شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حَول تعليم البنَات
استيقظ الشاب من نومه مبكراً.. وتثاءب في فراشه قليلاً وتمطى ثم قام بخفة ونشاط ليستقبل أحداث النهار الهامة التي كان يعد العدة لها منذ بعيد.. فقد كان يعتزم ابتعاث صغاره مصر ليتعلموا.. وجاهد في هذا السبيل جهاداً مضنياً حتى تكلل جهاده بالظفر..
لقي معارضة شديدة من أمه وإخوته ومن العائلة والعجب.. أن أشد معارضة وأدقها هي معارضة كبير مسؤول جاءت في شكل استفهام منكر متلطف..
قال الكبير.. لست أعارض ابتعاث الطلاب إلى الخارج لتلقي العلم.. بل أنا -كما تعرف- أول من نادى من المسئولين بضرورة هذا الابتعاث وعمل على تحقيقه.. ومصر الآن تزخر بعدد من أبنائنا الطلبة.. ولنا طلاب بلبنان وأوربا وأمريكا.. وسوف تكون لنا جامعة علمية تغنينا أو تساهم على الأقل – في سد حاجتنا إلى التعليم والمعلمين..
ولهذا فإنني لا أعترض إلا على سن الطلاب الذين يراد ابتعاثهم فيجب أن لا تقل عن الخامسة عشرة ليتسنى للطالب أن يتزود بالمبادئ الدينية الضرورية التي تحمي عقيدته.. وليتسنى له أن يتشرب بتقاليد بلاده وعاداتها فلا يؤخذ في خارجها بالبهرج والزخارف فإن من شب على شيء يعسر عليه أن يتخلى عنه عسراً شديداً.. وأولادك في سن مبكرة فلماذا تستعجل ابتعاثهم؟ دعهم يكملون تعليمهم الابتدائي ثم جئني أساعدك على ابتعاثهم.. وإلا ما هو سر هذه العجلة العاجلة؟..
ابتسم الكبير ابتسامة أيقنت من وميضها أن لا بد من التعليل المقنع وإلا فشل الابتعاث فقد كنت أعرف اعتماده وثباته على ما يعتقد أنه الحق.. وعللت له هذه العجلة بتخوفي من البيت والشارع والمدرسة وضعف إيماني بها عندنا.. فلن يجد الأطفال في بيوتهم ما يصح أن يسمى بالمدرسة الأولى للطفل كما هي الحال في الغرب وفي بلاد الشرق المتنور.. ولن يعتمد الأب إذا كان موسراً وراغباً في تنشئة أولاده تنشئة حسنة – على المربيات الصالحات..
والشارع أنكر على أخلاق النابتة وأعظم خطراً من البيت فالألفاظ النابية هي ما يصافح آذانهم صباح مساء من كل فجاج الشوارع والأزقة.. والقدوة السيئة هي ما يشاهدون فيتأثرون ويتطبعون..
والمدرسة تضم خليطاً من الصغار فتحوا أعينهم على بيوت وشوارع تعج بالجهل والتدليس وتطغى بالمقابح والسوءات.. ثم هي لا تبني الأسس بناء قوياً لان برامجها التي لا تتفق اتفاقاً مع برامج نظائرها في الخارج فلا يتماسك البنيان الذي يقوم على أساس واه.. ويصبح الابتعاث -بعد ذلك- ضرباً من العبث والضياع..
وبان الاهتمام على وجه الكبير بشكل ملحوظ، فقد كان من رواد النهضة وأركانها.. وله من مكانته الرفيعة ما يستطيع به دفع النهضة إلى الأمام وتوجيهها توجيهاً قوياً.. وقد فعل فهي تدين له بالكثير الطيب.. ولم يفلت الشاب من قبضة الحصافة المتطلعة والرغبة المجابة إلا بتقرير أودعه آراءه في التعليم الابتدائي في بلده وما ينبغي أن يكون عليه ليتيسر له أن يساير التعليم العالي للمبتعثين ولا يهدر أوقاتهم ويرهق أعصابهم لان بلدهم أحوج إلى تلك الأوقات والأعصاب..
كان الشاب يكافح في كل هذه الميادين فما يلقى مزيد عسر ولا مشقة.. بيد انه لم يقدر له النصر في ميدان النفس إلا بصعوبة فائقة ومجهود جبار.. فمنذ أن نشأ أولاده وأصبحوا يناغونه ويناغيهم شغف بهم فما يستطيع الصبر على فراقهم يوماً واحداً.. فلما عقد العزم على ابتعاثهم للتعليم قام صراع عنيف بين عقله وقلبه.. هذا يستبد به الحنو فما يريد البعد ولا يطيقه.. وذلك يرى ألا يضار الصغار بهذه الأنانية فإن الحنو الصادق هو ما جر النفع إلى من نحب لا ما حرمهم منه، فالإيثار هو طابع الحب الصحيح لا الأثرة..
وظل صدره مسرحاً لهذا الصراع الدامي حتى انتصر العقل على القلب بعد أن أثخنا بالجراح أولئك الصغار الذين يدرسون بمصر، وما برح أبوهم يمني النفس لهم بنجاح يعوضه عن أيام الفراق القاسية.. ويعيدهم إليه شباناً مثقفين يفخر بهم الأهل والوطن..
آب الشاب من مصر وقد خلف بها أشقاصاً من نفسه فلاقته بمكة وجوه مكفهرة من الأسى والالتياع.. مضطربة من الوحشة والفراق.. لاهفة على أخبار احد من الزغب الذين لا يدرون ما صنعوا في دار الغربة وهم الذين يحتاجون إلى العون الدائم والخدمة البارة والعطف المتجدد..
لقد كانوا في بيتهم وبين أهليهم ينعمون بدفء الحنان وبشاشة التدليل ورغادة العيش.. فماذا يلقون اليوم في الغربة؟
لو أنهم كانوا كباراً يستطيعون رعاية نفوسهم وتدبير شئونهم وضبط عواطفهم لهان الخطب وقل التخوف.. ولكنهم صبية رحلوا وأعينهم تفيض من الدمع وأفئدتهم تنخلع من الوجد فماذا صنعوا؟
ماذا صنعوا؟
وكانت عواطف الأب المسكين قد طال الأمد على كظمها فانفجرت وبكى فصمت الجميع احتراماً لهذه العبرات الساخنة المعبرة عن ابلغ معاني الوجد الحبيس.. وتحلقوا حوله يواسونه ويشجعونه على الاصطبار والجلد.. وكان هو كالجريح الذي لم يشعر بجرحه النافذ لمضاء السلاح وبراعة الضرب فلما برد الجرح شعر شعوراً مضاعفاً بحرارة الألم وخطورة الإصابة.. ولم يسع أهله إلا إخفاء شجونهم ومحاولة تبديل ذلك الجو المؤثر الخانق.. فسألوه في مرح متكلف عن أحوال الصغار ومدرستهم التي التحقوا بها.. وهل تعنى بهم العناية الكافية؟ وهل هم في صحة وحبور وإقبال على التعليم؟ فتجلد وأجابهم إجابات مستفيضة ومطمئنة فهو كبير العائلة ومن واجبه أن ينهض وحده بالعبء ويتصنع عدم المبالاة، بل ويشيع جو انشراح في البيت بعد أن غشيته الوحشة والكآبة..
وتصرم النهار ولف وشاح الظلام أطراف المدينة.. وأقبل عليه يسعده قدر ما تسعده هذه الطلعة المونقة.. وكان (ص) يشارك صديقه سراءه وضراءه، وقد وجد لفراق الصغار وجد أبيهم ولكنه كان اقدر منه على ضبط عواطفه وإخفائها، فبادر بالتهنئة والتبريك على ما قيض الله من توفيق فليس أمتع للنفس وادعى للسعادة من نجابة الأولاد وتبريزهم.. ولن يتأتى ذلك إلا بالتحضير والتثقيف..
واستاني (ص) قليلاًً ثم قال، لو أن لي أولاداً لما بخلت عليهم بالتربية العلمية.. ولضحيت في هذا السبيل بما أملك ولكنهن بنات فليس بوسعي أن ابعثهن.. وفرق بين الذكران والإناث في مبلغ الحاجة إلى التعليم في شتى مراحله.. فيكفى -فيما أعتقد- لبناتي أن نعلمهن هنا.. وتشقق بينهما الحديث وأفضى إلى آراء صريحة جريئة في تعليم الجنسين.. فأما الشاب فيرى أن التعليم العالي لازم للمرأة لزومه للرجل.. وأن الإنسانية لن ترقى معارج الحضارة إلا بشقيها.. فالمرأة تقوم بنفس الدور الذي يقوم به الرجل إذا نالت حظها من التعليم فتوفر على الإنسانية جهوداً وأوقات كانت تذهب بدداً في عصور الظلام التي حجرت على المرأة وحبستها دمية لمتاع الرجل وترفيهه ليس إلا.
ويتم تحضير المدرسة الأولى للأطفال وهي مدرسة البيت.. فالأم الجاهلة أو نصف المتعلمة لا تنشئ جيلاً يتغذى بالتربية الصالحة مع لبان أمه.
وأما (ص) فكان يرى الاقتصار على التعليم الأولي للمرأة.. لأن المرأة المتعلمة – في رأيه تتكبر على واجباتها وأولادها بالعناية والاهتمام.. وتغدو حياة الأسرة جحيماً بعد أن تتفكك روابطها وتتجافى أعضاؤها..
ثم إن العالم، منذ ظهرت بدعة حرية المرأة المؤسسة على التعليم العالي يعانى أزمة مستحكمة.. فالمرأة تريد مزاحمة الرجل في كل مرافق الحياة.. وهى تهجر البيت إلى المصانع والمعامل والمؤسسات فتشقى بذلك الرجل وهكذا يتعقد كل العالم بأفعال بنيه..
إنه هو القويم على أمرها، وهو الشق الخشن الذي خلق للكد والجهاد بحكم التكوين العقلي والعضلي.. أما هي فحسبها عملاً فخوراً أن تقوم على تربية الجيل وتأهيله للحياة الحرة الكريمة، فان عدت هذا الميدان إلى سواه فهي متجنية قصيرة النظر..
وضحك الشاب، فقد غدا صديقه فيلسوفاً.. إن المحاورات والإيحاءات قد أثمرت ثمارها اليانعة.. وقد كان صديقه متعة الروح فأصبح متعة الروح والعقل فيا له من سعيد..
وبددت الأيام وحشته فما عاد يشقى لفراق أولاده لذا فقد طغت فرحة الخلود والترقب الجميل على نوازع التلهف والاشتياق.. واستمرا الأولاد حياتهم الجديدة فكتبوا إلى أهليهم بسكونهم إليها واغتباطهم بها.. وذوب ذلك بقية الرواسب النفسية المتخلفة وأحالها إلى هباء.. وهكذا انتهت هذه الزوبعة العصوف..
ليس في الحياة هم منيخ لا يرحل، وليس فيها سرور يقيم.. وإنما يتفاوت الناس بمبلغ الفهم والجلادة.. وقد يكون في المكان ما يفيد للأصلح.. فالنوائب التي تعصف بالضعفاء حينما تنزل بهم هي التي تشد من عزائم الأقوياء فيقاومون ويتغلبون.. فعلينا أن نكون أقوياء، وليس كالعلم قوة وسلاحاً فإذا لم نزود أولادنا بهما ارتكبنا في حقهم وحق الوطن جريمة لا تغتفر.. علينا أن نعلمهم ونتركهم كلهم لحظوظهم في الحياة..
إننا نشاهد في بعض الأسر الراقية جنوحاً إلى استبقاء أولادهم بين ظهرانيهم بدعوى الحنو عليهم وعدم القدرة على فراقهم والضن بهم على النقلة والاغتراب وهم في غير حاجة إلى الكدح والجهاد..
وهذا اتجاه خطير يدل على قبوله أي رأي وخور في العزيمة فلن ينضج الولد المدلل ولن يستطيع الصبر على زحام الحياة ومناكبة القادرين.. وما جدوى الثروة والمجد المورث لعاجز أو جاهل وإنهما لرصيد مصنع بلا ريب.. فالعلم قد يخلق الثروات والأمجاد وينميها حتى في ظلال الفقر.. ثم هو مجد شامخ قائم بذاته ولو تفرد.. أما الجهل فلن تستطيع ثروة ولا مجد أن يرتفعا به في المقاييس الصحيحة بل قد يكون كالحلية والتجميل للعجوز الشمطاء أو الدميم المشنوء لن يزيدها إلا قبحاً.. وكثير من الشباب الذين جني عليهم آباؤهم بحنانهم القتال باتوا يعضون على أصابعهم من الغيظ والحرد على أولئك الإباء الحمقى الذين كانوا كما قال الأول..
ما يبلغ الأعداء من جاه
لما يبلغ الجاهل من نفسه
هذه واحدة.. أما الثانية فهي جناية الفقر، هذا الداء الوبيل الذي يفتك بأغلبية ساحقة من البشرية المعذبة، ففي حين أن القادرين لا ينتفعون بقدرتهم رعونة وجهلاً، فإن معظم العاجزين عن نفقات التعليم يتحرقون شوقاً إليه فتحول بينهم وبينه الحوائل.. والتعليم يجب أن يكون متاحاً لكافة الناس كالهواء الذي يتنفسونه، على حد تعبير الدكتور طه حسين ولن يتسنى ذلك إلا بإشراف حكيم مباشر من الدولة ترغم به الأغنياء على تعليم أولادهم بما يستطيعون من وسائل.. وتساعد به الفقراء كيلا تكون حسرة في صدورهم أن لا يجدوا ما ينفقون على تعليم أولادهم.. ولن يوفوه الدَّيْن إلا إذا استناروا وعرفوا التزاماتهم الكبرى تجاهه.. ومن جحود حق الوطن بل أكاد أقول من الإجرام أن لا يعمل الآباء بكل ما أوتوا من قوة لتعليم أبنائهم بمؤازرة الدولة وتوجيهها.. أو بمؤازرة وتوجيه الكتل الشعبية الضخمة التي تضطلع بمثل هذه المسؤوليات الجسام في البلدان التي قطعت في الحضارة شوطاً بعيداً..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :475  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 18
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.