شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في الجامعة
ودخل ((سالم)) مدرسة الألسن لتعلم اللغة الألمانية وكانت رسائله ((للوسي)) لا تنقطع ورسائلها إليه تنير له السبيل إلى المجد والمثابرة والجد، وقد استطاع بعد ستة شهور اجتياز الامتحان المدرسي وبالتالي الانتساب للمدرسة التي سوف تؤهله لدخول كلية الطب، وقضت إجازتها معه بناء على دعوته لها. وكانت فرصة طيبة ليعرف كل منهما الكثير من دخائل الآخر، ومن حسن الاتفاق أن تزيدهما هذه الفرصة اتصالاً ووثوقاً وتقديراً وإعجاباً من نفسهما لنفسيهما، ولا عجب أن يعلو ترمومتر الحب حتى يفجر غطاؤه فنراهما ينهلان الكؤوس من ورده العذب من دون رقيب أو حسيب.
وانتهت عطلة الصيف، وعاد ((سالم)) ينتظم دروسه في كلية الطب بنشاط وحيوية ومثالية في سيره وسيرته. وظلت ((لوسي)) توافيه برسائلها وكلها مشاعل تضيء سبيله، وتطلب إليه ألا يكتب إليها إلا عندما تسنح له الفرصة خشية أن تلهيه عن الدراسة، وكان يمتثل أمرها، فعندما يجد الوقت، وما أقله عند طالبي الطب، يجلس على مكتبه ويجيب على رسائلها ويختم الصفحة الأخيرة من رسالته بعبرة هي أقل تعبير عما يكابده من شوق وحب.
كانت هذه حالة ((سالم)) عندما يراسل حبيبته، أما عندما يهزه الشوق إلى أهله ووطنه فنراه يجلس في حديقة الكلية أمام شجرة ((السنامكي)) يتأملها طويلاً ويشكو إليها برحه وشوقه ثم يمسح دموع وحدته وغربته.
وحدث عصارى ذات يوم، وبينما هو على هذه الحال، إن مرَّ به البروفيسور ((فوخر)) أستاذ الأمراض الباطنية بالجامعة وسأله عما به فأصدقه ((سالم)) القول، فرَّبت على كتفيه وخديه وطلب إليه أن ينتظره هنا ريثما يعود بعد نصف ساعة على الأكثر. وفي الموعد المحدد وافاه البروفيسور ومعه طالبان قدمهما إليه: الأول مصري اسمه ((عاصم)) وكان يدرس بالسنة الثالثة بكلية الطب والثاني جزائري اسمه ((قاسم)) وكان يدرس الطب بالسنة الثالثة من الكلية نفسها، وانسجم الجميع ونسي ((سالم)) آلامه وأحزانه. وفي الحقيقة كان هذان الطالبان يعينان ((سالم)) في دروسه ويسريان عنه وحدته وكربته. وكان لمعونتهما العلمية وتوجيهات البروفسور ((فوخر)) الفضل الأكبر في نجاح ((سالم)) بكلية الطب.
وجاءت عطلة الصيف، وارتقب ((سالم)) على أحر من الجمر رسالة ((لوسي)) وأين سيقضيان الصيف، وأخيراً وافته وإذا بها تخبره أنها لا تستطيع أخذ إجازتها هذا الصيف بالنظر لنقل مركزها من خطوط الملاحة عابرة قنال السويس فالمحيط الهندي إلى خطوط الملاحة عابرة المحيط الأطلسي فأمريكا الجنوبية.
ويحس ((سالم)) لأول مرة بالفراغ في حياته وبالألم المرير بعد الهناء الطويل، فيعيش في دوامة من الأفكار وموجات من القلق يساجل بعضها بعضاً وما أكثر ما تكسر منها على صخور يأسه وحنينه.
وتطول ليالي الصيف وأيامه، وتطول معها آلام ((سالم)) وأحزانه، ولا يستروح منها إلا عندما يتلقى رسالة من ((لوسي)) ينهل منها قلبه الصادي وتقتات منها أفكاره المشوشة فيخلد أياماً وليالي هادئة على فتات الذكريات المنتشرة بين سطور تلك الرسالة، ويسبح بخياله في عالم اللانهائية ويظل على هذا المنوال حتى ينضح بحر خياله فيعود إلى بر أشجانه وحسراته.
وشق على ((عاصم)) و ((قاسم)) ما وصلت إليه حالة ((سالم)) فحاولا الترفيه عنه ما وسعهما إلى ذلك سبيل، ولكن الفراغ واسع الحدود مترامي الأطراف لا يملأ حيزه إلا واحدة لا أحد بعدها، ومن لنا بهذه الواحدة؟ وأين هي؟ يقربها خياله وتبعدها الحقيقة، تلك حال ((سالم)).
وأعيا صاحبيه وأسهرهما همه فلجآ إلى البروفيسور ((فوخر)) يسألان النصح والإرشاد، فجاءهما الجواب في رسالة صغيرة دعاهما و ((سالم)) بإلحاح وإصرار لقضاء بضعة أيام في مصيفه الجميل جنوبي ألمانيا.
وتقبل الصاحبان الدعوة بفرحة ويتقبلها ((سالم)) بخجل ومضض مستتر، ويبرقون بالقبول، شاكرين محددين موعد سفرهم.
ويستقل الجمع القطار و ((سالم)) معهم ساهم واجم مسير غير مخير. ويسعى الصديقان في الترويج عنه، ويظهر أن المناظر الخلابة والعطف الموصول من ((عاصم)) و ((قاسم)) أثرت في ((سالم)) فشاعت البسمة لأول مرة، في وجهه، وانطلقت الكلمات من فيه مترنحة متعثرة تحاول أن تنتصب وتنتظم وتنفض عنها غبار الصمت وغياهب الانتظار، وسرعان ما انجلت وصقلت فعاد إلى ((سالم)) رقيق تعبيره، وحلو حديثه وجمال رويه.
واستقبلهم في المحطة البروفسور ((فوخر)) ومعه ابنة أخيه ((ماريا)) واستقل الجمع السيارة إلى البيت حيث لاقتهم مدام ((فوخر)) بما عرف عنها من كرم وحسن لقاء.
وكان بيت البروفيسور يقع على ربوة عالية تطل على المصيف تحيط به غابة منسقة الأشجار تتخللها رحبات انتشرت في وسطها وعلى جنباتها الزهور والورود في نظام بديع تعددت أشكاله وتنوعت صوره ومناظره.
لم يكن للبروفيسور ((فوخر)) خلف فتبنى ابنة أخيه ((ماريا)) بعد وفاة والديها في حادث سيارة وأسبغ عليها من عطفه وحنانه ما أنساها آلام اليتم وفداحة المصاب، ومن حسن الاتفاق أن تحبها مدام ((فوخر)) أكثر من عمها حتى لقد تبلغ من طبيعة هذا الحب أن الزائرين يحسبون ((ماريا)) ابنتها بل قد يتشككون حينما تتجلى لهم الحقيقة عرضاً.
وكانت ((ماريا)) شقراء فارعة الطول، متناسقة الجسم، وجهها يميل للاستطالة أكثر من التربيع، لها عينان عسليتان، وفم دقيق، وشفتان رقيقتان ووجنتان كستهما الطبيعة صحة، ونضارة، فتألق من غير رتوش أو زينة صناعية. وبعبارة مختصرة كانت أنموذجاً صادقاً للجمال الآسر من أول وهلة.
وانتظم جمع الشمل مساءً حول مائدة عمرتها مدام ((فوخر)) بكرمها وسخائها، ونسقتها أيدي ((ماريا)) وصديقتين دعتهما للاحتفاء بالضيوف هما ((لولا)) و ((ريتا)).. وبعد العشاء استهل البروفسور ((فوخر)) وزوجه حفل الرقص وتبعهما ثلاثي الشباب والشابات، واستمروا يرقصون مدة غير قصيرة. ثم توقفوا وانتثروا على الأرائك يستروحون، ثم جمعهم البروفسور في حلقة وطفق يقص عليهم نوادر القصص وأروعه، وطلب من ضيوفه مثل ذلك فروى كل منهم ما أسعفته ذاكرته من قصص وفكاهة، وظلوا على هذا الحال حتى منتصف الليل، وقد شاعت الفرحة في عيون البروفيسور وزوجه حينما رأيا البهجة تعلو وجوه ضيوفهما خاصة وجه ((سالم)) العزيز لديهما جداً.
وفي صباح اليوم التالي ذرع الثالوث شوارع القرية ومنتزهاتها وآثارها، وفي المساء، بعد العشاء صحب كل رفيقته إلى كازينو القرية فسهروا حتى منتصف الليل، وهكذا كان شأنهم في بقية الأيام.
وفي خلال الغدوات والسهرات كانت ((ماريا)) ملازمة ((لسالم)) كظله تغدق عليه من عطفها وحنانها ما كان هو بحاجة إليه في وحشة الفراغ الذي أحدثه فراق ((لوسي))، وكان ((سالم)) يشعر بخجل مرير إذ يقابل حنانها الدافق بتحفظ وبالقدر الذي يسمح به وفاؤه ((للوسي)) وكانت استجابته المقننة بترولاً يصب على عواطف ((ماريا)) العارمة فيزيدها لهيباً واشتعالاً.
ولا تسل عن عذاب الخجل وتبكيت الضمير الذي عاشه سالم ((فكم من مرة كاد يستجيب لحب ((ماريا)) تخلصاً من عذابه وإشفاقاً عليها مما هي فيه ولكنه وهو المِضَنُّ، كان يكتم أحاسيسه في صندوق قلبه الحديدي ويشمعه بالصمت الأحمر.
وانقضت أيام الضيافة، وما صدق ((سالم)) انتهاءها، فقد ناء بحمل عواطفه المكبوتة وضاق ذرعاً بأحساسيه السجينة، وودع ((سالم)) ورفقاؤه مضيفيهما شاكرين لهما كرم الضيافة وحسن اللقاء، وانعطف ليودع ((ماريا)) فانفجرت تبكي بحرارة أذهلت الحاضرين وأحرجت ((سالم فرأى من قبيل المجاملة واللباقة أن يهدىء روعها ويطفىء ثورتها فضمّها إلى صدره وقبلّها، إذا بها تطوقه بحنانها الفتي وتشبع خديه وشفتيه لثماً وتقبيلاً، وانفلت ((سالم)) من بين ذراعيها بصعوبة وأسرع لا يلوي على شيء يتعثر في خجله ويتلوى من تبكيت ضميره.
ولحقه صاحباه، وأمسكا به يهدهدان ما اعتراه من حرج ويهونان عليه ما هو فيه من تعذيب وتأنيب داخلي ويشعرانه بأنه لم يأت أمراً منكراً ولم يقترف إثماً يحاسب عليه، وأدركهما رب المنزل وزوجه التي سارعت إلى ((سالم)) فقبلته قائلة: إنها سعيدة بحب ابنتها له وإنها ترجو أن يمتد ظلال عمرها فتحضر حفلة إكليلهما، فقبل ((سالم)) يديها شاكراً داعياً لها بطول العمر، ثم استقل ورفاقه السيارة في طريق العودة وقد سرى عنه ما انتابه من ضيق وكرب.
وعاد ((سالم)) إلى وحدته يسامرها وتسامره ويناجيها وتناجيه، ويشكو منها وإليها ولا يقطع حبل الود الموصول بينهما غير رسائل ((لوسي)) القليلة، التي يعيش على فتاتها أياماً وليالي يلوك ذكرياتها القريبة والبعيدة حتى ظلها فيعود إلى وحدته الحبيبة.
وفتحت أبواب الجامعة وانتظم ((سالم)) في دراسته بما عرف عنه من جد واجتهاد، ولم يكن من جديد في حياته الجامعية سوى لقائه المتباعد ((بماريا)) في مناسبات الأعياد والعطلات المدرسية، فكان يجد في ذلك اللقاء متنفساً لشوقه المكبوت، ورياً لغرامه الظامىء، على أن رواسب التزمُّت الراكدة في فجوات تربيته البيتية وأصداء النصائح والإرشادات الأبوية المتتالية في رسائل والديه كانت تلجم انطلاقة عواطفه بقيد الوفاء لحبه الأول: حبه ((للوسي)).
وتلقى ((سالم)) رسالة من زوجة أبيه تبشره فيها بأن أخاه ((وحيد)) قد هداه الله سبحانه وتعالى فهجر رفاق السوء وأصبح لا ينقطع عن صلاة الجماعة بالمسجد الحرام، وانتظم في دراسته بجد ونشاط وصارت الدادة ((حليمة)) تخدمه وترعاه كما كانت تحنو عليك وترعاك، وكان سرور ((سالم)) بهذه البشارة لا يوصف، فأرسل خطاب تهنئة لأمه بما أنعم الله على أخيه من رشد وهداية، كما بعث رسالة أخرى إلى أخيه يهنئه ويدعو الله له بمستقبل باهر.
وفي صباح يوم يظل يذكره ولا لن ينساه، وصلته رسالته من ((لوسي)) تخبره فيها بأنها خطبت إلى ضابط في البحرية الملكية البريطانية وأن حفلة الإكليل ستكون الثالث والعشرين من شهر يوليو القادم وفي مدينة لندن، وترجوه مخلصة حضوره حفل الإكليل الذي سترسل بطاقة دعوته إليه في حينه.
ونزل الخبر على ((سالم)) نزول الصاعقة، فلم يذهب إلى الكلية في ذلك اليوم بل ظل في غرفته يبكي بكاء الأيامى وينشج نشيج الثكالى، وراع غيابه صديقيه ((عاصم)) و ((قاسم)) وخشيا أن يكون أصابه مكروه فسارعا بعد انتهاء المحاضرات إلى السؤال عنه فوجدوه في غرفته منكفئاً على سريره يبكي ويعول فأجلساه وقام عاصم وبلل منشفة مسح بها دموعه ووجهه، وسأله قاسم:
ـ ما بك يا أخي عسى أنك بخير..!!
ـ وأي خير! بل قولا أي شر أصابك يا ((سالم))؟
وانتفض ((عاصم)) وقال:
ـ أعوذ بالله من الشر قل يا أخي ماذا دهاك؟؟
ودفع ((سالم)) برسالة ((لوسي)) إليه فقرأها ثم ناولها إلى ((قاسم)) فقرأها ثم التفت إلى ((سالم)) قائلاً:
ـ حقاً إن ((لوسي)) فتاة مدركة عاقلة أتريدها أن تنتظرك حتى تحصل على دبلوم الطب فتتزوجها.. من يدري؟ ربما لا يوافق أبوك على زواجك من أجنبية.. أو ربما تغير رأيك فيها.. ويستفز ((سالم)) كلامه فيقول:
ـ ولكن قلت لها إني مستعد أن أتزوجها وأنا ما أزال ادرس ولكنها... ويقاطعه ((عاصم)) قائلاً:
ـ ولكنها ماذا يا ((سالم))... ماذا قالت لك؟؟
ـ عليك أن تفكر في دراستك قبل التفكير في الزواج مني، كما أني لا أريدك أن تقوم بعمل لا يرضى عنه والدك ولا سيما وأنت من بلد محافظ كما علمت له تقاليده وعاداته.
فقلت لها سأتزوج بعد حصولي على دبلوم الطب. غير أنها أجابت:
ـ هل تضمن يا ((سالم)) مباركة والدك لهذا الزواج؟
إني أشك في ذلك بل أكاد أكون متأكدة سلفاً من عدم الموافقة...
واستمر جدالنا طويلاً حتى حسمته أخيراً بقولها:
ـ انتبه الآن لدراستك وأجّل الحديث في هذا الموضوع حتى تتخرج.. ودعنا ننعم بسعادة هذه اللقاءات.. ثم قامت وأدارت الجرامافون وأسمعتني موسيقى كنت أحبها.
وقاطعه ((عاصم)) و ((قاسم)) معاً قائلين:
ـ لقد كان قرار ((لوسي)) قراراً حكيماً يا ((سالم)).
وأردف ((قاسم)) قائلاً:
ـ إني أقدر موقف ((لوسي)) وبعد نظرها، فموافقة والديك مثل العصفور على الشجر قد تصيبه وقد لا تصيبه وهي لا تريد أن يفوتها قطار الزواج...
ويمسك ((عاصم)) بيد ((سالم)) ويقول:
ـ هيا ارتد ملابسك ودعنا نخرج من هذا الجو الخانق إلى مقصف الجامعة نستمتع بحديقتها الغناء ونسيمها العذب العليل.. أليس كذلك يا ((قاسم))؟؟
ـ بلى.. بلى.. هيا فإني بحاجة إلى كوب من الشاي وأنت من القهوة؟ ويقيني أن ((سالم)) بحاجة إلى مثل ذلك.
وخرج الجميع، وفي الطريق قابلتهم ((ماريا)) وكانت قادمة للاطمئنان على ((سالم)) فلما رأته معهم ابتسمت وقالت:
ـ إنك بخير.. شكراً لله..
فشكرها ((سالم)) وحياها الجميع ودعوها لتناول الشاي والمرطبات معهم في مقصف الجامعة فرحبت بذلك. وقضى الجميع وقتاً طيباً سرى عن ((سالم)) أحزانه وهدهد آلامه وأحيت معاملة ((سالم)) ((لماريا)) في تلك الجلسة بعض الآمال التي كاد اليأس أن يعصف بها.
ومرت الأيام وبدأت جراح ((سالم)) تندمل، وكان لحنو ((ماريا)) وعطفها الفضل الكبير في ذلك.
وتخرج ((عاصم)) و ((قاسم)) في كلية الطب فاقام لهما ((سالم)) حفلة عشاء في أحد فنادق المدينة دعا إليها الدكتور ((فوخر)) وحرمه و((ماريا)) طبعاً وبعض الأصدقاء، وقد تألق جمال ((ماريا)) في تلك الحفلة بشكل استحوذ على لب المدعوين، وكان ((سالم)) يشعر بالغيرة كلما اقترب أحد المدعوين من ((ماريا)) حتى ((عاصم)) و ((قاسم)) لم يفلتا من غيرته ولا سيما عندما راقصاها.
وانتهت الحفلة وعاد ((سالم)) إلى غرفته وقد أيقن أن نذر عاصفة حب جديد ستجتاحه، واسترخى في فراشه يفكر ويفكر حتى غلبه النعاس فراح في سبات عميق.
ودع ((سالم)) صاحبيه ((عاصم)) و ((قاسم)) وقد عادا إلى وطنيهما وخلفا فراغاً كبيراً في حياة ((سالم)) شعرت به ((ماريا)) فحاولت جاهدة سده بعطفها وحنانها وملازمتها ((لسالم)) كلما وجدت سبيلاً إلى ذلك. ولئن تأثر ((سالم)) لفراق ((عاصم)) و ((قاسم)) فقد أزاح ذلك عن طريق ((ماريا)) عذولين كانا يستأثران بأوقات ((سالم))، وهكذا خلا الجو لها فطفقت ترسم الخطط للاستيلاء على قلب ((سالم)) وأول تكتيك وضعته وشرعت في تنفيذه هو إزالة آثار حب ((لوسي)) من قلب ((سالم)) نهائياً، وما كادت تبدأ حتى فوجئت بِـ ((سالم)) يكلمها على انفراد قائلاً:
ـ ماريا..!!
ـ أجل يا ((سالم))..
ـ سأتوجه إلى لندن..
وأظلمت الدنيا في عيني ((ماريا)) وكادت تسقط على الأرض من هول المفاجأة، لولا أن ((سالم)) أحس بذلك فأسندها إلى ساق شجرة كان خلفها، ثم طوقها بزنده ووضع رأسها على كتفه وسألها.. ما بها فأجابته:
ـ لا شيء.. ربما سفرك المفاجىء سبب ذلك.
فطبطب ((سالم)) على وجهها ثم أخذها إلى أحد المقاعد المنتثرة في حديقة الجامعة، فجلسا وابتدرها قائلاً:
ـ أتخشين عليً من السفر؟؟
ـ وهل عندك شك في ذلك؟
ـ لا، ولكنني أظن أن ما اعتراك هو يقيناً خوفك عليً من السفر بالإضافة إلى خوف آخر.
فقاطعته قائلة:
ـ ما هو؟؟
ـ لن أقوله لك...
ـ إذاً أنت تخفي عني شيئاً هاماً..
ـ ربما.. ربما..
ونهضت من مقعدها وقالت محتدة:
ـ لم جشمت نفسك بإخباري عن عزمك على السفر إلى لندن ما دمت أنا غير مؤتمنة على أسرارك ونواياك، ثم استدارت محاولة الانصراف فأمسكها وأجلسها بقوة وقال:
ـ كنت راغباً في إثارتك حتى أرى مبلغ مالي عندك...
اِسمعي يا عزيزتي: أريد التوجه إلى لندن لحضور حفل إكليل ((لوسي)) فهل عندك مانع؟؟
ـ وما دخلي في ذلك؟
ـ أتظنين أنني مغفل حتى أصدق أن ما اعتراك هو بسبب مفاجأتي لك بعزمي على السفر إلى لندن.. فقط لا غير..؟!
ـ إذاً، ما هو سبب ما اعتراني؟؟ قل.. بصراحة..
ـ كنت تعتقدين أن سفري إلى لندن هو لكي أعيد ما انقطع من حب بيني وبين ((لوسي)).. لقد صارحتك فأجيبي أنت بصراحة: أليس هذا هو السبب الأهم في ما اعتراك من إغماء؟؟
فغضّت ((ماريا)) طرفها خجلاً وقالت:
ـ أجل.. أجل يا ((سالم))...
ـ إذاً، فمن حقك عليً أن أسألك: هل عندك مانع في سفري؟...
ـ لا.. وأرجو لك سفراً سعيداً وعوداً حميداً..
ـ إذاً، هيا بنا إلى كوبين من عصير التفاح نريح بهما أعصابنا المتوترة..
وتوجه ((سالم)) إلى لندن وكانت ((ماريا)) في وداعه، فحضر حفلة إكليل ((لوسي)) وكان العربي الوحيد بين المدعوين. وقد احتفى به أهل العروسين..
وعاد ((سالم)) محملاً بالهدايا ((لماريا)) ولعمها الدكتور ((فوخر)) وزوجه، وكان الجميع مسرورين بعودته وبهداياه وانتظموا جميعاً حول مائدة أعدتها ((ماريا)) في شقتها احتفاء بعودة ((سالم)).
وتطورت العلاقة بين ((سالم)) و ((ماريا)) وشعر كل منهما أن لا غنى له عن الآخر، ونجح تكتيك ((ماريا)) في الوصول إلى هذا الهدف، وكانت سعادتها بهذا النجاح لا توصف.
وجاءت أيام الامتحانات النهائية لكل منهما في كلية الطب، وبالطبع انقطعت لقاءاتهما إلا، فيما ندر، ونجح هو كطبيب جراح وهي طبيبة أطفال. وفاتح ((سالم)) ((ماريا)) في الزواج منها فرحبت به في حال موافقة عمها الدكتور ((فوخر)) وزوجه على ذلك. فقال لها إنه سيطلب يدها منهما في الحفل الذي سيقيمه لهما احتفاء بتخرجهما، كما أنه سيكتب إلى والده يطلب موافقته على زواجه منها، فقاطعته ((ماريا)) قائلة:
ـ هل أنت واثق من مباركة والدك هذا الزواج؟
ـ بكل تأكيد يا ((ماريا)) ولا سيما إذا علم أنك ستشهرين إسلامك.. فهل أنت مستعدة لاعتناق الإسلام؟
ـ بكل تأكيد وأرجو أن أصارحك بأني حسبت حساب هذا الطلب، فدرست مبادىء الإسلام من بعض الكتب التي ألفها بعض الألمان المسلمين.. والبركة فيك..
وتهلل وجه ((سالم)) فرحاً وقال لها:
ـ بورك فيك: بورك فيك.. الآن أصبحت على يقين بأن موافقة والدي مضمونة بإذن الله..
وفي الحفل الذي أقامه عم ((ماريا)) طلب يدها منه ومن زوجه فرحبا به وباركاه وأذاع الدكتور ((فوخر)) النبأ بين الحاضرين في الحفل فصفقوا له وانهالت التهاني عليهما منهم...
وكان على ((سالم)) و((ماريا)) أن يبقيا في الجامعة سنة أخرى للتمرين، لأن ((سالم)) كان راغباً في الاطلاع والتمرن على أحدث ما وصل إليه فن الجراحة في ألمانيا...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :831  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج