شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هي للمجنون (1)
أمتعني كثيراً ما قرأته بعنوان (خواطر مشتركة) في العدد الرابع من المجلد الواحد والعشرين من "منهلنا" الأغر للأديب السيد صالح السليمان الوشمي (ببريدة).. عن (النقد) أولاً - وعن (الجزيرة مفخرة العروبة) ثانياً - وثالثاً تساؤله - وهو يعلم - شأن العلماء الراسخين والأدباء البارزين عن صحة نسبة الأبيات الشهيرة التي تتمثل بها الأجيال العربية عصراً بعد عصر منذ قرون طويلة وهي:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
فقد زادني مسراك وجداً على وجدِ
إلى أن يقول:
وقد زعموا أن المحبَّ إذا دنا
يملُّ وأنَّ النأيَ يشفي من الوجد
بكلٍ تداوينا فلم يشف ما بنا
على أن قربَ الدارِ خيرٌ من البعدِ
على أنَّ قربَ الدارِ ليس بنافع
إذا كانَ مَنْ تهواهُ ليس بذي ودِّ
وقد رأى سيادته في كتاب (مواسم الأدب) للسيد البيتي - وفي كتاب (النهضة الأدبية لمؤلفه الشنقيطي نسبتها إلى ابن الدمينة.. كما قرأ في (سلسلة الثقافة العربية).. للأستاذ فؤاد شاكر نسبتها إلى (ابن الطثرية) (2) مع بعض الاختلاف في الأبيات.
وأبدى أنه يظن أنها لمجنون ليلى وحده وليست لسواه ودلل ذلك بقوله فافاه الله: "وذلك لوجودها كاملة في ديوانه الذي جمعه أبو بكر الوالبي وأرخ الناسخ انتهاءه من استيعاب مليحه.. واستقصاء صحيحة في أواخر شهر جمادى الآخرة من سنة 792 هـ أي قبل نحو ستمائة عام تقريباً - وأنها لا تصح أن تكون من باب توارد الخواطر إذ هو غالباً ما يكون في الصدر أو العجز.. وقد يرتقي إلى البيت.. وأملي عليه حبه للحقيقة - وأحبُ أن أعلق على ذلك بما تحقق لدي فيه. رغم أنه أوسع اطلاعاً - وأفسح باعاً.. وأجـرى يراعاً..ولكنه فرط الأدب الصحيح.. والخلق السجيح.
واستجابة لرغبته الكريمة.. وبالرغم من اعترافي بأنه يسأل وهو يعلم الجواب.. وينبه إلى الخطأ - ويقرر الصواب.. فإنني أعقب عليه بأنه على حق في ظنه.. فما يقوم المحدث المنحول.. أمام القديم المنقول.. فإن كل من نسبوا هذه الأبيات إلى غير صاحبها (المجنون).. إنما كانوا من مؤلفي القرون الأخيرة - وبعد الألف - ومن القواعد الشرعية المرعية.. "ولا يزول اليقين بالشك".
ومع أني في ظرفي الحاضر - بعيد عن المراجع.. وأشكو من أمراض شتى.. فقد وقر في قلبي.. وتأكدت هذه الصحة لنفس الأسباب الوجيهة التي أوردها الأخ السيد صالح الوشمي. بارك الله فيه.. حتى نجد بينة واضحة صريحة تحمل نفس عناصر القوة والاعتماد.. وتصح بها المقابلة بين الأصيل والدخيل.. والواهب والناهب.. بمعنى أنه توجد نسخ منسوخة ثم مطبوعة.. بتاريخ أقدم أو معاصر لنسخة (الوالبي). تنسب تلك الأبيات كلها أو بعضها إلى الآخرين وبعد ذلك أيضاً تقوم المقارنة ودواعي التمييز.. وأما وقد خلا الميدان من المنافسة أو المقارنة بين حجتين.. متماثلتين.. فإن القديم باقٍ على قدمه.. دون أي ريب أو احتمال خصوصاً وأن الرواة لا يزالون يروونها للمجنون.. وليس في ذلك أي غمط للآخرين الذين يعتز بهم الأدب العربي.. فلكل شاعر إحسانه.. ولكل أديب ميزاته وقديماً قال العرب "غثك خير من سمين غيرك" وكلهم محسن مجيد غفر الله لهم ولنا وللمسلمين.
وبهذه المناسبة - يطيب لي أن أورد واقعة حال مرت بي في هذا الشهر بالذات وهي تتصل بموضوع (توارد الخواطر).. وهي من غرائب هذا الباب.
ذلك أنني أنشأت قصيدة في تحية "ذكرى (3) ثورة الجزائر" وأُنشدت بالنيابة عني بجدة.. لانحراف صحتي.. وقد جاء فيها بيت هذا نصه:
سائل "حنيناً" وسل بدراً وسل أحداً
هل ثوع البغي إلا الصارم الخدم
وصدرت جريدة (البلاد) الغراء.. وفيها هذه القصيدة.. ولم يكن عندي أي تقدير أو تصور لتوارد الخواطر في شطر أو بيت كامل منها.. مطلقاً.
وما راعني - إلا أحد القراء - يخاطبني في الهاتف.. بأنني اقتبست الشطر الأول من هذا البيت من قصيدة (البردة) للبوصيري واندهشت: وقلت.. كيف؟ قال إنه بنصه فيها..ورجعت فوجدته.. بذاته.. إلا أنه يقول:
(وسل.. حنيناً.. وسل بدراً وسل أحداً) وكان صاحبي يريدني أن أقوس الشطر.. مادام مقتبساً أو مضمناً.. وأقسم ما كان ذلك يخطر ببالي.. اللَّهم إلا أن يكون (من مخزونات العقل الباطن) منذ عهد بعيد.. ولم يكن هذا التوافق التام إلا تحت ضغط الوزن وأنه لا يمكن بغيره جمع هذه المواقف الثلاث.
أقول هذا - تأييداً لما تفضل به أخي الصالح.. في الخواطر وتواردها.. وهي على كل حال لا تخلو من جذور عميقة شديدة الخفاء.. في الذاكرة.. وإنما تستدعيها الحوادث والظروف.. بقصد أو بغير قصد.
هذا - وأحمد الله كثيراً أن وجدنا بين ظهرانينا من يعني بالأدب.. وأهله.. وإنصافهم أحياءً وأمواتاً.. ومن يهمه أن لا يهضم لهم حق.. ولا يعتدي على تراثهم الفكري وإنتاجهم الذاتي. وحتى لو تبين - بالبرهان - إنها (الأبيات) لابن الدمنية أو لابن الطثرية.. فما هما إلا عربيان صميمان. أحسنا وأجادا في كثير من خوالج القلوب ونوازع النفوس.. وزوافر الأشجان.. ومفاخر الأوطان، وإنما هي المحافظة على حق كل منهم بمفرده.. وحيث أمطرت فإن خراجها لنا..
وأخيراً لا آخراً - أشكر الأخ صالح حسن ظنه بي وأعتقد أنه لم يزدد بهذا إلا ثقة بوجهة نظره وسداد رأيه..وإني وإياه لعلى استعداد لسماع أو قراءة أية ملاحظة صحيحة نافعة مع التمسك بما هو أجدر بالاعتبار، والله المسؤول أن يبارك في حياته.. وينفع الأدب في بلاد العرب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :413  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 619 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.