها وصرفها ومناهل البلاغة ومآتيها، وإنما تتخطى كل ذلك إلى فنية الأستذة إذا جاز التعبير.
* * *
شعره...
وقبل أن أمضي في التحدث عن الشعر والأقوال أجد نفسي ملزماً، بأن أقول، إن حمزة رحمه الله لم يمارس كتابة القصة أو الرواية أو المسرحية، أو هذا هو الأرجح عندي، بعد أن أتيح لي استعراض ما بقي لدي ورثته من أعمال.
الذي نشر من شعر حمزة شحاتة، ليس أقل القليل فحسب، وإنما هو قطرة من بحر، والذي لم ينشر وتفرَّق لدى بعض أصدقائه، لا سبيل للوصول إليه إلا بأن يتكرّموا، فيبعثوه إلي إذا شاءوا، أو إلى معالي الوزير الأستاذ (حسن عبد الله آل الشيخ) فإذا عَنَّ لهم الاحتفاظ بالأصل فإني أرجو - وبإلحاح - أن لا ينسخوه بخطوطهم أو بالآلة الكاتبة، وإنما بخطه شخصياً، أو بخط ابنته وأنا أعرف الخطَّين، وأستطيع أن أقرِّر صحة نسبة الأثر إليه، وباعث هذا الرجاء، هو استبعاد الانتحال، أو شبهته، فقد قرأت قصيدة نسبت إليه، ونشرت في إحدى صحفنا المحلية، ولم أجدها في مستوى شعره وأسلوبه وخطر لي أنها مما نسب إليه خطأ مقصوداً أو غير مقصود، مع ترجيح جانب حسن النية على كل حال. وإني أرجو الأخ الأستاذ (عبد الحميد مشخص)، الذي نشروا في الصحف أنه يعتزم نشر مجموعة من شعر الفقيد، أن يتكرّم هو أيضاً، فيدفع بما لديه إلى معالي الوزير، وأَمَلِي معقود على أصحاب الحق من ورثته أن لا يمانعوا في أن يقوم المجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب، بنشر ما يجمع من الشعر والنثر والمحاضرة أيضاً.
أما ما بقي، ورجَّحت أنه قد ضنَّ به على الحرق والتمزيق في السنين الأخيرة من أيامه على هذه الأرض، فلا يتسع المجال لدراسته وتحليله أو نقده كما لا يتسع لعرض الكثير منه، ولذلك فأنا أختار له - أو فلأقل إني ألتقط - مقطوعة قصيرة نوعاً، ومقطوعة أخرى، كان قد نظمها في جدة عندما عاد إليها منذ سنوات وقد وافق على أن تسجّل وتذاع، وحضر معي تسجيلها، يقول في هذه المقطوعة:
يا شعاعاً يلوح في ظلمة اليأس ويخفي... ماذا يطيق البصيصُ؟
لست إلا وهماً يراود عينيّ ويَعْيا بكشفه التشخيص
أو شراعاً أعْيته ثائرة الموج، فصدر يطفو، وعجز يغوص
يا لنا، طائريْن ريعا عن الوكر فهاما، والليل داجٍ عويص
فهما في الظلام داعٍ مهيض، لسليم جناحه مقصوص
* * *
ما أرى في البقاء إلا عُلالاتِ خيال مآلها التنغيص
والردى صائد النفوس فما فرّ كناس منه ولم ينج عيص
فعلام العناء، يُضْنِي المجدِّين ويصلاه طاعم وخميص
يا لها رحلة برانا بها الجهد، ولكن قد عزّ فيها النكوص
* * *
يا مجال الأفكار، ضقت بها خطواً وئيداً، فكيف... كيف النكوص؟
أي دنيا تلك التي غَلَبَتْ فيها على الحق سفلة ولصوص
قال قوم: زماننا دون أزمان تقضّت، وأعوز التمحيص
إنما الناس منذ كانوا: ضعيف لقوي، وقانص وقنيص
* * *
يا فسيلا قد غَصَّ بالماء ريّاً ذاك نخل نصيبه منقوص
قد شغفنا بالأعين النجل حباً وسبت غيرَنا العيونُ الخوص
قال لي صاحبي: سيصلح شأن الناس يوماً فهالني التخريص
* * *
قصرت من ثيابها، فعنا المفتون صمتا، وأمسك الترخيص
جنِّبينا، يا تلك... دعوة أعضائك في ما يشفّ عنه القميص
حسبنا فتنة الأنوثة، شَنَّتْها علينا شباكها والشصوص
شهد العقل، أن عيش الخليين على ما فقهتُ، عيش رخيص
* * *
سألت: ما هو القضاء؟؟؟ فأطرقت طويلاً. أما هدتها النصوص؟
وأراني، لو قلت شيئاً، لأزري فيه الإسهاب والتلخيص
نحن بالله ساكنين، وماضين فماذا أرواحنا والشخوص؟
أترى ما يصيبه المرء في دنياه أمراً، قد كان عنه محيص
ما أصاب القضاء منا غفولاً - قبل حين - ولا اتّقاه حريص
* * *
أيها المرتجى مكوثاً على الأرض تَهَيَّأ فقد دعاك الشخوص
شوارد من حكمه...
أما أقواله، التي قلت إنها تدخل فيما يسمى (أفوريزم) أو الأقوال المأثورة، فإني ألتقط منها القليل الذي يعطي فكرة عن مستواها وعمقها وما أقرأه في بعضها يجعلني أرجح أنه قاله، في أيام صباه أو فجر شبابه.
يقول رحمه الله:
* إن من لا يندفع إلى الأمام، يدفعه تيار الحياة إلى الوراء.
* الفاقة تقتل أشرف الدواعي في النفس.
* الهوان يصبح سهلاً بالممارسة، ككل شيء آخر... وما أصدق المتنبي في قوله:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
* الجمال منجم غني بالأعاجيب والذخائر النفسية ولكن الرغبات لا تصطرع حوله، كما تصطرع على منجم فحم.
* الحب لمن يدمنه كالخمر عند من يدمن عليها... كلاهما يشتري هذه النشوة والخدر اللذيذ بصحته وماله.
* ما نفع الحرية لمن ليست له رغائب.
* عندما تتلامح عينان متفاهمتان يكون هنالك لحن موسيقي مشترك.
* أليست حياة المتسول خيراً من أن يكون الإنسان موضوع رحمة الآخرين؟؟؟
* لا حد لبواعث الألم عند من يحس ويدرك.
* لا يجمل أن تتجرد الحياة من قانون الرحمة... ولكن يجب أن تتجرد ممن يُطبّق عليهم هذا القانون.
* إني أتقبَّل الكذبة أحياناً، لا لأني لا أعرف زورها، ولكن لأتفادى هول الحقيقة المستترة فيها.
فإذا قال لي حبيب: أنت وحدك ملء قلبي وشغله، وكنت حينذاك المحروم مما يناله مزاحمي السعيد. لا أقول له: أنت كاذب... لأن هذا يحرمني حتى من الكلمة الطيبة أو من العزاء.
* إن المستحيل يتحقق أحياناً... فلماذا نيأس؟؟؟
* علمتني الحوادث، أن غير المعقول يقع كثيراً
* ليس في الدنيا تجارة يكثر فيها التغابن كالزواج.
* المَطالِب التي تتحقق كاملة تكاد تندر في حياة الأمم والأفراد، وهذا علة أن الصراع في الحياة لا ينتهي.
* أي إنسان لا ينقلب إباحياً شريراً عندما تتحطم كل مجهوداته الشريفة في سبيل النجاح... إن الصبر على مثل هذا الصراع القاتل لا تطيقه إلا قوى الأنبياء فقط... وحتى الأنبياء - ألم يكن متوقعاً أن يملّوا الكفاح لو لم يكونوا واثقين من النتائج؟؟؟ كيف أبقى فاضلاً إذا استحال أن أنتفع في حياتي بأي محاولة شريفة؟
* أي رجل لا ينقلب طفلاً - على الأقل في باطن نفسه - عندما يعشق؟
* أليس ادعاء الشرف عزاء من أخطاء النجاح... ولكن ما هو النجاح؟؟؟
* في شبابي عشت شيخاً... وفي شيخوختي تشبثت بعيش الشباب، فأضعت شطري عمري هباء.
* كلما قلّ نصيبك من الإحساس، وجدت الحياة ممتعة.
* المعركة الأبدية بين الرجل والمرأة غير متكافئة، ينتصر فيها الرجل باستمرار... ولكنه الضحية دائماً.
* اليأس، ليس فقدان الرغبة في النضال... لكنه فقدان الإيمان بجدواهُ.
* ما الإبداع إذا كانت الصور التي يعطيها الفنان هي ذات الصور التي تقدمها الحياة؟
* الآن فهمت... أن الانسحاب من المعارك حكمة أكثر منه جبناً.
* لم يبق في المرأة ما يثير الفضول، ومتعة الاكتشاف، ولذة التعقيب... بعد سفورها.
* الذين جمّلوا المرأة بالوسائل الصناعية، لم يُفقدوها سحر الأنوثة الطبيعي فقط، بل جعلوا منها صدمة لعواطف الرجل وخياله.
* أعقد عملية خداع في العالم، تلك التي يقوم بها دور الخطوبة بين رجل وامرأة... لأن المخدوع فيها يعتقد أنه الخادع.
* مضاضة الحرمان من المرأة، أخف وطأة من مضاضة الارتباط بها، حيث يتعذر الخلاص منها بلا كارثة.
* لا حد لصور الشقاء البشري، ولكن فقدان الحرية هو أفظع هذه الصور.
* إننا أمام جيل جديد من النساء، يفهم أن الرجل منتج للثروة والمرأة مستهلك لها.
* ليس هناك فرق بين أن تكون الغالب أو المغلوب إذا ناضلتك امرأة... فأنت الخاسر وحدك في الحالتين.
* اللذة، كالألم كلاهما وليد الانفعال والتوتر، لذلك كان كل ما لا يثير انفعالاً وتوتراً مولِّداً للسأم، حتى الجمال.
* لا ينسى الطائر السجين، الطيران، مهما طال سجنه ولكن الإنسان ينسى الحرية تماماً بطول الاستعباد... هذا أغرب فارق بينهما.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1321  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.