شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رباب
لا يعرف ((مروان)).. عن أمه شيئاً، بل لا يذكر صورتها وهيئتها.. فقد ماتت ولما يبلغ الثانية من عمره. فربته امرأة أبيه، وكانت غريبة عن عائلة والديه..
كانت زوج أبيه هذا امرأة صالحة، عركتها التجارب، وصقلتها الأيام، حدبت على ((مروان)) وغمرته بواطف من حبّها وحنانها، وحب زوجات الآباء، لأولاد أزواجهن أمر نادر إن لم يكن في حكم المستحيل.
وهكذا نشأ ((مروان)) وهو لا يعرف إلا أنها أمه لفرط ما كان يلاقيه من ضروب الرعاية والعناية والتدليل، وكثيراً ما كانت تخاصم والده من أجله.
ولم ينقص حبها ((لمروان)) بعد إنجابها أخاً له، بل ازداد قوة وتمكّناً، وأنه ليذكر - فيما يذكر من فضائل هذه السيدة المحترمة - انها مرضت مرضاً خطيراً شارفت فيه على الموت، وكان ((مروان)) يدرس آنئذ في جامعة بعيدة عن وطنه، فكانت وهي تغالب سكرات الموت، تلهج باسمه وحده، وتطلب - بإصرار - أن تراه قبل وفاتها.. فلم يجد والده بدًّا من استدعائه، فلما حضر، فرحت به وضمته إليها، وأشبعت خده ووجهه تقبيلاً وشما، كأنما كانت تشم مسكاً أذفر.. وكان لحضوره أثر كبير على صحتها، فقد أبلت من مرضها بسرعة ادهشت نطس الأطباء الذين كانوا يعالجونها.
وكان والد ((مروان)) موظفاً بسيطاً في إحدى المصالح الحكومية، لا يكاد مرتبه يكفي لإعاشته وعائلته عيشة الكفاف، ولولا ما كان يأتيه من وارد محدود من أملاك زوجته، لما استطاع تعليم ولديه. وكان والد ((مروان)) من النفر القليل من الموظفين الذين يعتبرون كرامتهم فوق كل شيء.. ولذلك كان حظه من الترقيات قليلاً جداً، إذ لم يرق خلال خدمته خمسة عشر عاماً إلا درجتين، بينما وصل كثير من زملائه إلى رتبة وكلاء وزارات أو وزراء.
وحدث في الوقت الذي كان فيه ((مروان)) وأخوه يدرسان، أن تقلد وكالة الوزارة التي يشتغل فيها والد ((مروان)) رجل صلف متعجرف، متكبر اسمه ((مهران)) كان يعامل موظفيه معاملة العبد، بل لا يتورع في فصل أي موظف لأتفه الأسباب.
وفي أحد الأيام دخل والد ((مروان)) على ((مهران)) هذا من دون أن يزرر جاكتته، ويلبس شعار رأسه بالشكل الذي يريده وكيل الوزارة، فما كان من ((مهران)) إلا أن سبه وأقذع في شتمه - فعزت على والد ((مروان)) كرامته، فرد الإهانة بمثلها، وكانت النتيجة - طبعاً - سوقه إلى مجلس تأديبي قرر فصله وحرمانه معاش التقاعد.
وساءت - يقينا - حال والد ((مروان)) المالية وأصبح لا مورد لديه إلا ما كان يأتيه من أملاك زوجته، وهذا المبلغ لا يكفي لإعاشتهم وتعليم ولديه. فأسودت الدنيا في عينيه، فاليد خالية، والمورد ضحل، والجهد قليل.. ولكن الابتسامة التي كان يلقاها من زوجه هذه، والعطف والحنان اللذين كانت تغمره بهما، خففا من يأسه، وقويا معنوياته.
مشكلة خلقها الظلم المقنع بالأنظمة والقوانين، وعلى والد ((مروان)) وقد تحدى الظالم - أن يقطع تعليم أحد ولديه لمواجهة الحالة الناجمة عن فصله حتى يفرج الله كربته، ففاتح زوجته في الأمر، فاشارت باستيداع ابنها وإكمال تعليم ((مروان)) وأعطت ما عندها من حلي لبيعه، ورهنه لهذه الغاية، ثم شمرت عن ساعدها، فاقتصدت في مصروفات البيت، وعكفت تخيط الملابس ليلاً وتعطي دروساً في اللغة الفرنسية نهاراً، واستمرأت هذه الشدة راضية مغتبطة في سبيل استكمال مروان دراسته الجامعية.
ونال ((مروان)) دبلوم الطب، ولا تسل عن فرح زوج ابيه به، ونجح ((مروان)) في حياته الجديدة فوفر لهما أسباب العيشة الرغيدة الهادئة، وتولى الإنفاق على أخيه من أبيه فأرسله إلى الجامعة لاستكمال دراسته المنقطعة.
ويظهر أن سنى التقشف والكدح والكفاح التي تعرضت لها زوج أبيه، قد أثرت على جسمها الناحل، فعاودها مرضها القديم ولم تجد علاجات ((مروان)) ولا الأطباء الآخرون في رد القدر.
بكاها ((مروان)) وبكاها.. ولم يتوقف له دمع، ولم تجف له عبرة، حتى خاف أبوه على صحته، فما زال به هو واصدقاؤه يهونون عليه الأمر، ويد الزمان كفيلة بمسح الأحزان مهما عظمت، فعاد ((مروان)) ينتظم عمله..
وذاعت شهرة ((مروان)) ولمع اسمه في عيادته، فزاد دره وكسبه، وجاهه وعزه، على أن ذلك لم ينسه زوج أبيه، فكان كلما ذكرها بكى وترحم عليها، وتصدق عنها وغلبت روح الخير فيه روح الشر، فواسى الفقراء والمعوزين، والضعفاء والمساكين، وأصبح رئيساً أو عضو شرف في أكثر من جمعية من جمعيات البر والإحسان.
وبرم الموظفون وتذمروا من سوء معاملة ((مهران)) وفظاظته، وجأروا بالشكوى، وأحست الحكومة أن ((مهران))، على سوء ادارته يرتشى.. فقررت عزله ومحاكمته فأدين بالسجن ثلاث سنوات خرج منه - ربِّ كما خلقتني - وابتلاه ربه بداء عضال أكل ما تبقى عليه من ريش وعظام.. وهذا جزاء الظالمين.
وبينما كان ((مروان)) ذات صباح في عيادته، دخل عليه ((التمورجى)) وأخبره أن فتاة اسمها ((رباب)) تريد مقابلته، وتقول إنها بنت ((مهران)) وكيل وزارة (...) السابق ولكن ملابسها الرثة لا تؤيد صحة ادعائها.
وقبل أن يجيبه ((مروان)) بلا أو ((نعم)) مر بخاطره - في سرعة - فيلم استعراضي عنيف شاهد فيه تجنى والد ((رباب)) على أبيه وزوجة أبيه، وماقاسته عائلته من ضنك وجهد، وكاد - وقد استبد به الألم والحنق، أن يقول ((لا)) ولكن روح الخير تغلّبت عليه حين ذكر عبارة ((التمرجي)) الأخيرة، ولكن ثيابها الرثة، فلم يشعر إلا ولسانه يسبق تفكيره فيقول له أدخلها حالاً...
ودخلت ((رباب)) في ثوب أسود بسيط، أضفى على فتنتها الجسدية، جلال الليل الساجي، وعلى وجهها الأبيض المصفى جمال القمر الشاحب، فبدت كملاك رحمة في مسوح أسود هو انعكاس ظلام الأيام وغياب الآلام، والعوز والفاقة..
فراع ((مروان)) هذا الجلال والجمال، ووجم وجوم المشدوه المفتون، وهي تخطو إلى مكتبه، وفي خطوها آثار النعم الزائلة.. وابتسمت كانبلاج الصباح بعد ليلة طاخية، فبددت ابتسامتها المشرقة، ما اعتراه من وجوم وشرود.. وخف لاستقبالها، ومدت يدها فصافحها، ودعاها للجلوس فجلست.
ومرت دقيقتان - قبل أن تبدأ ((رباب)) كلامها - كانت بالنسبة لها، أطول من سنتين، وتورّد خداها، وند جبينها عرقا هو التعبير الصامت عما يعتلج في نفسها من قلق وحيرة، وتردد ورهبة.. و((مروان)) جالس قبالها كالراهب المبتهل أمام تمثال العذراء. أين منطقه وبيانه، أين بديهته، وارتجاله، بل أين جرأته؟ أين.. لقد عقل الجمال الطاغي لسانه، وران على قلبه خوف مبهم، فاشتد خفقانه، حتى ليشعر كأنما كان يقوم من مقعده، ويجلس من شدة الخفقان.
وأخيراً تكلمت ((رباب)) بصوت خافت فيه رقة نامية لا تقاوم، فقالت: -
ـ لعلك تذكر والدي..
وتنبه ((مروان)) وكأنه في حلم، فأجاب:
ـ نعم...
ـ ولعلك تذكر الظروف أو سمعت بالظروف التي أحاقت به..
ثم تنهدت وأردفت قائلة:
ـ ... خرج من السجن ليستقبل داء عضالاً أعيا نطس الأطباء والتهم ما ادخرناه من مال لليوم الأسود..
وهنا غلبها البكاء، فأكملت عباراتها بصوت متحشرج متقطع..
ـ وقد كشر لنا الفقر عن نابه.. وتنكر لنا الناس، كعادتهم، وقد سمعت عن إحسانك وحبك للخير، ومساعدتك للضعيف والمحتاج، فجئت إليك.. أرجو أن تتكرم.. بتعييني ممرضة لديك، فإني أجيد فن التمريض، أو تتدبر لي عملا عند من تأنس فيهم الخلق الطيب والاستقامة، وإني لواثقة أنه لا يرضيك أن يجرفني تيار الحاجة إلى عمل غير شريف.
تأثر ((مروان)) من كلامها، وتجلى ذلك بأجلى مظاهره حين أجابها:
ـ ((إني ليحزنني ما وصلت إليه حال أبيك، وأنها لغمة أرجو أن يكشفها الله عنكم وأن يمن عليه بالصحة والعافية.. ثقي يا آنسة ((رباب)) أني سأفعل المستحيل لإيجاد عمل شريف لائق بك.
ثم نهض إلى مكتبه وحرر لها شيكا وناولها اياه قائلاً..
ـ هذا شيك بمبلغ بسيط من ولد إلى والده ليستعين به الآن، وغداً صباحاً، إن شاء الله تعالي إلي لعلي أكون وجدت عملاً يليق بك.
فشكرته وانصرفت وعيناها تنطقان بعرفان الجميل.
وشغلت ((رباب)) أفكار ((مروان)) طيلة ذلك النهار - وعندما عاد إلى البيت مساءً، أخبر والده بكل شيء.. فربّت على كتفه وقال له:
ـ لقد عملت ما كان يجب أن يفعله كل رجل شريف وإني لفخور بما فعلت..
ثم سأله أن يصف له ((رباب)) فوصفها ((مروان)) وأطنب في وصفها، فأدرك والده أن ((كيوبيد)) أصاب ابنه بسهمه، فقاطعه قائلاً:
ـ ما رأيك يا ((مروان)) في الزواج منها؟؟
ـ سيكون من حسن حظي يا أبتاه..
ـ عندما تأتيك غدا قل لها إنك ستزورها هذا المساء لاطلاع والدها على تفاصيل العمل الجديد..
فقبّل يد والده، ولم يصدق متى يطلع النهار..
أما ((رباب)) فذهبت من عند ((مروان)) وأطلعت على كل شيء، واذا بعينيه تغرقان في الدموع، فيفجؤها الموقف، ثم لا تلبث أن تثوب إلى رشدها فتسأله:
((لِمَ تَبْكِ))؟ فيجيبها؟
ـ ان ((مروان)) يا بنيتي يجزي السيئة بالحسنة وهذه صفات النبلاء.. ثم سرد لها تفاصيل إساءته لوالد ((مروان)) فتأثرت ((رباب))، وعظم ((مروان)) في نظرها أكثر مما تركته زيارتها له اليوم..
وفي الصباح التالي زارت ((مروان)) وأفهمته أن والدها أطلعها على كل شيء وأنها ترى أنها لا تستحق كل هذا العطف منه، ثم ناولته الشيك قائلة:
ـ هنالك من هم أحق بعطفك، أما أنا وأبي فلا..
ـ ما كنت أقصد بعملي هذا الإساءة إليك، ثم ما ذنبك أنت، لقد أكل والدك الحصرم وأنت تضرسين..
فبكت ((رباب)) حتى كادت تنفطر من البكاء، وهو يحاول تهدئتها بكل وسيلة.. وأخيراً ابتسمت، وقالت:
ـ ما أعظمك!!
ـ فأجابها:
ـ أنت ملاك أرسله الله للتوفيق بين عائلتين حفرت تفاهات الحياة هوة سحيقة بينهما، لقد وجدت عملاً يليق بمكانتك، ومكانة عائلتك، وسأكون ووالدي هذا المساء عندكم لاطلاع أبيك على التفاصيل..
فابتسمت، وشدت على يديه شاكرة، وانصرفت وهي تقول:
ـ إلى اللقاء..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1071  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.