شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مبَادئ وقيم
مرت الأيام بالشاب رتيبة مملة وهو يؤدي عمله الرسمي.. كان الحظ يرفعه ويخفضه فما يبالى برفع أو خفض.. كان يبكي من عمله ويحسد عليه..
قال أحد أصحابه ذات يوم.. إنك لجحود.. إن كثيراً من الشباب المتعلم يحسدك على مركزك الكبير.. فقد طويت درجات السلم وثباً فإذا بك بعد فترة يسيرة من الزمن قريب من السنام وهم يتسكعون.. فما بالك دائم الشكوى، دائم الضجر؟ كان الأحرى بك أن تثوب إلى رشدك وتطامن من كبريائك وتساير "الروتين" والرؤساء لتسعد أكثر، ولينضوي تحت لوائك عدد وفير من الشباب المتطلع المحروم..
فاشمأز الشاب من هذا الأسلوب الرخيص المجترئ وإن عذر صاحبه فإن المادة والمجد الزائف قد جرف كثيراً من الضمائر والذمم حتى أصبحت المبادئ يساوم عليها كالسلع.. وجمجم له ولم يُبِنْ فما جدوى الإبانة للائمين إذا اختلفت العقائد والأهداف بل لعلَ الإبانة تغدو خطراً على ربها إذا أثرت الزهادة والترفع ممن لا يقيمون في الحياة وزناً لغير العروض والسلطات.. ولعل في بعض وقائع الحياة ما يبكي ويضحك في آن واحد لتدخل هزله في جده.. ففي الوقت الذي يكاد فيه الشاب أن يخرج من إهابه ضيقاً بواقعه البغيض وتبرماً به نجد هذا الواقع ذا ألق وبريق وسحر وجاذبية في كثير من العيون.. وربُّه محسود يتربص به حاسدوه الدوائر، وينصبون له الأشراك.. لو أنه كان سعيداً لكان الحسد والدس ثمناً للسعادة التي ينعم بها.. أما وهو شقي بعمله راغب عنه فإنه ينوء بحملين ويتعذب ضعفين.. ورحم الله أبا الطيب حين يقول،،
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
... أني بما أنا باك منه محسود
على أن الحصيف قد يستخرج النعمة من أطوار النقم فإذا لم يكن في الوظيفة فيها ما يرى الضمير المستقيم فلعل فيها ما يرى الفكر الباحث، والطبيعة المنقبة.. وقد أخذ صاحبنا على عاتقه أن يفيد من وصفه المنحرف فائدة ذهبية تعوضه عن كمده النفسي فدرس واستقصى وخرج من الدراسة والاستقصاء ببحوث مستفيضة غذى ببعضها الصحف المحلية حيناً من الدهر، واستبقى البعض الآخر ذخراً موفوراً حتى يأذن الله له بالخروج إلى النور وعرضه على الناس آراء موفور حظه فيها من الصواب ومن الخطأ ما في آثار الباحثين الذين لم يحظوا بالعصمة ولم يظفروا بالكمال وان حاولوهما.. ومن الظريف أن الكثيرين من مرؤوسيه كانوا يعرفون عنه هذا الخلق الذي يعجب بالجراءة إذا لم يجانبها الحق.. ويشمئز من الاستخذاء والتحذلق مهما كانت دواعيها.. يعرفون ذلك ثم لا يستطيعون إلا الاستجابة لطبائعهم التي جبلت على المداهنة والرياء.. على أنه لم يسلم من نقائض البشر وعيوبهم فقد كان يستخفه الإطراء أحياناً ويقبضه النقد فيندفع مع بواعث التقليل والإغراء ويرتكب حماقات صبيانية كان بذكائه يفطن إليها فيخجل وينحى على نفسه باللائمة والتعنيف ويعيب من انحدر به إلى هذا المنحدر السحيق..
وقد ينخدع ببعض المظاهر المغرقة في الرياء فيرثى لدموع التماسيح ويكبر مسوح الرهبان.. ثم تتكشف له الحقائق العارية فإذا به أمام رهط من الأقزام المضللين برعوا في وسائل الغش والتدليس فيكون احتقاره لهم أشد وتنكره عليهم أغلظ وأعمق.
وهناك نوع من الناس كان ينعته بالذباب لهوانه على نفسه هواناً يدعو إلى التقزز.. كانوا يتكاكأون عليه وهو ذو مكانة ونفوذ. ويتظاهرون له بالود ويطرون كل أفعاله وينتحلون له مزايا ومواهب لم يتحل بها يوماً من الأيام.. وكان هو يروعهم فما يروعون.. أنهم ذباب يحوم حول العسل، عساه أن يفيد منه ويغنم.. وتضطره دواعي المجاملة آونة، أو الاستجابة للفطرة البشرية التي يستهويها المديح أن يجاملهم ويصغى إليهم.. وقد يغالط نفسه أحياناً، بأنه سيئ الظن بالناس إلى حد بعيد فلعل صدقاً فيما يقولون وإخلاصاً فيما يأتون.. ثم لا يلبث، بعد أن يدور به الفلك دورة فإذا به في موقع "استراتيجي" غير موقعه الأول إذ يعود إليه رشده فيرى الذباب وقد تطاير وانفض عنه وابتعد إلى وعاء آخر مليء بالعسل المصفى ليرتشف منه ويرتل له ترانيم الحمد والثناء.. نفس ما كان يصنعه معه من قبل..
لأنه ذباب محكوم بطبعه القذر فلا لوم عليه ولا تثريب..
قال الشاب لصديقه "ص" هل أنبئك بعجب عجاب صادفني في حياتي العملية فكاد أن يزلزل عقيدتي في الشهادات المدرسية -متوسطها وعاليها- قال له "ص" وقد فغر فاه دهشة لما يعرفه من صديقه من احترام بالغ يوشك أن يكون تعدياً لهذه الشهادات.. وما هو هذا العجب؟ لقد كنت أحسب أن يمتد تشكيكك إلى كل شيء إلا هذه "المنطقة الحرام" فما يدور بخلدي أن يتلصص إليها هذا التشكيك المتهور.. وعهدي بك تعد المدرسة معبداً لا يلجه إلا متحنث ولا يغادره إلا واصل.. فما بالك قد استبحت هذا المعبد وانتهكت قدسه فما تبالي بداخل إليه ولا خارج.. وهكذا يوحي إلي حديثك حسب مبلغي من الفهم؟
قال الشاب، حسبك فما إلى هذا قصدت.. وإنما أردت أن أقول إني كنت مبالغاً حينما قدست الشهادات المدرسية كل ذلك التقديس وحسبتها البداية والنهاية في ميزان القيم والاعتبارات.. وهى ما تعدو أن تكون مفتاحاً "للبوابة" الكبرى في حبوات الناس، فإن كان حامل المفتاح ذا مواهب تؤهله لخوض الغمار.. وخصائص تذكى فيه صوره القوة الدافعة للتبريز والتنويل.. صار في الحياة شيئاً مذكوراً، وأضحى المفتاح في يده صالحاً لفتح كل مغلق..
أما إذا كان سلبياً من تلك المواهب والخصائص فإنه لن يتجاوز تلك "البوابة".. وسيتخطاه أقوام لم يكن معهم مفتاح فلم ييأسوا بل عالجوا البوابة بلباقة واحتيال حتى انفتحت أمامهم وساروا في ميادين الحياة شوطاً بعيداً موفقاً وخلفوه قابعاً في مكانه ما يتحرك إلا بمعونة وإرشاد.
نشاهد هذا في الحياة بصور شتى وأساليب مختلفة وأمثال موفورة.. فرب شخص لم ينل من التعليم إلا لماماً قاد المتعلمين وأناف عليهم فانصاعوا له ولم يخالفوا عن أمره.. ورب خامل في المدرسة كثير السقطات أعيا أهله وأساتذته فتركوه إلى مستقبل مظلم فيما يظنون.. إذا به في معترك الحياة هِزَبْرِيُ ينضوي تحت لوائه ألوف وألوف من المثقفين ذوى الماضي الدراسي اللامع..
ما معنى هذا؟ وما هي العبرة التي نستخلصها من تضاعيفه؟
لا شيء إلا أن الشهادة الدراسية لا تعدو أن تكون -كما أسلفت- وسيلة النجاح لا غايته.. وأن حاملها قد يكون مديناً لقوتي الحافظة والذاكرة.. خِلْوَاً من ملكة الإبداع فما يجديه ما حفظه وما وعاه فتيلاً أمام ألغاز الحياة وطلاسمها التي تحتاج قبل كل شيء إلى العبقرية المبدعة والتحايل الحصيف.
ومع ذلك فلا مندوحة لنا من الدرس والتحصيل فإن العلم سلاح لا بد للسائر في مفاوز الحياة وفلواتها من سلاح يدرأ به العاديات.. وهو -أعني العلم- إن لم يخلق المواهب فإنه يصقلها ويشذبها ويوجهها بلا خلاف..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :439  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 18
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج