شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جمال الدين الأفغاني
(1254 - 1314هـ - 1839 - 1897م)
حالة العالم الإسلامي في حياة جمال الدين:
تفتحت أعين جمال الدين على الدنيا في منتصف القرن الثالث عشر الهجري، وفي العالم الإسلامي أربع دول كبيرة هي: الدولة العثمانية التركية، والدولة الفاجارية بفارس، ودولة السعديين بمراكش، ودولة محمد علي باشا بمصر. وأما الدولة المغولية بالهند فكانت قبل مولده بثلاث وثلاثين سنة قد انتهت على يد شركة الهند الإنجليزية بدهاء رجال هذه الشركة ومكر سياستهم واستغلالهم لجهل ملوك الهند، وتفرقهم ثم لم تلبث الحكومة الإنجليزية أن حلت محل شركة الهند الإنجليزية عام 1274هـ - 1857م وجمال الدين في حوالى العشرين من عمره، وهكذا شهد جمال الدين في شبابه الباكر زوال أكبر دولة إسلامية بعد الدولة العثمانية التركية على يد الاستعمار البريطاني.
ولنعد الآن إلى هذه الدول الإسلامية الأربع لنرى ما كان من حالها:
كانت الدولة العثمانية التركية قد عرفت بين دول أوروبا وقتها باسم ((الرجل المريض)) وكانت الدول الأوروبية القوية قد اتفقت على اقتسامها إلا أن تضارب الأطماع فيما بينها كان له فضل بقاء هذه الدولة وإن كانت قد بقيت مريضة لا يرجى شفاؤها فدول أوروبا كانت تشغلها بالحروب المتوالية وتعمل على إثارة الفتن الداخلية فيها وخصوصاً بين الطوائف المسيحية فيها.
وكانت الدولة العثمانية قبل مولد جمال الدين بحوالى ثمانية أعوام قد فقدت الجزائر باستيلاء فرنسا عليها. وكان السلطان محمود الثاني الذي كان على رأس تلك الدولة وقت ولادة جمال الدين قد حاول أن يصلح من حال الجيش وينظم الفرق الانكشارية على النظم الحديثة إلا أنها ثارت على هذا النظام وأذعن لهم السلطان محمود وأمر بإلغاء النظام الحديث المفروض عليهم.
وكان السلطان محمود قد انشغل بالحرب التي أشعلها ضد الدولة السعودية الأولى ثم بثورة اليونانيين ضد الدولة العثمانية، فلما نجحت الجنود المصرية النظامية بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا في إخمادهم قرر السلطان محمود الثاني إلغاء الإنكشارية والقضاء عليها، إلا أن السلطان لم يعش طويلاً بعدها لتأسيس جيش حديث إذ توفي عام 1255هـ - 1839م وتولى بعده السلطان عبد المجيد وكان جمال الدين بعد رضيعاً وكانت أحوال الدولة في غاية الاضطراب وقد كثرت الفتن بين طوائفها المختلفة، وصارت دول أوروبا تهددها بالتدخل لحماية المسيحيين من رعاياهم وإنصافهم، ووضع السلطان عبد المجيد منهاجاً لإصلاح الإدارة وحفظ الأمن وتنظيم جباية الخراج وتنظيم الجندية وتنظيم القضاء وتنظيم حقوق الملكية وتنظيم حقوق الطوائف وتنظيم مجلس الأحكام العدلية.
لكن السلطان عبد المجيد لم يكد يضع هذا المنهاج حتى شغل عنه بالحرب التي أعلنتها روسيا على دولته فانصرف عنه بتوالي الفتن في الدولة.
وتولى بعد السلطان عبد المجيد السلطان عبد العزيز عام 1277هـ - 1861م الذي دعا إلى تأليف كتاب في المعاملات الفقهية يضبط مسائلها ويجمع الأقوال المختارة دون غيرها، ويرتَّب ترتيباً يسهّل استخراج الأحكام منه فيصير مرجعاً للمحاكم الشرعية من أقوال الحنفية الموثوق بها دون أن يتجاوز ذلك إلى فتح باب الاجتهاد الذي ظل محرماً نحو عشرة قرون.
إلا أن السلطان عبد العزيز عارض أحمد مدحت باشا حين طالبه بأن تصبح الأمة شريكة له في الحكم، وانتهى الأمر بعزل السلطان وسجنه في أحد القصور حيث وجد مقتولاً بعد بضعة أيام من سجنه.
ثم تولى مراد الخامس فلم يلبث أن ظهر عليه اضطراب عصبي فعزل عن الملك بعد قليل من توليه. وتولى بعده السلطان عبد الحميد الثاني عام 1293هـ - 1876م فعين أحمد مدحت باشا رئيساً للوزارة ومنح الأمة دستوراً وأمر بتأليف مجلس للنواب تختار الأمة أعضاءه ومجلس للأعيان تختار الحكومة أعضاءه فيكون لهما السلطة التشريعية، إلا أنه لم يمر شهران حتى عزل السلطان عبد الحميد أحمد مدحت باشا بالقول بأنه كان يسعى في فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية وأمر السلطان بنفيه، ولما اجتمع المجلسان وأخذا ينتقدان أعمال الحكومة غضب السلطان عبد الحميد عليهما وأمر بتأجيل اجتماعهما إلى أجل مسمى وكان هذا التأجيل في حكم إلغائهما.
وفي هذه الفترة من حياة الدولة العثمانية التركية ونعني بها فترة حياة السيد جمال الدين الأفغاني ظلت مساوئ الدولة على ما كانت عليه، فالسلاطين لا يأمنون على عروشهم تحيط بهم المؤامرات وكثيراً ما كان يعزل بعضهم ويفشل، والجيش رفض الإصلاح الحديث، والوزراء بعضهم من أصول أجنبية لا يهمهم مصلحة الدولة، وكان الولاة على الأمصار لا يقلون سوءاً، وإذا رغب أحدهم في إصلاح فلم يكن يجد الوقت الكافي بسبب التبديل المستمر فيهم خشية أن يدبروا الاستقلال عن الدولة وكان هم الوالي وكبار موظفيه ورؤساء جنده هو جمع أكبر قدر من المال في أقصر وقت ليرسلوا (صرة) السلطان إلى استنبول ويكتنزوا الباقي في جيوبهم على حساب الشعوب التي حرمت من الخدمات وفرضت عليها الضرائب الباهظة من فلاحين و حرفيين فتردّى حالهم إلى أسوأ من الجهل وشظف العيش.
ومع أن الدولة كانت سنية وكان القضاء الرسمي على مذهب أبي حنيفة إلا أن أهل السنة كانوا مختلفين في المذهب، ومع ذلك فإن التشيع كان سائداً في بعض أملاك الدولة كما كانت الحال في بعض أجزاء العراق، وكان الشيعة بدورهم فرقاً مختلفة.
وكانت الدولة العثمانية تؤيد التصوف جملة في مختلف طرائقه وتناهض التشيع، وكانت الطرائق الصوفية قد انتشرت في أرجاء الدولة انتشاراً كبيراً جداً وكان التصوف قد بعد عما كان عليه أصحابه الأوائل مجرد زهد أو عبادة لله تعالى، بل كانت قد دخلته الشطحات وبعض النزاعات والفلسفات الغربية عن الإسلام وأصبح في بعض جوانبه أشبه بنظام الكهنوت في المسيحية الكاثوليكية فيه وسطاء بين العبد والرب.
وكان السلطان عبد الحميد الثاني في محاولة منه لاستغلال فكرة الجامعة الإسلامية في إخضاع المسلمين تحت لوائه لستر حكمه الفردي المطلق قد ضم إليه مشايخ الطرائق وأغدق عليهم العطايا من أموال الأوقاف وبنى لهم التكايا والزوايا في كل مدينة وقرية، وكانت قد راحت عليه خزعبلات ((محمد بن حسن وادي)) المعروف باسم أبي الهدى الصيادي الرفاعي فقلده مشيخة المشايخ في المملكة العثمانية ومنحه ثقته الكبرى ليجمع الناس حول عرشه ويروج لسياسة الجامعة الإسلامية. وكانت البدع الدينية منتشرة في أرجاء الدولة وخصوصاً بعد أن كانت الدولة العثمانية بجيوش محمد علي قد قوضت الدولة السعودية الأولى بإسقاط عاصمتها الدرعية عام 1818م عاصمة الدعوة السلفية. وكان كبار الحكام أنفسهم خاضعين لبعض الدجالين من المتصوفة فضلاً عن أن العامة كانوا يتبركون ببعض القبور التي يقام على ساكنيها من الأولياء القباب وهكذا.. أما الدولة القاجارية بفارس فكانت تعاني من الفساد في تلك الفترة مثلما كانت تعاني الدولة العثمانية التركية، وكان لدولتي روسيا وإنجلترا أطماع في بلادها، فقامت حروب بينها وبينهما بسببها، وكانت هذه الحروب تنتهي بفوزهما عليها، وقد جعلها هذا تفكر في الأخذ ببعض الإصلاحات الحديثة، ولا سيما في عهد ناصر الدين شاه - كما سنرى عندما نعرض لسيرة السيد جمال الدين الأفغاني - لكن هذه الإصلاحات كانت ناقصة مثل الإصلاحات التي قامت في الدولة العثمانية التركية.
وأما دولة السعديين بمراكش (المغرب) فإنها في هذا القرن كانت في حال أسوأ من حال الدولتين العثمانية والقاجارية، لأن فرنسا فصلت بينها وبين باقي بلاد المغرب باستيلائها على الجزائر عام 1830م ثم تونس عام 1881م.
والدولة الرابعة الأخيرة هي دولة محمد علي باشا بمصر ونحن نسميها دولة مع أنها كانت شكلاً تابعة للدولة العثمانية التركية إلا أن حاكمها قد تمتع باستقلال شبه تام، وكانت الدولة قد نشأت عام 1220هـ - 1805م وكان محمد علي - وأصله من مقدونيا - قد جاء إلى مصر ضمن الفرق العسكرية التي جاءت لإخراج الفرنسيين من مصر، وتحبب إلى شعب مصر وقادته من المشايخ حتى اختاروه والياً. ووضع نصب عينيه أن ينشئ له دولة قوية حديثة بمصر فقام فيها بإصلاحات مدنية تمكن بها من إنشاء دولة قوية حديثة بمصر. ثم انتهز فرصة حدوث خلاف بينه وبين والي الشام وشنها حرباً على الدولة العثمانية حتى كاد يستولي في هذه الحرب على بلادها فحالت دول أوروبا وخصوصاً إنجلترا وفرنسا بينه وبين الوصول إلى هذا الغرض فعقد صلحاً بينه وبين الدولة بموجبه تركت جيوشه ما استولى عليه من هذه البلاد عام 1840 وجمال الدين عمره عام واحد تقريباً، وإن كانت قد جعلت مصر له ولذريته من بعده، وكانت هذه الحرب بينه وبين الدولة العثمانية عاملاً من عوامل ضعفهما معاً كقوى إسلامية واستفاد الأوروبيون من هذا الضعف، كما كانت الحرب التي شنها للقضاء على الدولة السعودية الأولى من أخطائه الفادحة أيضاً التي أضعفت المسلمين عموماً. وكانت إصلاحاته في مصر قد ذهبت بموته عام 1265هـ - 1849م في عهد توفيق باشا بحجة حماية السلطة الشرعية من الثورة الشعبية ضدها وبهذا انتصرت إنجلترا في منافسة فرنسا على مصر مما ستراه بشيء من التفصيل عما نعرض لسيرة جمال الدين.
نبذة عن سيرة السيد جمال الدين الأفغاني:
هو محمد جمال الدين بن صفتر، وينتسب إلى الترمذي المحدث المعروف الذي يرتقي نسبه إلى الإمام الحسين بن علي، ولد بأشن أباد من أعمال كابل عاصمة أفغانستان سنة 1254هـ - 1839م (1) . انتقل والده إلى كابل وهو في الثامنة من عمره، فدرس فيها علوم العربية والتاريخ والإنشاء والعلوم الشرعية والعقلية، كما درس في إيران وتعلم الفارسية والتركية. ثم تعلم اللغة الإنجليزية في الهند فجمع بهذا بين الثقافة القديمة والحديثة. وكانت زيارته ومقامه في الهند فرصة لتعرفه على خطر الاستعمار الأوروبي على البلاد الإسلامية إذ رأى كيف سقطت حكومة الهند الإسلامية قبل ذلك بسنوات فتشبعت نفسه بفكرة تبصير المسلمين بالخطر المحدق بهم ورأى أن أحسن مكان لذلك هو مكة في موسم الحج فوصلها عام 1273هـ - 1857م. وهو العام الذي اشتعلت فيه ثورة الهند التي كان من جراء فشلها أن حلت الحكومة الإنجليزية. في حكم الهند مباشرة محل شركة الهند الإنجليزية وفي مكة أنشأ جمعية سماها جمعية أم القرى وكان أعضاؤها من جميع الأقطار الإسلامية وأنشأ لها مجلة أم القرى لتبصير المسلمين.
ثم عاد إلى أفغانستان وجعله محمد علي أعظم رئيساً لوزرائه لينهض بأفغانستان وهو أمر لم يرض إنجلترا فعملت على إثارة الفتن ونجحت في أن ترى أعظم معزولاً وتولي أميراً آخر ترضى عنه، فبدأ جمال الدين يعمل على إثارة الشعب الأفغاني على الإنجليز. والأمراء المستبدين الذين يتآمرون معاً عليه. ولم يكن قد بلغ سنه الثلاثين بعد. ثم أراد أن يجعلها ثورة إسلامية عامة على الإنجليز وغيرهم من الطامعين في المسلمين، وكأن الله قد أعده لقيادة هذه الثورة بما منحه من لسان فصيح، وقلب قوي، وثقافة واسعة، فرحل إلى الهند وأخذ يدعو إلى الإصلاح الديني والسياسي والعلمي والاجتماعي بين أهلها حتى ضاق الإنجليز به وأحاطوه بجواسيسهم في كل حركاته وسكناته فاضطر أن يرحل من الهند إلى مصر سنة 1286هـ - 1870م.
وأقام في القاهرة نحو أربعين يوماً كان يتردد فيها على الأزهر ويتصل ببعض أساتذته وطلابه ومنهم الشيخ محمد عبده.
ثم دعاه السلطان عبد العزيز إلى استنبول، وعينه عضواً في مجلس المعارف، فقام فيه بإصلاحات تنبه المسلمين من غفلتهم، فثار عليه بعض رجال الدين من الجامدين هناك وطعن شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي في عقيدته، ولتهدئة الفتنة أمرته الحكومة بالرحيل عن استنبول فرحل عنها إلى مصر سنة 1288هـ - 1871م.
وفي مصر احتفل به الخديوي إسماعيل ووزيره رياض باشا ومكنا له من القيام بدعوته إلى الإصلاح ذلك لأن نفوذ الأجانب كان قد بدأ يتوغل في مصر حتى طغى على نفوذ إسماعيل عن طعن جمال الدين في الحكم الاستبدادي الذي كان طابع حكمه وعن تأليف جمال الدين لحزب سماه الحزب الوطني يقوم بما يعمل على تخليص البلاد من النفوذ الأجنبي، وعلى إصلاح الحكم وكان جمال الدين يرى مقدمات وقوع مصر تحت حكم الإنجليز كما حدث للهند من قبل فأخذ يخطب في تلاميذه من محبي الوطنية والحرية من الأزهريين بخاصة، إلا أن الأجانب كانوا قد سعوا لدى السلطان حتى حملوه على عزل إسماعيل باشا وتولية ابنه توفيق باشا.
ولم يلبث توفيق باشا أن أصدر أمره بنفي جمال الدين من مصر ورحل إلى الهند في عام 1296هـ - 1879م بعد مقام نحو ثماني سنوات وترك فيها رجالاً يقومون بها بعده. وقد قال جمال الدين لمودعيه حين خرج من مصر: إنني خرجت من الديار المصرية وما ألفت كتاباً، ولكني تركت لكم أثراً يغني عن جميع الكتب وهو محمد عبده، وكفى به لمصر عالماً. وكان أمل جمال الدين أن يجعل مصر هي الدولة الإسلامية البادية بالنهوض. ورحل جمال الدين من مصر إلى الهند فأقام بها ثلاث سنوات، وألّف في هذه المدة كتاب ((الرد على الدهريين)) وقد كتبه بالفارسية. والأساس الذي بنى عليه هذه الرسالة هو أن الدين ضرورة بشرية لازمة للإنسان لزوم الهواء والماء وأن كل حضارة وكل رقي بشري في الأرض إنما أساسه الدين، وعني في هذه الرسالة برد المطاعن الحديثة التي توجه للدين، فقد تنبه جمال الدين لخطر غزو الاستعمار الأوروبي الروحي لعقول الشباب الشرقي باعتبار لا ثقافة إلا عن طريق الغرب ولغته. ثم ضيق عليه الإنجليز في الهند عندما أحسوا بما يقوم به لشغلهم عن احتلال مصر بإشعال ثورة في الهند. وكانوا قد تمكنوا من القضاء على ثورة عرابي في مصر ونفوا الشيخ محمد عبده إلى بيروت.
فقصد جمال الدين فرنسا وأقام في باريس ودعا إليه الشيخ محمد عبده فذهب إليه سنة 1302هـ - 1884م وقاما بإنشاء جمعية في باريس (2) من مسلمي الأقطار المختلفة وسمياها - جمعية العروة الوثقى - وأنشآ مجلة سمياها - مجلة العروة الوثقى - لتدعو المسلمين إلى النهوض في دينهم ودنياهم. وهنا تبدأ صفحة جديدة من صفحات جهاد هذا الرجل الحديدي الإرادة. فبدلاً من أن يستكين بعد أن نفي مرتين أنشأ جريدة ((العروة الوثقى)) التي كان من ورائها جمعية سرية منبثة في جميع الأقطار الإسلامية اختير أعضاؤها من بين المسلمين المثقفين الغيورين على دينهم كانوا يتبرعون بما يستطيعون لتدعيم تلك الجريدة التي لم يصدر منها سوى ثمانية عشر عدداً على مدى ثمانية أشهر ظهر العدد الأول منها في 15 جمادى الأولى سنة 1301ه - 13 مارس سنة 1884م وظهر العدد الأخير في 26 ذي الحجة سنة 1301هـ - 17 أكتوبر سنة 1884م وقد تشددت حكومة مصر في منع دخول هذه الجريدة إلى البلاد أيما تشدد كما تشددت حكومة الهند في ذلك.
وأمام هذه الرقابة الصارمة توقفت الجريدة عن الصدور وانتهت مرحلة أخرى من مراحل جهاد السيد مدتها ثلاث سنوات أقامها في باريس تعلم خلالها اللغة الفرنسية وقابل في أثناء ذلك الفيلسوف الفرنسي رنيان وجرت بينهما محاورات.
كما دعاه بعض ساسة الإنجليز للذهاب إلى إنجلترا فأرسل السيد تلميذه الشيخ محمد عبده إلى هناك ذلك لأن هؤلاء الساسة أحسوا بوطأة حملة العروة الوثقى على الاستعمار الإنجليزي أرادوا أن يتفاهموا مع القائمين على أمرها على سبيل جس نبضهم لعلّهم يقبلون التعاون أن يتهاونوا في هذه الدعوة.
ولكن السيد نشر في العدد الرابع عشر من الجريدة صيغة المحادثات التي جرت بين الشيخ محمد عبده ولورد هرتنكتن، وزير الحربية البريطاني، والذي سأل فيه وزير الحربية ألا يرضى المصريون أن يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الإنجليز وهي خير من سلطة الأتراك ومن جاء على أثرهم خصوصاً وأن الجهالة عامة في أقطار مصر وأن كافتهم لا يفرقون بين حاكم أجنبي وحاكم مصري؟
ورد الشيخ محمد عبده بما خلاصته أن المصريين يحبون أوطانهم كما يحب الإنجليز بلادهم وأنه لا سبيل إلى قبولهم سلطان أي حكم أجنبي عليهم.
وهكذا نرى أن السيد ليس يدعو إلى استبدال سيد بسيد فهو لا يشير إلى فساد حكم الدولة العثمانية حتى إذا لاح حكم الإنجليز أسرع بالموافقة عليه لا بل هو يريد نهضة الأمة لتحكم نفسها ويعود مجدها.
وإن جريدة العروة الوثقى على قصر المدة التي ظهرت خلالها كان لها أبعد الأثر في تهييج شعور المسلمين والشرقيين ضد الحكم الأجنبي فقد كتبت في الجامعة الإسلامية والرابطة الشرقية والمسألة المصرية والسودانية والهندية.
ومكث جمال الدين في أوروبا ليقوم بنفسه بما كانت تقوم به المجلة، ثم دعاه ناصر الدين شاه سلطان فارس فسافر إليه سنة 1303هـ/1886م وعينه وزيراً للحربية فقام بدعوته الإصلاحية في فارس حتى كثر أنصاره فيها، وقوي سلطانه على نفوس المثقفين من أبنائها، فخاف منه ناصر الدين شاه على سلطانه وخاف منه الجامدون من العلماء على سلطانهم.
واستأذن جمال الدين من ناصر الدين شاه أن يرحل في سياحة إلى روسيا، ونشر في جرائدها مقالات تردد في عالم السياسة صداها، ونشأ عن نشاطه إصلاح بعض شؤون المسلمين الخاضعين لروسيا كالإذن لهم بطبع الصحف والكتب الدينية والسماح بتوزيعها وانتشارها.
ثم انتقل إلى فرنسا وفيها تعرف بالفيلسوف الفرنسي رنيان وناقشه حول محاضرته التي ألقاها بجامعة السوربون عن ((علاقة العلم بالإسلام)) وزعم فيها أن الإسلام يعادي العلم ويحارب العلماء وأن العرب ليسوا أهل حضارة.. فرد عليه جمال الدين رداً علمياً رضياً أثبت فيه أن ما وقع من مقاومة العلم والعلماء في بعض فترات تاريخ الإسلام لم يكن ناشئاً عن طبيعة الإسلام الذي يجل العلم ويكرم العلماء، وإنما منشأ ذلك سوء فهم بعض العلماء له. كما أثبت فيه حضارة العرب وأياديهم البيض على الحضارة الإنسانية بوجه عام. وقد كان لهذه المحاضرة والرد عليها دوي كبير في باريس وأرجاء العالم الإسلامي وقال عنه رنيان: كنت إذا تحدثت إليه فكأنما أتحدث إلى ابن سيناء أو ابن رشد (3) .
وفي فرنسا تقابل مع ناصر الدين شاه الذي كان قد جاء في رحلة وألح عليه في العودة معه إلى فارس فرجع ولكنه قوبل بمقاومة شديدة من أعداء الإصلاح ومن ناصر الدين شاه نفسه عندما طلب منه جمال الدين أن يجعل حكومته قائمة على الشورى ونفاه ناصر الدين من فارس فقصد العراق.
وأنشأ في إنجلترا مجلة سماها - ضياء الخافقين - نهج فيها منهج مجلة العروة الوثقى، وحمل فيها على ناصر الدين شاه، وأخذ يؤلب عليه الأحرار من أبناء فارس، وكان لهذه الحملة أثرها إذ قتل. ثم دعاه السلطان عبد الحميد بعد هذا سنة 1310هـ - 1892م إلى استنبول، فقربه منه وجعل يستشيره في شؤون دولته، ولم يقصد من هذا إلا أن يراقب حركاته، وسكناته، وهو قريب منه، فيعيش في جواره وكأنه في سجن إذ يحيطه بجواسيسه في غدواته وروحاته، ولا يمكنه أن يفارقه إلى بلد آخر (4) .. مع أن هذه الفترة التي دعا فيها جمال الدين إلى فكرة الجامعة الإسلامية، التي كان يعمل من أجلها السلطان عبد الحميد، فقد كان جمال الدين - رغم علمه ببعض نواحي فساد الحكم داخل الدولة العثمانية التركية - يؤمن أن اجتماع المسلمين تحت راية واحدة - وهي راية الخلافة العثمانية وقتها - هو السبيل إلى قوة المسلمين وبالتالي نجاتهم من الخضوع تحت وطأة الاستعمار الأوروبي الذي كان يمهد لنفسه بتفتيت قوى المسلمين ومن ثم الاستيلاء عليها واحدة واحدة.. وبعد بقائه في الآستانة أربع سنوات يزفر فيها زفرات الأسى على جهوده الطويلة المضنية التي بذلها بالإصلاح دون أن يبدو أمل في نجاح مساعيه، مات في التاسع من مارس عام 1897م متأثراً بالسرطان - كما قيل أو مسموماً في مؤامرة - كما هو المتوقع، وشيعت جنازته كما تشيع جنازة غريب مجهول لم يسر خلفها إلا أفراد قلائل من الذين علت عليهم الجرأة والإخلاص لذكراه الطيبة.
وبإسلام جمال الدين الأفغاني الروح طويت صفحة واحدة من أعظم رجالات الإسلام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي.
حركة جمال الدين الإصلاحية:
بتأخر الشرق الحضاري في القرن الثالث عشر الهجري والتاسع عشر الميلادي بالنسبة لأوروبا ظهر نهر من التفكير لمجابهة ذلك التأخر.
وإذاً فبعد العرض الذي عرضناه لحياة جمال الدين وظروف حياته يتبين لنا أنه اتخذ من الدين أساس دعوته الإصلاحية جاعلاً هدفه الأسمى إيقاظ الروح - في وقت ساد فيه اليأس أو كاد بلاد المسلمين - ومقاومة طغيان المادة ومحاربة النزعات الإلحادية الهدامة التي كان يراها مصدراً لكل ما أصاب البشرية من ويلات وشرور عبر تاريخها الطويل، معيداً إلى العقل السليم مكانته في الإصلاح والتوحيد، ودرس القضايا الإنسانية العامة أو الخاصة على ضوء الدين الإسلامي.
وعلى الرغم من أن جمال الدين لم يكن في حركته الإصلاحية يفرق بين الدين والسياسة شأن كل عالم مسلم صحيح النظر فإنه يمكننا أن ندرس عمله في سبيل الإصلاح الديني من الجانبين التاليين:
1 - الجانب السياسي:
ويتلخص في السعي لإقامة حكم إسلامي نظيف، فقد دعا المسلمين إلى أن يتحدوا في مقاومة الخصوم من المستعمرين حتى يردوا الزحف الغاشم عليهم وعلى أوطانهم وأن يسعوا إلى الوحدة التي تحفظ كيانهم وتزودهم قوة، وأن يدعموا أسس الأخوة والتعاون بينهم على أن يبدأوا بتكوين روابط أخوية في شكل حلف يجمع شتات المسلمين تحت راية القرآن ورسول الإسلام، وفي نطاق تعاليمه الداعية إلى الأخوة والتعاون والاعتصام بحبل الله المتين.
2 - الجانب العقائدي والاجتماعي:
( أ) وقد بينا من قبل كيف أنه في رسالة الرد على الدهريين قد أوضح كيف أن الدين ضرورة بشرية.
(ب) العروة الوثقى كأساس لوحدة المسلمين كما أوضحنا عند الحديث عن جمعية العروة الوثقى ومجلتها.
(ج) كما دعا علماء المسلمين إلى الاجتهاد وإعمال الرأي فيما يعرض لهم من نصوص الدين قائلاً: "ما معنى: باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد؟ وأي إمام قال: لا يصلح لمن جاء بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه؟
فكان كثيراً ما يردد لا بد من حركة إصلاح ديني تزيل ما رسخ في عقول العوام وبعض الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها الحقيقي كفهم بعضهم للقضاء والقدر على نحو يجعلهم لا يتحركون لطلب مجد ولا للتخلص من الذل، حركة تخلص هذه العقيدة الشريفة من بعض ما طرأ عليها من لواحق البدع ويذكر العامة بسنن السلف الصالح وما كانوا يعملون وينشرون بينهم ما أثبته الأئمة.. من أن التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرعي منا في العمل لا في البطالة والكسل وما أرادنا الله أن نهمل فروضنا وننبذ ما أوجب علينا بحجة التوكل عليه فتلك حجة المارقين عن الدين، فمن هذا نفهم أن حركته تقوم على إحياء أمجاد السلف الصالح والسير على منهجهم القويم كما تقوم على تحطيم الأوهام والخرافات في عقول العامة.
حركة جمال الدين الأفغاني ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية:
أوضحنا أن حركة جمال الدين كانت في أساسها حركة سلفية تدعو إلى تنقية الإسلام مما علق به من شوائب والعودة إلى فعل ما كان يفعله السلف الصالح وتخليصه من البدع التي شوهت عقيدة التوحيد، وإعمال العقل والاجتهاد بشرط عدم الخروج عن الكتاب والسنة. إلا أن ظروف جمال الدين الأفغاني كانت مختلفة فهو قد زار عديداً من البلاد الشرقية والأوروبية وتعلم عدة لغات غير العربية منها اللغة الإنجليزية والفرنسية مما جعله يدخل في مناقشات مع بعض الأوروبيين من الذين هاجموا الإسلام. وربما كانت ولادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في إقليم نجد المنعزل مما جعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يستطيع غير زيارة بعض البلاد المجاورة للدراسة، والثابت أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يعرف العربية وحدها وإن كان قد تعمق تعمقاً كبيراً في المذاهب الفقهية وخصوصاً الفقه الحنبلي. وكان جمال الدين حنفياً. وربما كان لقرب الأفغان مسقط رأس جمال الدين من الهند ومن فارس ما جعله يزورهما ويتعلم الإنجليزية والفارسية.
إخوتي:
لعلّي لم أسرد في استعراض السيرة لجمال الدين لكن في الختام ينبغي أن أقول لكم إن المدرك لي في الأساس هو ما سمعته من حملة بعض المنحرفين الذين جندوا أنفسهم ليحاربوا كل بطل.. هؤلاء سمعتهم يقولون عن جمال الدين إنه يهودي صهيوني.. إن الإسراف في بعض الألسنة تصنع كل بطل من بني الإنسان يهودياً.. ثم صهيونياً لأنه يهودي يعطي المجد لإسرائيل.. قد يكون بعض هؤلاء مناصراً لإسرائيل أو منحازاً إلى الصهيونية لكن هذا لا يعني أنه يهودي.. فزعم هؤلاء يستند إلى قول مؤلفة أمريكية محدثة.
إن هذا الاتهام ليس حرباً على جمال الدين في هذا الوقت.. وإنما هو حرب على الإسلام.. حرب على التضامن الإسلامي.
وخذوا إسرافاً لا مثيل له فيما ذكره العقاد عن الأستاذ حسن البنا، فقد تسادى العقاد في خصومة ضد حسن البنا إلى أن اتهمه بأنه يهودي، لماذا؟ لأن أجداده هاجروا من المغرب وأصبحوا صناع الساعات في مصر ولا يحترف الصناعات الدقيقة في المغرب إلا اليهود.. وفات العقاد أن الصناع في خان الخليلي يصنعون مثل هذه الأشياء الدقيقة وهم مصريون عرب وليسوا يهوداً.
هذا إسراف يجب على العقاد يرحمه الله.
إن اتهامه باليهودية لا أساس له من الصحة، واتهامه بالإلحاد طعن من القبوريين والعشويين.. فهل يكون ملحداً من كتب رسالة يرد على الدهريين؟
إخوتي:
أريد أن أختم محاضرتي بكلمات مجنحة لجمال الدين وعن جمال الدين.
حين نفاه الخديوي توفيق أرسل له قدراً من الذهب يعينه على السفر فرفض السيد ذلك العطاء، وقال.. ردوها عليه لا يعدم الأسد فريسته أينما ذهب.
وحين أرادوا حمل حوائجه قالوا أين حقائبه؟ فقال السيد عن أي الحقائب تسألون؟
حقيبة الملابس أم حقيبة الكتب؟
قالوا عن كل منهما نسأل.. فقال: حقيبة الكتب هنا وأشار إلى رأسه وإلى مكتبه، وحقيبة الملابس هي هذه وأشار إلى ما يلبس ولا غيره.
أما الكلام عنه فكلمة مسيو رنياند فيلسوف فرنسا فقد اجتمع مع جمال الدين في باريس وتحدثا طويلاً.. فلما انتهى الحديث وخرج جمال الدين سألوا الفيلسوف الفرنسي كيف رأيت السيد؟ قال: لقد نقلني إلى العصور الوسطى.. عصور الإشراق للحضارة الإسلامية فكأنما كنت أتحدث مع ابن سيناء والفارابي، واجتمع في لندن مع الفيلسوف البريطاني هربرت سمنيسر فسأله الفيلسوف قائلاً لجمال الدين ما هو العدل؟ فقال العدل أن تتعادى قوى، وقال إسعاف النشاشيبي لسعد زغلول أيام كان النشاشيبي في القاهرة يلقي كلمته في يوبيل شوقي.
قال لسعد..
يا سعد.. لقد نهضت في الشرق أمتان اليابان وجمال الدين..
وخلاصة القول إن رجلاً ترك ثبتاً من الرجال الكبار يحملون فكرة ويحسبون نهضة الشرق لجدير بأن يسقط كل اتهام عليه.
فإليكم أسماء هؤلاء الرجال:
محمد عبده
سعد زغلول
عبد الكريم سليمان
إبراهيم الهلباوي
شكيب أرسلان
رشيد رضا
والرديف لهؤلاء أبو خطوة حمدي ناصف - محمد عبد القادر الكيلاني وغيرهم حتى سامي البارودي وموسى الجار الله وعبد الرشيد إبراهيم وأيضاً حافظ إبراهيم، والذين عاشوا معه والذين تعايشوا مع فكره كثيرون، وما أكثرهم في الهند وعلى رأسهم أبو الكلام أزاد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1235  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 805 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.