شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
يقظة الشعور في البلاد المقدسة (1)
لا جرم أن للتطور العام في البلاد الشرقية كافة أثراً بارزاً في الحياة الحجازية، لا يتغاضى عنه إلا من أصماه الغرض بسهامه وسد سمعه بصمامه، ولو شئت أن أعرض على الجمهور صورة ناطقة من هذا التدرج الذي بدأ الناس يشعرون به في الحجاز وعلى الخصوص هذه البقعة الطاهرة بطريق الوصف والتعبير لكان بلا ريب أقل بكثير مما تقوم به دلائل الحس والمشاهدة من بينات الحركة والتطلع إلى الأرقى بين كل فترة وأخرى في هذه السنين التي أعقبت الحرب الكبرى.
وإني إذا ما طرقت هذا الموضوع لا أحاول أن أستوفيه ولا أطمع بالتوغل فيه لأنه واسع المجال، ولكني أريد أن ألمَّ به وأفيض من غربه بقدر ما أرجو فيه تشجيع المثابر الآمل وأرجى به الآيس العاطل.
ما كانت الأمم.. الحية اليوم مثلها بالأمس في جميع مظاهر قوتها وبواهر حضارتها فقد ظلت تكافح الغير وتجابه المشاكل وتقدم أغلى الأثمان من الجهد والمثابرة عصوراً طويلة وقروناً عديدة حتى تمكنت باتحادها وتكاتفها وثباتها من امتلاك ناصية هدفها الأسمى وغايتها العظمى في هذا العهد السحري بما ابتكرته من مجالي الاختراع وزفته من عرائس الإبداع.
والحجاز لم تسر فيه روح الحياة ولم يتشوف لدرجة يعتليها ولا ثمرة يجتنبها بالمعنى الصحيح إلا بعد أن مسه الألم وصكته قوارع الخطوب وهزته فواجع الصروف فاستيقظ من نومته، وانبرى لنوبته وازدرى موقفه الوضيع بين شعوب هذا الجيل.
هنالك أخذ الشعور ينمو بين طبقات الأمة وتذوق الحجازيون لذة العمل ورأوا أمام أبصارهم ما كان محجوباً من أسباب الحياة الحديثة وأقلعوا جيادهم ومدوا في خطاهم ولكن عاقهم عن الانطلاق ما قيدتهم به أغلال الماضي وخلو الوفاض وركون النفوس منذ عصور إلى الراحة والإخلاد إلى الدعة والسعي وراء العيش البسيط من سبل ضئيلة الفائدة خاملة الذكر كأنما نحن في نجوة عن هذا العالم المصطخب بجهود البشر في جميع وجوه الحياة.
ولعمري إذا تأوهت الشعوب في الشرق والغرب مما التهمته ألسن النار وحمم البارود في سنوات الحرب العامة وكان منها هذا القطر المجدب الذي استمرأ في غضونها الكلأ وأستصبح بنجوم السماء وهوت به الفاقة إلى وهدة الفناء فإن لهذا البركان الذي انفجر فأتى على الأخضر واليابس حتى في أخصب بقاع الأرض، حسنات في الحجاز أذكرها بمزيد العجب والطمأنينة لنتائجها.
وإذا تكلمت عن الحجاز فإنما أعني به - حواضره العامرة - لا بواديه الشاغرة - .. فإن لهذه القبائل من الإعراب، حياة هي حسرة الألباب وعبرة الأعقاب (وذلك قبل أربع حجج فقط أما اليوم فهم وإن كانوا مثال السكينة والوفاء بفضل الله تعالى ثم بحسن السياسة العادلة الصارمة فإنهم بحاجة شديدة إلى أن تنظر إليهم عيون المصلحين وتمد إليهم الأيدي المنقذة من وهاد الجهالة كما هي الآن تعمل هذا العمل المجيد في الحواضر).
فما استفاد الحجاز من الحرب الكبرى تنبه الشعور العميق بضرورة السعي فيما ينفس من كربته ويخفف من محنته وينهضه من كبوته ويعيد إليه سالف عزته ورفيع سمعته، فاضطلع التاجر بأعبائه وتثمير ماله وإنمائه، وانصرف أغلب السكان يتطلبون الرزق من كد اليمين وعرق الجبين، وتفتقت أكمام المدارس عن زهرة من الناشئة تضوعت برهة ثم ذبلت واستشعر فريق وخزات الضمير تقص مضاجعهم التي ألفوها فتحولوا عنها بحكم التطور القاهر ونزعوا إلى استخدام عقولهم والاستفادة من مواهبهم وميولهم وما هو إلا أن شمروا عن سواعدهم واستووا على طريق العمل حتى تحولت بهم الظروف إلى الانزواء مرة أخرى.
ثم تغلبت دواعي الخير في قلب الجزيرة وحلق (صقر العرب وعزيزها) (2) على هذه البلاد المقدسة فرفرف العلم العربي الأخضر على ربوع طالما افتخر التاريخ بما سطع في أرجائها من أنوار الرسالة والهدى والعلم فعم بضيائه مشارق الأرض ومغاربها وتحدر من أصلاب أهلها بناة العظمة والمجد وأساة العلم وهداته من دياجير العسف وصعقات الخسف فأهاب بهم إلى النهضة الصادقة والحياة الإسلامية المجيدة وتعاهد الراعي والرعية على أن يقوم كل منهما بدوره في حدود نفوذه وطاقته لإعلاء شأن هذه الأمة وبلوغها المنزلة التي تفرد بها سلفها العظيم المفاخر على شريطة أن يسلك الجميع سبيلهم الذي تنكب عن قياصرة الروم. وأكاسرة العجم.
وها هي البلاد لم تقطع بعد المرحلة الأولى من عهدها الجديد حتى بلغت في بضعة شهور ما تعذر عليها نواله في حلقات الدهور. أظلها الأمن برواقه الوارف فراجت المتاجر وتوطدت العلائق ونفقت السلع ونشطت حركة العمران وشهد القوم بالعين الباصرة ما كان قبل عامين من الأحلام اللذيذة والأماني المتعذرة المنيعة وتضاعف عدد الوافدين وظهرت في أسواق المدن ومعارج الطرق وأجواز الفلاة عروس الصحراء ووليدة الكهرباء تجوس خلال الديار وتدني بعيد المزار.
ثم قام الواعظ بواجبه فاستل سخائم النفوس ونزع لباس البدع وعمر القلوب بآيات الله الكريمة وسنن رسوله المستقيمة وأصبح الناس يتنادون بالقول المآثور ألا لا يرجون أحد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه.
ومن أبهج ما ترتاح إليه القلوب وتنبسط له الأسماع: أن ترى العلماء وقد حلوا الحبى وهجروا الكرى وتوسطوا الحلقات في نقطة الدائرة من " أم القرى " يؤدون الأمانة ويقرون أصول الديانة بعيدين عن سفسطة الملحدين وعسلطة الجامدين والتلاميذ يحتقبون الكراريس وينصتون للتدريس وعليهم سيما النشاط وعلائم الاغتباط يحدوهم الأمل الصادق والرجاء الصحيح مدركين مسؤوليتهم الدينية وتبعتهم الثقيلة إذا هم لم يواصلوا الليل بالنهار في الاستنارة المقرونة بالاستبشار والاستقامة المحمودة الآثار.
إلا وأن المجال قد انفسح للمتنافس وضاقت الأرض بما رحبت على المفسدين وذكت تلك الشرارة الخامدة وتحركت تلك الجثة الجامدة ودبت روح الحياة في شرايين الأمة على اختلاف طبقاتها وتطلعت إلى ما يجب أن تقوم به في سبيل المصلحة الخاصة والعامة وألقى كل فريق دلوه وها هم في طريقهم جادون وعلى ضالتهم ينشدون، (وعند الصباح يحمد القوم السُّرى).
وقريباً ذلك اليوم الذي تتبوأ فيه الأمة أريكة السعادة بما يتلألأ في آفاقها من أنوار العلم ويرفع من اسمها في ميادين العمل يحوطها الله بتوفيقه ويمدها الملك بمعونته والله ولي المصلحين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :364  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 617 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.