شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
علقة همشرية (1)
حمداً لله وشكراً إن كان قلمي خفيف الظل والدم في نظر أبي أسامة على الأقل أنه يطلب إلي أن أكتب لقريش آية فكرة فيها بعض مقدراتي الضاحكة في الماضي البعيد.. يريد بذلك أن أصافح بالمثل في مجلته الرائعة وجهها الضاحك أو أن تكون هي طالعة على القراء في وجه ضاحك، كأنما شعر بأن معالجة الموضوعات الجدية تزيد من التجعدات الزمنية والجسمية وأنه وإن لم يتدارك قراءه بقليل من المرح أو الفرح فإنهم ربما ضاقوا بها ذرعاً وذلك حق إلى حد كبير فإن النفوس مطايا ولا بد من الترفيه عنها أو تنقطع أو تلجأ إلى استعماله، وما أحسبه أحسن الاختيار بالنسبة لبعض من توخى فيهم هذه الميزة فرماهم عن قوس واحد غير آبه بالسن ولا بالوقار الذي يلازم الشيخوخة أو تلازمه طبعاً أو صنعاً وإن كان لا يخلو كلامه المصدر (آنفاً) من غمز ولمز مبطن فهو يقول (2) في (الماضي البعيد).. ويهدف إلى أنى محقق ظنه في تجاوزي سنه الذي أربى على لداتِه وأقرانه بما طوى من أعوام طوال وبما خلد من إنتاج قيم بارك الله فيه.
وما علينا من هذا وذاك ومالنا غير الاستجابة لما رغب فيه نزولاً على أمره ورجوعاً بالذكريات إلى عهود الطفولة الضاحكة الباسمة أو الباكية القاتمة فإن من البكاء ما يضحك ومن الضحك ما يبكي ولا حاجة إلى الأمثال ولا إلى الشواهد فإنها لا تخفي على الأديب اللبيب فضلاً عن (شيخ الصحافة) أو عجوزها المحنك ولا أدري كيف خطر على بالي تواً هذا الحادث التافه البسيط يوم كنت في سن الثامنة وأتردد على (كُتّاب) الورع المعلم القارئ (الشيخ إبراهيم فودة) رحمه الله في جبل (السبع بنات) في (أجياد) أو السبع بانات كما يحلو لآخرين أن يتأولوه لانعدام الصلة بين أسباب التسمية وبين من يستطيع توضيحها رغم التساؤل عن ذلك منذ حين طويل؟ وبعبارة أصرح وأوضح كان ذلك في أحد الأيام من أسابيع أو شهور عام 1326هـ أي قبل أربع وخمسين عاماً تقريباً (ولعلَّ أستاذنا السباعي كان يومئذ من كبار الطلاب في (الرشدية) أو الصولتية أو ما لا أدري أقول هذا من باب الاعتراف ولا أقلده في الإنكار وقديماً قال الشاعر:
في وجهه شاهد مـن الخـبر
وفي عصاري كل يوم نخرج زرافات من كتاب (سيدنا) وننحدر في ركض هادئ وأدب معقب لنستمتع بالصوت الموسيقي الحنون ترجعه الآلات الموسيقية في (قشلة) أجياد أي (التي أصبحت في العهد السعودي داراً لوكالة المالية ثم لوزارة المالية) وهناك نتزاحم أفواجاً على نوافذ الغرف السفلى التي كانت تصدح فيها هذه الموسيقى الجميلة.. ثم تستعرض بعض الفرق العسكرية التي تقوم بالتمرينات المسائية في تلك الساحة الواسعة. وتلف وتدور وأمامها الموسيقي التي كانت تتألف من طاقم ضخم عظيم وينتهي المطاف بالجنود إلى الوقوف وترديد النشيد الهمايوني (بادشاهم شوق يشا) ومن ثم تنفض الجموع ويأخذ الأولاد أو الأطفال أو التلاميذ طريقهم إلى منازلهم وفي اليوم الموعود ويا له من وعد لم أزل أذكره ضاحكاً من مقدماته ونتائجه توسطنا الشارع الكبير المؤدي إلى المسجد الحرام والذي يقابل (أمانة العاصمة) عائدين إلى بيوتنا وكان الوقت بعد العصر والشارع يكاد يكون خاوياً على عروشه من المارة وكان رفيقي في الحركة والسكون والذهاب والإياب (نديد) لي وابن عمه يدعى (على أبو زيد) ما يزال يعيش ويحيا في (مصر القاهرة) الآن وله صوت حسن رخيم.. ولمحت وإياه شجرة يانعة تتدلى منها عناقيد (المخيط) على يسار المتجه إلى (الحميدية) وكان من النضوج والاستواء والخصب والوفر والعرض والطول بحيث يغري كل من رآه بالاجتناء منه، فهو حلو لذيذ الطعم وربما كانت له فوائد طبية جمة لا يحيط بها إلا الدكاترة (المختصون) أمثال سعادة المدير العام لوزارة الصحة أخي الأديب الكبير الأستاذ الدكتور حسن نصيف أو الدكتور المحاضر والنطاسي المجرب الأستاذ (حامد هرساني). والتفت إلى رفيقي وقلت: يا علي أنظر كيف لا نجتني خصلة من هذه العناقيد المتهدلة؟ وما كان شغفه بذلك أقل مني فقال: هيا ومافش أحد يشوفنا، ولأمر أراده الله صممت على فكرة ليست من الاحتيال أو المكر أو الخداع المقصود لأنها كانت (بنت الساعة) ومرتجلة وبطبعي أصدف عن هذا الخلال وأزدري من يتصف بها لأنها دلالة بارزة على سوء الطوية ولكنها لسوء الحظ لم تؤول إلا بها لملابساتها. قلت: لعلي: شوف يا بويه أنت أخف مني حتى في (لعب الحنكر والكبد والبارجوه) وأنت أطول مني قامة ولا بد من التعاون على (التقوى) أي الاتقاء في واقع الحال. قال: يعني تبغاني أنا اتشربط وأنت تأكل؟ قلت: لا يا أخي أنت ترمي من فوق.. وأنا أجمع في (الإحرام) من تحت وبعدين نتقاسم الغنيمة مناصفة (ولا ينسى القارئ) أن (الكوم) من (المخيط) نفسه ومن (النبق ومن لوز الني) كان من الوفرة والكثرة والرخص بحيث يباع ما يزن نصف أقة أو نحوها بهللة أو هللتين فقط لا غير ولكنه الصيد والقنص. ولم يضع الوقت مع علي في التشاور والتفاوض ورضي أن يقوم بالتسلق والتعلق وأن أقوم بالجمع واللف وتوكل على الله وباشر مهمته وقبل أن يبتدئ في القطاف أو القطع وقبل أن أتلقى منه أي ثمرة لحظت عن بعد أحد العساكر الهماشرة (الأتراك) قادماً من جهة القشلة يعدو عدواً ويركض ركضاً رغم أن قدمه كانت تحمل جزمة لا يقل وزنها عن ربع طن بحري أو تجاري، وكان الهمشري أرناؤوطاً أزرق العينيين عملاقاً يستطيع أن يتناول بيده (قاعداً غير قائم) بأحسن من موقعه على الشجرة وكان قدومه مصوباً جهتنا وأدركت أنه لا يقصد غيرنا وأنه حانق على تصرفنا وربما كان ذلك ناشئاً عن احتكاره لهذه الثمرة وبيعه لها ببضع قروش تسد له فراغاً في جيبه نظراً لما اعتاده وزملاؤه من الصبر على استلام الراتب أسابيع وأشهراً عديدة. ورأيت أن الوقوف في وجهه مع عملاقيته وحماقته و (لسطورته) التي طال عليها الأمد وضربها الصدأ من عدم الاستعمال في ميادين القتال (بالقفقاس) أو جبال الأوراس إنما يكون في عرف العقلاء والأذكياء ضرباً من الجنون وتعرضاً للبلاء وتعفيراً للجباه وتشقيقاً للثياب وفي لمح البصر كنت قد قفزت أو وثبت (كما يختار أستاذنا العطار) طالباً النجاة من هذا المارد المسلط وفي نفس الوقت كان أخي المعلق (بقيقة) قد أدرك بالسليقة وكان طويلاً وفطناً جداً أنه الضحية التي لا مناص منها وأنه مهما حلف أو أسف فلا بد له من اللكمة واللطمة والكف، وارتفع مهرولاً إلى أعلى الشجرة وارتكز في أقوى أغصانها احتمالاً ومثل دور غزلان (كرى) في ارتباكه واستكنانه ولم تفت الهمشري الوسيلة لإدراكه فتناول من أغصان الشجرة غصناً لدناً طرياً وأخذ يهمزه به ويغمزه و (فين يوجعك) حتى اضطر إلى الهبوط وهو يستغيث ويحلف بمن رفع السماء ودحى الأرض أنه بريء وأن هناك الذي شرد هو صاحب الفكرة وهيهات فقد كنت أويت إلى ركن شديد ودخلت إلى دار (أبي سفيان) التي أطمئن بها أبو أسامة بل إلى (المسجد الحرام) الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً وكان من جملة غنائم الهمشري (نعل) علي وإحرامه، وأقبل إلى المسجد ينفض في غبار الموت وقد ظهرت الخدوش في وجهه وأنفه ويديه وقدميه وكان لا بد له من القصاص والانتقام ولكنه لم يجرؤ على ذلك بين الناس وأسماعهم وأبصارهم.
وبدأ الفصل الثاني من الرواية ما بين باب (أم هانئ) و (باب دريبة) وكان (احتشاماً للمسجد) وكنا حتى في الطفولة نلاحظ الأدب والتأدب أمام الكبار أيضاً وما أن فرغنا من آخر درجة في (باب دريبة) حتى نشبت المعركة من جديد بيني وبينه فنال مني ونلت منه ما بقي أثره أكثر من أسبوع وظهر للأمهات وللآباء وللأستاذ الذي كان لا تأخذه في الحق لومة لائم وانتصب ميزان العدالة وبعد استجوابات طويلة وتحقيقات جليلة استطعت أن أدافع خلالها عن نفسي بموقفي الذي لا يرتاب أحد بأنه غير إيجابي أما هو فكان مأخوذاً بعملته.. وكانت النتيجة عبرة لي وعظة له آخر الدهر فمن شاء فليضحك؟ ومن شاء فليسخط على الشيخ العجوز هذا لا يستريح ولا يدع الآخرين يستريحون وكأنه إنما خلق ليترك وراءه دوياً في الصحافة والقصص والفكاهة والأدب والأخلاق والتعليم والتجمم، والتقويم والتهويم ومالنا وللشعر المطلق أو النثر المقيد فما على النفوس أشد وطأ من الإكثار والإملال ممن فترت هممهم وتقوست ظهورهم وتثلمت أقلامهم والخير كل الخير في الشباب الطامحين والله يحب المحسنين.
أعود فأقول: إنه بعد أن صدرت جريدة (القبلة) بمكة وبعد أن قرأ الناشئ يومئذ تلك الكلمات المرصوفة على غير عهد بها منهم وأطلعوا على الأساليب الجديدة في الكتابة وتأثروا بالحماس البالغ الذي كان يلازم الكاتبين بالنسبة لروح الثورة ضد الأتراك الذين امتهنوا كرامة العرب وحملوهم على خلع نير السلطة التركية وبعد أن كان الجو فسيحاً أمام بعض الطامحين الذين استهواهم أسلوب الخطيبين (فؤاد ومحب الدين) وبعد أن أمكنهم الاستماع إلى الخطب الصاروخية التي كان يلقيها المرحوم الشيخ محمد كامل القصاب والشيخ فؤاد الخطيب، وبعد أن أنشئت في البلد المدارس الحديثة البرامج بما فيها الرياضة وترددت أصداء الأناشيد الحماسية العربية بعد ذلك كله بالإضافة إلى الاستفاضة في المطالعة إذ بدأت المؤلفات المطبوعة القديمة والحديثة تتوارد ويتيسر وجودها في أيدي بعض ذوي الثراء ومتوسطي الحال من النشء المتعلم نوعاً ما رغم غلو ثمنها وعلو سعرها فما تم طبعه في (مصر) أو الشام سابقاً ولاحقاً أخذ الشباب أو على الأصح بعض الشباب يتكيف بالصبغة الجديدة التي لم يكن له بها عهد قط. وبدأ يحاول التمثيل والاقتفاء وما من شك أن لهم من ذكائهم وحيويتهم ما يسمو بهم إلى كل مستوى عالٍ رفيع، ومن هنا كانت الشرارة الأولى التي انبعث منها كوامن الجيل الصاعد الطموح فتوفر على قراءة الصحف والمجلات وأحاط بما لم يحط به من قبل في نهم وجوع ولهف وظمأ كل ما وقعت عليه عيناه أو لمسته يداه، وكانت (المطابع) إلى ذلك الحين لم تقذف بغير الطيب دون الخبيث واستمر هذا التطلع والتدرج في النمو والاضطراد حتى لأتذكر أن صديقاً عزيزاً من الشباب يعرفه شخصياً الكثيرون من لداته وأقرانه الأحياء يسمى (السيد عقيل العطاس) وكان يسكن بباب الطبي بمكة لم يكفه هذا الشوط أو الأمد بل إنه كان يصدر وهو من طلاب مدرسة الفلاح حينئذ ولم يتجاوز السادسة عشرة من عمره مجلة بخط يده الجميل تسمى (الارتقاء) ويتناول فيها بعض المواضيع التي لا ترقى إلى السياسة ولا تنحدر عن الأدب إبقاءاً عليها أن تموت قبل أن تولد، وشاهدي على ذلك من أدبائنا الأحياء الشيخ (عبد السلام كامل) وكانت داره (ندوة عامرة) بكل متأدب في ذلك الحين. وفي الحقبة نفسها كانت هناك في الأوساط الأدبية بجدة حركة يغذيها وينميها حضرة صاحب السعادة الشيخ محمد حسين نصيف بكل ما أوتي من فضل ومال وجاه وعلم وأدب بحيث أن مكتبه ومكتبته العامرتين كانا ملاذ كل كبير وصغير من طلاب الثقافة والمعرفة وإذ ذاك بزغ نجم (الأستاذ الكبير محمد حسن عواد) و (الأستاذ حسين محمد نصيف) و (الأستاذ بكر ناظر) ومن سار على طريقهم من أوائل الناجحين والبارزين، ومعذرتي أولاً وأخيراً إلى الذين سهوت عن سرد أسمائهم وإحصائهم مع طول المدة فإن التاريخ كفيل بتدوين مجهوداتهم المشكورة، وكانت مدرسة الفلاح بمكة ذات انطلاق عظيم بأساتيذها المختارين وطلابها النابهين وعلى رأسهم وقطب الرحى منهم في هذا المجال فضيلة المرحوم السيد محمد طاهر الدباغ وكان جذوة متقدة من الحماس والغيرة والنشاط مع البشر والطلاقة ومكارم الأخلاق فما مضى عام أو عامان من النهضة حتى كانت منابرها تنصب في داخل المدرسة وخارجها لإقامة حفلات سنوية أو دورية يحضرها الرسميون من رجال الدولة والشعبيون الذين هم آباء وإخوان للطلاب فيرون منهم وفيهم ما لم يخطر لهم على بال من فصاحة وبيان وخطابة ذات أغصان وأفنان.. وأذكر أنه كان من أبرزهم وأكسبهم لرضاء الجماهير الأستاذ (عبد الوهاب الآشي) والأستاذ (المرحوم عمر جميل عرب) والمرحوم الشيخ عمر صيرفي والشيخ مصطفى أندر قيري والشيخ عبد القادر عثمان فهؤلاء وزملاؤهم من الطبقة الأولى التي كان لها السهم الوافر في بعث روح التنافس على الأدب والتأدب ونضج فريق آخر من المدارس الأخرى ذات العراقة في البلد كالفخرية والصولتية والخيرية ثم (الراقية) فأثمرت البذور وأورقت الغصون وكادت أن تؤتى أكلها بإذن ربها لولا ما غشي الأفق من سحب داكنة أسفر بعدها الصباح.
وفي الفترة ما بين عام 1337 وعام 1343 وفد على البلاد شعراء وأدباء وعلماء من شتى الأقطار العربية الشقيقة وقرأ لهم النشء المتطلع وسمع ارتجالهم وهم يخطبون وأصغى إليهم وهم يتحدثون فما لبث أن تأثر بكل ذلك محمولاً عليه بطبعه وواقعه وهنا لا بد من تقرير حقيقة لا يجوز السكوت عنها ومن الحق والإنصاف إثباتها وهي أن نخبة ممتازة من الرواد الأوائل وفي مقدمتهم معالي الشيخ محمد سرور الصبان والشيخ جميل مقادمي رحمه الله، والسيد عقيل بن أحمد عطاس، والشيخ محمد سعيد العامودي، والشيخ عبد الوهاب الآشي والشيخ حمزة شحاته، والشيخ محمد حسن عواد، والشيخ محمد بياري، والشيخ أبو بكر ناظر، والشيخ عبد القادر عثمان، والشيخ عمر عرب، والشيخ مصطفى الأندر قيري، كانوا الأعلام والصوى في هذا السبيل ومن خلفهم تواردت المواكب وقت بعث القوافل حتى يومنا هذا ولا أحصر فيهم وحدهم كل ذلك فلهم أشقاء وأصدقاء وجنود مجهولين كثيرون.. وناهيكم بالإنتاج العظيم الباهر الذي أصدرته مجلة المنهل الغراء خلال ربع قرن مضى حتى الآن وما بذله صاحبها ورئيس تحريرها المفضال الشيخ عبد القدوس الأنصاري من جهود عظيمة موفقة في الحقلين الأدبي والعلمي وربما شارك قسم منهـم فيمـا يكتب إلى ذلك الحين في الجريدة الوحيدة أو فيما بينهم من الرسائل والمساجلات والمسامرات كلما أتيحت لهم فرص اللقاء والاجتماع وما أكثرها في ذلك العهد في (القيلات والسمرات) وهما كل ما كتب لهم أن يستمتعوا به من وسائل اللهو البريء. ومن المفروغ منه أنه كان هناك حفز عظيم وتشجيع كبير من جانب الكبار وآباء الطلاب وأوليائهم ليبرزا ويظهروا ويمتازوا ويتقدموا ويكونوا رجال الغد المرموق والمستقبل الباهر بل وليشغلوا المناصب والمراكز التي لا بد من تملئتها بالمواطنين.
ومن بعد عام الأربعين ظهرت بواكير الإنتاج الأدبي في دورها البارز المطبوع وكانت أولى هذه البواكير ما أخرجه للناس في حلة قشيبة ترفل في الحلل وتميس في الحلل معالي الوزير الشيخ محمد سرور الصبان في كتابه (أدب الحجاز) وكتابه المعرض الذي تلاه والشيخ محمد سرور هو قطب الرحى للنهضة الشعرية في هذه البلاد ثم في عام 1344هـ على ما أتذكره أصدر الأستاذ العواد كتابه الذي كان له الصدى المعروف في جميع الأوساط (خواطر مصرحة) صحيح أنه كان فيما بين ذلك إرهاص بالبعث وتوفز وتحفز وإعداد واستعداد وطموح وتطلع ودرس وتخير وإنتاج يحتفظ به أصحابه وراء المكاتب والأدراج ولكن الفجر الصادق لم يشرق إلا في أوائل العهد السعودي حيث انطلق ما كان مقيداً وأثمر ما كان مغروساً ونمى وآتى أكله ضعفين والحمد لله. وبعد فقد كنا في أول عهدنا بالحياة لا نفهم من الأدب ما يفهم الطفل الناشئ في هذا العصر.. بل كنا نفهمه على أنه التهذيب قبل الكتابة والخطابة ثم تطور ذلك إلى أن أطلق حتى على عكسه يسمونه الأدب المكشوف.. هذا ما عَنّ لي أن أكتبه في عجلة وزحمة من العمل ودون تأنق ولا زخرفة استجابة لدورة أو تكليف أستاذنا السباعي.. وإني لأرجو منه في كثير من الإلحاح أن يدعني لما كلفت به من مشاغل تستوعب كل وقتي وأن لا يعرضني للنقد والصد والرد فلست بمستعد لشيء من ذلك مع ما أعانيه من انحراف في الصحة وارتفاع في السن وآسف على ما فاتني من تثقيف إبان الصبا والشباب، فقد كنا نتلقى دروسنا أو تعليمنا على الحصير وأمامنا (الفلكة والخيزران وكانت ألواحنا من الخشب وأقلامنا من البوص أو القصب وحبرنا من فتات الفحم أو اللهب، وكانت (القسوة) أبرز معالم التأديب ثم انصرفنا إلى العمل الجاد المرهق وتحمل المسؤولية والشعور بها والاستغراق فيها منذ (50) خمسين عاماً تقريباً، فعذراً يا أبا أسامة وحسبك ما أتاك ولتطمين قراءك إلى أن مستقبل بلادنا العلمي والأدبي سيواكب تقدمها السياسي والاقتصادي والعمراني وسيكون لها وكما كانت من قبل مقامها الأول بين الأمم الحية الناهضة بإذن الله. وإنه لمن دواعي الفخر والاعتزاز ما ظفرت البلاد هذا العهد الجديد منذ عام 1343 حتى الآن مما لم يكن في الحسبان ولا هو عن القدماء بالإمكان من تعليم عام وتثقيف وابتعـاث في مختلف الفنون والعلوم ومعاهد دينية ومدارس عسكرية ومدنية وجامعة كبرى ذات كليات ضخمة حافلة كطليعة لأمثالها ومن العباقرة الأفذاذ من الشعراء والأدباء من الشباب الحي العامل الطموح وما أبرزوه من إنتاجهم الثري المتدفق شعراً ونثراً وتأليفا ونقداً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :516  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 614 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.