شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مع الشعر في اليمن
[في صيف سنة 1392هـ/ 1972م، وكنتُ حينذاك سفيراً لليمن في (لندن) زارني صديق أديب، فأمليت عليه "مراثِيَ" كنت أبكي بها بَعضَ الرِّفاق، ومقاطِعَ من "بَحرِ الدّموع"]:
فقال: هنيئاً لك
قلتُ: بماذا..؟
قال: لأنكَ تقرض الشِّعْر
قلتُ: وماذا في ذلك؟
قال: موهبة قرض الشعرِ نعمة لا يحظى بها إلاَّ السُّعداء.
قلتُ: أو الأشقياء جدّاً.
قال: كان شقاؤهم سيكون أشدَّ وأنكى بدونه، لأنَّهم به يُروِّحون عن أنفسهم، وما أظنك كنتَ ستطيق الحياة، وتمارس شتَّى شؤونها..
وبمشاعِرك التي أعرفُها – لو لَمْ تكنْ قادِراً على نظم القريض.. وقال.. وقلتُ.
وعندما خلوت إلى نفسي، واستعرضْتُ قافلة حياتي، ومراحلها المتضاربة، بُؤسى ونُعمى، وخيراً، وشرّاً، استعبرتُ وهمَسْتُ في أعماقي: لقد صدقَ صديقي.
وقصتي مع الشِّعر هي قصة كلّ إنسان:
هبط الأرض كالشُّعاع السَّنيِّ
بعصا ساحرٍ وقلبِ نبي
كما قال "علي محمود طه".
قصةُ.. هذا المخلوق "المختص". المزود بأحاسيس، ومشاعر عجيبة، يستطيع بها "تَلْفَزَةَ" وتشخيص، واسْتِكناه، ما لا تَستطيع الحواسُ البشريةُ المركَّبة في الإنسان "العادي".
وإذا كانت سليقةُ الشِّعر تُورث كما يقولُ البعض.. فأنا أدْلي إليها بسبب عريق عتيد، فقد أنْجبتْ أسرة "الشامي" عدداً مرموقاً من شعراء اليمن خلال العشرة القرون الماضية.. كما أن شقيقي هو صاحب ديوان "ابن الظلام".
ولو عدتُ بذاكرتي "خمسةً وأربعين عاماً" لرأيت طفلاً يُناهِزُ العاشرة.. يفتش ركاماً من الأوراق المهجورة، وكان قد عَرَف كيف يتهجَّى الكلمات المكتوبة، وحَفِظ السُّور القصار من جزء "عم يتساءلون".. ويعثر على صفحات منثورة من ديوان. ابن الفارض. فيأخذه العجب حين يرى ذلك النَّهر مِنَ الفراغ يفصل بين "الأشطار" و"الأعجاز".
وتغمره الدَّهشة حين يجد حروف أواخر الكلمات مُتَنَاسقة، مُتشابهة: تاءً تاء، ولاماً.. لاما، وسيناً سِينا، ويحاول القراءةَ فلا يُتْقِنُها، ويحاولُ الفهم فلا يَسْتطيعُه إلاَّ قليلاً.. ويُوسْوِس في صدره صوت لا يدري لَهُ مَصْدَراً، ما هذا.. ما هذا؟ ويَتَذكَّر مقاطِعَ السّور القِصار.. ثم يخافُ ويَستعيذُ بربِّ النّاس، مِن شَرِّ الوَسواس الخنَّاس، ويَنْتَشِل تلك الأوراق باحثاً عن أخواتها بين ذلكَ الرُّكام اليتيم،.. ويحاولُ تَرتيبها حسب أرقامها وحروفها.. وما إنْ يُرددها مِنْ جديد، ويكرِّرُ قوافِيهَا المنغومة. وكلماتها المرصوفة، جهراً وهمساً، وطرداً وعكساً، حتى يجدَ شيئاً من اللذة والمتْعة لم يعرفْهما من قبل، ويهذي بها مراراً وتكراراً: ويشاركه أخوه لذة السَّماع، ويُنَغِّم مَعه الكلمات، والقوافي، وخصوصاً "التَّائية" و "السّينيَّة"، بل ويتخذان مِنْ ذلك لعْبةً ممتعة، ويضعان لها ألحاناً غريبة.. يهمهمان بها حين يروحان وحين يَغدوان، ولا يكادانِ يملاّنِ تِرْدَادَها.
كانتْ هذِه هي "البداية".. ولا أنسى فرحتي حين وصلتُ إلى قوله:
أنتُمْ فروضي ونَفْلي
أنتُمْ حديثي وشُغلي
يا قِبلتي في صلاتي،
إذا وقفتُ أصلّي
لقد استَسَغْتُ هذين البَيْتين، وانْسَجمَت موسيقاهما اللفظية مع مشاعري الصَّغيرة، وفهمتهما، إذْ كنتُ أعرفُ معاني "الفرض"، و"النَّافلة" و"الصَّلاة"، و"الشغل"، و"الحديث" فسلوكي اليومي مثل سلوك سائر أبناء الزمان "فروض" و"نوافل" و"شغل" و"صلاة"، ومجالسُ "المداكي" وحلقات "المساجد"، تضج بمثل هذه الألفاظ، وما يتعلق بها.. فكانا، أولى محفوظاتي، قبل أن أعرف أن هذا النَّوع من البيان يُسمَّى شعراً".
وحين التحقت بمدرسة "الأيتام" وكان السيد الأديب الخطيب على عقبات "خريج الأزهر" يُعلِّم فيها درس المحفوظات.. المختارة من الشعر والخطب، للقدامى والمحدثين، شغفتُ بهذا الدرس وفزت برضا الأستاذ. ثم لازمتُ الشَّاعر عبد الكريم الأمير فازْددت للشعر حُباً.
كنت أحسُّ بالمعاني تجيش في نفسي وتَتَوثَّب، غير أني لا أستطيع التعبير عنها، واكتَشفت طريقة أستاذي عبد الكريم الأمير في نظم القصائد، وإذا هو يعمد أوَّلاً إلى انتقاء "الوزن" والقافية، ثم يُحَضر، "جدولاً" لكلمات "القوافي" التي تَنْسجِمُ مع "الوزن"، و"الموضوع" راجعاً إلى محفوظاته و"قواميس" اللغة، ودواوين الشعراء.
فإذا كانت القصيدة التي يَنْوي نَظمها على "وزن" و"قافية": "أرقٌ على أرق، ومِثلي يأرق".. مَثلاً.. فإنه يحشر ما ينْسجمُ على هذا الوزن من "القوافي" مثل "يُشْرق" و"يخفُقُ" و"يبرقُ". و"يتحرَّق"، "ولا يُسْبَقُ"... إلخ، ثم يتحرى في إبداع "المطلع" المناسب للموضوع، مدحاً أو رثاء أو غزلاً وهكذا.. وقد نَصَحني بانتهاج هذه الطريقة، ومارستها فعلاً.. ولكني ضِقت بها ذَرْعاً، وشعرتُ أنها طريقة متكلفة. وسرعان ما نبذتُها جانباً وانْسَبْتُ مع أحاسيسي، وكثيراً ما كنت أرسلُ الشعر منغَّماً. موزوناً، ولكن بقوافٍ متعدِّدة، ثم أجهد نفسي في التنقيب عن القوافي المتَّسقة "أو يرفدني بها أستاذي، ولا أذكر أني أجهدتُ نفسي في إبداع المطلع الخلاب.
ولا شك أن الطريقة التي أرشدني إليها الشَّاعر عبد الكريم الأمير قد أفادتني لغويَّاً، وأثرتْ قاموسي الشعري، وكم مِنْ ليالٍ أفنيتها مُعْتكِفاً على القوامِيس اللغوية، والدَّواوين الشعرية، أختار "القوافي" وأجدْوِلُها، وأتفهَّمُ معانيها ومترادفاتها، وذلك في حدّ ذاته مفيد.. وأدركت جدواه فيما بعد.. وربما أن أستاذي عبد الكريم قد أرادها لي في تلك المرحلة، ولم تكن هي طريقتُهُ. عندما يريد أن يَنْظم الشِّعر، وقد كان من مجوديه.
وعندما أعود إلى الشعر في اليمن قبل أربعين عاماً إلى سنة 1358هـ/ 1939م وأتذكر طرائقه وأغراضه، وألفاظه، ومواضيعه.. لا أجد معظمُه إلاَّ فاسد السّبك، قليل الطَّلاوة من مدائح تكررت ألفاظُها ومعانيها، إلى غزل متكلّف لا يثير وجداناً، ولا يحرك عاطفة، إلى "مراثي" هي، مدائح تنوح، ودموعها مثل دموع "النوائح" المأجورة، مع تعسف في الصناعة البيانية، وتكلف في التقليد.. ولذلك ولأمر لا خيار لي فيه لا أستطيع أن أقول إنّي تأثرتُ بأيّ شاعر من شعراء اليمن في تلك الفترة. وكان من حسن حظي: أني عثرتُ بين أوراق والدي على نتَفٍ من ديوان "ابن الفارض" ثم وقع في يدي ديوان "حافظ إبراهيم" فهمْت به والتهَمتُه، وأمّا بعد ذلك فقد تتلمذت في علوم البلاغة والأدب على الشاعر السيد عبد الكريم الأمير وقرأت عليه ومعه. "البارودي" ومختاراته و"شوقي" و"مطران" و"الرافعي" و"الجارم" و"الرصافي" و"الزّهاوي" و"بدوي الجبل"، و"بشارة" و"جبران" وكلّ شعراء "المقتطف" و"أبولّلو" و"الرسالة" و"الثقافة" و"المهجر" الأمريكي.
أما أوَّل المواضيع التي بدأتُ مزاولتها نظماً فقد كانت "الوطنية" كما كنَّا نفهمها حين ذاك. وكان مثلي الكامل شاعر النيل "حافظ إبراهيم" وألَّفتُ أوّل مجموعة شعرية: "دموع وأنات" ولمَّا أتجاوز السابعة عشر، ولكني أحرقتها خوفاً حين فتشوا دار جارنا القاضي محمد الخالدي وسجنوه مع "الشاعر الزبيري" و"محمد الخطيب" وزملائهم..
وكنت قد سمعتُ بيتاً لأبي تمام يقول:
ولولا خلالٌ سنَّها الشعـرُ مـا درى
بغاةُ العُلا من أيـن تؤتـى المكـارمُ
فتأكَّد اعتقادي بأن الشعر أسمى المواهب الإنسانية: وأنَّ صِفة "الشاعر" هي أعلى المراتب.
وأيد ذلك الاعتقاد ما قاله الأولون، ولهج به المحدثون، شعراً ونثراً، ونَصَبتُ نفسي ذائداً عنه، ومحامياً في المجالس والأندية، أجادل الفقهاء والمتزمتين الذين ينالون من مكانة الشعر، أو يحقرون من قيمة الشعراء، وكنتُ لا أزال أحْبو على عَتبات جَنَّاتِه، وأدفّ في آفاقِه بجناح واهن ضعيف، وجعلتُه غايتي في الحياة، واخلصْتُ له، وهمت به، وهامَ بي في كلِّ واد.
ولا أنكر أنّي كنتُ أشعر بالضّيق حين أقرأ أو أسمع.. ما يقلل من الشعر، أو يحطّ من مكانة الشاعر، مثل البيت الذي ينسبونهُ إلى الإمام الشافعي:
ولوْلا الشعر بالعلماء يُزري
لكنتُ اليوم أشعر من لبيد
وتلك الروايات والأخبار من بعض الشعراء الذين تزهدوا، أو ندموا على ما قالوا: فأحرقوا كل آثارهم الشعرية.. وإن أنسَ فَلَنْ أنسى حواراً ساذجاً دار بيني وبين المرحوم السيد العالم هاشم المرتضى في مجلس "قات" بصنعاء سنة 1941م وكان تِرْباً وزميلاً لوالدي في مدرسة "شهارة" فقد قال لي: بلغني أنكَ تَقرض الشِّعر يا أحمد؟
قلتُ: نعم، قال: لا خير لك فيه. قلت: لماذا؟
قال: لأنه كما قالوا "أعذبُه أكذبُه"، وأنت "ابن فلان الفلاني" ولا أريد أن تكون كذَّاباً، ثم ستبقى طيلة حياتك، إمَّا.. مادحاً متسولاً، أو هجاءً تَنَال مِن أعراض الناس، أو تهيمُ في وديان الضَّلال، وهل تعرف أنَّ "المتنبي" أكبر الشعراء تحاشى دخول الكوفة حين بلغه قول شاعر لا يصل إلى رتبته بلاغةً وبياناً:
أي فَضل لشاعر يطلب الفَضْلَ
من النَّاس بكرة وعشيّا؟
عاش حيناً يبيعُ فـي الكوفـة المـاء
وحيناً يبيعُ ماء المحيا!
قلت: ولكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أيد "حسّان" بروح القدس.
قال: فلقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يملأ أحدكم جوفه قيحاً خير من أن يملأه شعراً".
قلت: قد صحَّحت الرِّواية عائشة أمّ المؤمنين.. بقولها إنّ تَتمَّة الحديث "هُجيتُ به" فضحك، ربما ابتهاجاً بأنّ ابن صاحبه يستطيعُ الجدل!!
وقال: وماذا تقول في قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تَرَ أنَّهم في كلّ وادٍ يهيمون، وأنَّهم يقولونَ ما لا يفعلون، قلتُ: تتمة الآيات: إلاّ الذين آمنوا، قال: فَلن تأتي بجديد، وقد قال "عنترة" قبل الإسلام:
هل غادر الشعرا ء من مُتَـردِّمِ
وقال آخر:
تأمَّلْت في نظـم القريـض وأهلـه
إلى قوله:
فلم أرَ إلا سارِقاً لَفْظَ غيرِه
بلا حشمةٍ، أو مَنْ يُغِيرُ على المعنى
قلت: أوَّلاً، ليس في ذلك نيل من قيمة الشعر الأصيل، وثانياً، هل قال أحد قبل عنترة، والشاعر الآخر ما قالاه؟
قال: لا أذكر، قلت: إذن فقد جاءا بِشيء جديد، قال: أما سمعتَ قول الشَّريف الرضي؟ وهُوَ هُوَ..
مالك تَرضى أن تُعَدَّ شاعراً؟
بُعْداً لها من عدد الفضائِل
وكذلك قوله يخاطبُ أباه:
إنّي لأرضى أن أراك مُمدحاً
وعلاكَ، لا ترضى بأنّي شاعرُ
أليس في ذلك دليل على أن "الشريف" وأباه كانا يَسْتَنكفان عن لقب الشاعر ويحتقرانه؟
قلتُ: وهل سمعتم قول "المتنبي":
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يُرى من الشُّعراء
هذا من جهةٍ، ومن أخرى فلَوْ لم يكن الشَّريف الرضي شاعراً لما كان من الخالدين، وأين "عُلاَ" أبيهِ.. وقد كانَ كما قال "المعري" يرثيه:
الطَّاهـر الآبـاء والأبـنـاء، والْـ
أثوابِ، والآراب والألاَّف
رَغَتِ الرّعودُ وتلكَ هـدّةُ واجـب
جبـلٌ هوى مـن آل عبد منـافِ
هلاّ دفنتم سيفُه في قبره
مَعَهُ، فذاك له خليلٌ وافي
أين ذلك الجبل؟ لقد نسيَهُ الناس، وبقي شعر ابنه "الشريف" يُعلي ذكره، ويمجَّدُ اسمه، حتَّى في مجلسنا هذا بعد مئات السنين.
قال باسماً: لو كان جدّكَ "عامل شهارة" حياً لزجرك عن قول "الشعر".
قلتُ: وهل كان شاعراً؟ قال كلاَّ! قلتُ: فأنتم تعلمون أنَّ جدّه الأعلى هاشم بن يحيى الشامي وابنه محمد بن هاشم قد قالا الشعر البديع. قال: نعم.. قلت: وأيهما أفضل في نظركم "جدّي". "عامل شهارة" أم جده هاشم بن يحيى قال: لقد كان "هاشم بن يحيى" إمام علمٍ، وزُهدٍ، وهو صاحب "نجوم الأنظار".
قلت: وقد كان أيضاً إمام شعر، وقد نسي الناس نجوم أنظاره لكنهم يحفظون بدائع أشعاره، وقوله:
وإذا القَلْب على الحـبّ انْطـوَى،
فاشْتِراط القُـربِ واللقيـا غريـب
يدورُ على لسان كل يمني أديب، ثمَّ أمَا قد رويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إن من الشِّعر لَحِكمة"؟ قال: نعم.. قلتُ: أو مَا قَال عمر بن الخطاب "الشِّعر ديوان العرب"؟ قال: نعم. قلتُ: وإذن..؟ فتأمَّل قليلاً.. ثم أقبل عليَّ بصوتٍ خافت قائلاً: "إنني أخشى عليكَ يا بُنَيَّ مِنْ حصائِد الألْسنة".
"فإذا كان قدْ قُدر لكَ أن تكونَ شاعراً: فاتْركِ المدحَ، واحذرْ مغبَّات القول، ولا تُكنْ هجَّاء، وكنْ من الذين آمنوا.. قلت: (وانْتصروا من بعدما ظُلِموا) فضحك وقال: هداك الله":
لقد شعرتُ يومها بشيء من الاعتزاز والتباهي، فركبت دولاب الخيال يدور بي في آفاق الشعر الواسعة، ولم يدرك عنفوان طموحي وحماس شبابي عمق ما تعني "مغبات القول" و"حصائد الألْسِنة" واندفعت متغزلاً، وناقداً ومادحاً، وقادحاً، وبانياً طوراً، وطوراً هادماً، وهادئاً حيناً وحيناً ثائراً، وأرضيت وأغضبْتُ، وصادقت بشعري وعاديت، وربما أحسنتُ ولكني قد أسأتُ أيضاً.. وهأنذا الآن وبعد الخامسة والخمسين أدرك أنّ الوالد "هاشم المرتضى" كان ناصحاً برّاً، وأتذكر بعضَ ما تفوَّه به لساني، أو خطه قلمي، مِمّا نُشر ومما لم يُنْشَر فيلسعني النَّدم، وأفهم ماذا عَنَاهُ ذلك الشَّيخ الوقور رحمه الله.
نَعَمْ لقد أخلصت لِلشِّعر وجعلته عُدتي وعتادي، ورفيق عمري وزادي وزنادي.
وحينَ لَسعَني الهوى رقاني "الشعر" بِترياق الخيال، فكنت أفيء إلى ظلال الأحلام في رياضه، وألوذُ بِه من رمضاء الهجْر والبعاد.
وحين أنكَرتُ ما أنكرتُ، وحاربْتُ منْ حاربت، كان "الشعر" هو السلاح الذي به أصولُ وأجول، وأحدو قوافل الرفاق إلى ميادين الصِّراع.
وحين طَغت المصائبُ والمحنُ، وأناخَتْ بكلاكلها على الضُّعفاء، والمضطهدينَ والمشردين، كان "الشعر" أرقَّ ما استطعتُ أن أواسيهمْ به، أرسل ألحانه الحزينة فتكَفْكِف الدموع، وتبلسم الجراح، وتهدهِد الحرقات.
وحين حاول – من حاول – أن يطمس مَعالم التاريخ "وقال الزُّورَ والبهتان فينا.! كان "الشعر" حجَّتي "الدّامغة"، وجَلْجَلت بصَوته فارتَجَفَت أركان، وانهزمَت جحافل..
وكان رفيقي عندما هاجرت.. وكان أنيسي في السجن، وما طاف بي مكروه إلاَّ بدَّدت ظلماته بالشعر، ولا ألمَّ بي أسى إلاَّ طردتُهُ بالأوزان والقوافي.
وهو من قبل ومن بعد كما قلت:
يا يراعي أعْتصِـر حياتـي شعـراً
يُطربُ النّاس لحنُهُ الرَّقْراقُ
نغماً تَلْجأ الأماني إليه
- إن تأسَّتْ – ويفزعُ العُشَّاق
قدسيّاً إذا قوافيه تُتْلَى
خَشعَ المؤمنون، والفُسَّاقُ
هُم يظنونهُ ترانيمَ لهو،
أو نشيداً تبثُّه الأشواق
وهو أنات عثرةٍ ومعاناةُ
خلاصٍ، ودمعُ روحٍ يراقُ
لهمُو منه نَغمةُ الوترِ اللاهي
ولي منه النّار والإِحراقُ
وقصتي مع الشعر. هي رحلة العمر، أقرؤه أو أنشيه، ولَعَله – وقد أسْهبْتُ – يجدر بين أن أذكر أني كنت – قبل البلوغ – أتذوَّق تلك الأشعار الركيكة في "ألف ليلةٍ ولَيْلة" وقصة "سيف بن ذي يزن" ثم تجاوزت ذلك إلى "البُرعي" و"البهاء زُهير" و"المستطْرف"، وما جاوزت السابعة عشر إلاَّ وقد درست دواوين "أبي تمام" و"البحتري" و"المتنبي" و"جرير" و"الفرزدق" و"الأخطل" وكتب "البدر الطالع" و"نيل الوطر" ثم وقع في يدي كتاب "الأغاني" فهمت معهُ في كلّ واد.
ولا بد أن أشير إلى تأثري بكتب الدكتور "زكي مبارك" "البدائع"، و"الموازنة بين الشعراء" و"النثر الفني" وبدراسات الدكتور "طه حسين" في "حديث الأربعاء" والأدب "الجاهلي"، وقد قرأت "العقاد، و"المازني"، و"الزيات"، و"أحمد أمين"، حتى وقفتُ بباب أديب الإسلام "مصطفى صادق الرافعي" فألقيتُ عندهُ عصا التِّرحال واتخذت من أدبِه المنهج والمثال، وقرأت بإمعان "حديث القمر"، و"رسائل الأحزان" و"أوراق الورد" و"المساكين"، و"وحي القلم" وأعدت قراءتها، ولم أسأم تكرارها، ودرسْتُ ودرَّسْت "تاريخ آداب العرب" و"إعجاز القرآن".
وإن أنسَ.. فَلَن أنسى – ولْيغفر لي القارئ الإسهاب – أني حين أنشدتُ قصيدتي "الرائية" في مجلس ولي العهد "أحمد" أودع عام 1361هـ المشؤوم، وأستقبل عام 1362هـ/ 1943م، مهنِئاً الأمير. متحدِّثاً عن "الشعراء"، وكان الشاعر إبراهيم الحضراني قد وصل من "ذمار" إلى "تعز" لكنَّه لم يكن في المجلس عند إنشاد "القصيدة"، وفي اليوم التَّالي هَبَطتُ إلى "المدينة" مع الأخ الأديب السيِّد حسين الويسي، وقصدنا "دكّانَ الحِرْوي" فأخذ "الويسي" القصيدة وأملاها على الحاضرين وضمنهم إبراهيم الحضراني وما إن تلا الأبيات:
وشاعرٍ يَبْعث الأنّاتِ صاخبةً
كأنَّها جَمَراتٍ في حناجِرهِ
إلـخ.
حتى قَهْقَه "إبراهيم".. فقلت: ماذا بك؟
فقال "الويسي": "إنه قد تصوَّر نفسه، فقد اشْتوى حلقومه بهذِه الجمرات..! وضحكت، وطَرَفَتْ عينا "إبراهيم" فمدَدتُ كَفِّي وتصافحنا، وكان أوَّل لقاءٍ لصداقةٍ شعرية عجيبة!
انسجمتُ مع إبراهيم الحضراني انسجاماً شعرياً إبداعياً، وبدأنا نسلك الجادة التي سلكها شعراء "أبولّلو" ونهيم في وديان علي محمود طه، وإبراهيم ناجي و"الشابي" وكنت قد قرأت قطعاً مترجمة من "شكسبير" للأستاذ محمد فريد أبو حديد، وبطريقةٍ لم نألفها من قبل: وفي سرد منغم موزون لا يبالي بالقوافي، كما قرأنا مثل ذلك للشاعر علي أحمد باكثير، والشاعر حسن بن عبد الرحمن السقاف، "وكلاهما من حضرموت اليمن" وهو ما كنت أصبو إليه، وأحاوله حينما بدأت مزاولة الشعر وعاصتْني القوافي، فمضيتُ مع إبراهيم في تلك الجادة السَّهلة: هازلين حيناً، جادين أحياناً، ومن شعر إبراهيم حينذاك قصيدة "بلا عنوان" قالها سنة 1943م أي قبل أن تُفكر الشَّاعرة "نازك الملائكة" في نظم "القصيدة الجديدة" بخمس سنوات، يقول إبراهيم فيها:
ما لِقَلْبِي يتضَرَّمْ؟
وكياني يتهدَّمْ؟
أيتها النَّفسُ.. حنانيكِ.. اهْدئي.
أيتها الآمال مَهْ لا تعبسي.. وابتسمي.
لِمَ.. لا أحْيا.. كما تَحْيَا الطُّيورْ.. وادعا؟
أتَغنى حين أغدو. وأحورْ.. لاهيا،
لا أبالي. هم أمسي، أو غدي،
وَاجداً في كلِّ شيء مُتْعتي،
في الهواء الطَّلق، في عَرْفِ النَّسيم،
في خرير الماء، في سِحر الأصيل،
لَسْتُ بالمسؤول.. في هذا الوجود!
أنا فيه ذرة في جَبَل..
أو حصَاة في خضم مُزبد..
إنما جِئتُ لأحيا
بفؤادٍ كالرَّبيع،
لا ترى فيه سوى غُصنٍ يميسْ،
وهزاز يَتَغَنَّى فيه.. أو زهرٍ يضوعْ.
إلى آخر القصيدة وهي طويلة بديعة، ولقد ألَّفتِ الشَّاعرة الكبيرة "نازك الملائكة" كتاباً قيِّماً عن "قضايا الشعر المعاصر"! وأنا أتفق معها في جلِّ ما افْتَرَضَتْهُ، وفي معظم دراساتها، وأنظارها، التي ضمنتها الطبعة الرابعة سنة 1974م عن هذا اللون من الشعر، ولكنِّي أخالفُها في تحديد بداية حركة "الشعر الحر وتاريخها" وزعمها بأنها كانت سنة 1947م "في العراق، ومن العراق بلْ ومن بغداد نفسها"! وأنَّ أوَّل قصيدة حرة الوزن تنشر -كانت- قصيدتها المعَنْونة.. "الكوليرا" ص35 "قضايا الشعر". لأن هذا الزعم قد جعل مكان نشأة الشعر الجديد "العراق" كما يؤيدها في دعوى فَضْل ابتكاره سنة 1947م، وهي دعوى عريضة..، يخالفهات الواقع، فالشاعران علي أحمد باكثير وحسن السقاف "بن عبيد الله" وهما يمنيان، ومن حضرموت موطن أمير الشعراء "أمرئ القيس" قَدْ مارسا هذا اللون من الشعر في أواخر الثَّلاثينات، وبطريقة مثيرة، وقبل أن يَسْمعا باسْم "نازك الملائكة" كما أني وإبراهيم الحضراني قد تعاطيناه قبل أن نقرأ "لنازك، أو نزاراً" شعراً مقيداً أو شعراً حراً، ومع ذلك لا أدَّعي أن إمارته لليمن: وأنها منبعُه، مثلما كانَت قديماً، متمثلين بقول الناقد القديم: "كادت اليمنُ تذهب بالشِّعر كلِّه".. لأنَّ هذا اللون من الشعر قد عرف قديماً، وكانوا يسمونه "البَنْد" وهو أصل من أصول الشعر الجديد.
وقد وجَدت بين ركام أوراقي "مَوْؤودَتَين" مِن هذا الشعر قلتُ الأولى قبل هجرتي إلى عدن سنة 1362هـ/ 1943م، وعنوانها: "الحرية"، ومِنها:
يا فتى الآلام.. يا ابْنَ القَهْرِ..
ماذا تَتَصبَّى.؟
ما الّذي يُضْنيك؟ بل ماذا تريد؟
أنت تهواها..!
أنت مُضناها.. وتَخشاها.!
ولها "بَابٌ" عَتيد..!
إنَّها "الحمراء" والكفُُّّ العنيد..
يطرقُ البابَ.. فكُنْ،
كُنْ.. وَكنْ.. أو لا تكُنْ،
تلكَ مأساة جميع العاشقين.
إلى آخرها، وأفكارُها مطروقةٌ، ومُضطربةٌ، ولا أستطيع أن أسْتَجْلي الآن ما كان يخامرني من مشاعر، ولكنَّها تؤكد ما قلته من دَحْض دعوى "نازك"، وتصور ثورةً مبكِّرةً على الهياكِل الشعرية المألوفة حينذاك.!
وأما "الموؤودة" الأخرى فكان عنوانها "لعنة" في "عدن" وقد أنشأتُها هناك سنة 1944م، ومطلعها:
"أحبّك.. لا.. بل أحبُّ انفعالي،
بما يلتَظي تحتَ عينيك من!
سُهادٍ، ومِن ألمِ قاهر.!
أأنتِ الغريبةُ..؟ لا.. أنتِ في شاطئٍ
بعيدٍ بعيدْ…
غريبٍ على العاذل السَّاخر،
وفي "عدن" حيثُ لاَ مقلَة..
ترانا إذا ما التَقينا.. على نَغَمٍ سَاحِرِ.
تُراقص فيه ظنون الجمالْ..
فتعيا.. وقد ثمِلَتْ بالخيالْ..
وتغفو.. وسرعان ما تستفيق"،
على صوتِ شاعرها الثَّائر،
فأرجُمُ بالوهْمِ من يخطئون،
ومن يقرأون، ومن يكتبون،
زوراً.. وإفْكاً..
وأشْتُمُ من يجأرونَ.
بالدَّعواتِ.. ومَن يُحْرِقونْ..
بخُورَ الصَّلاة.. على جُثَّةِ الشَّاعِرِ.
* * *
وحين هاجَرْتُ إلى "عدن" ولازمت ندوةَ "مخيَّم أبي الطيب" وجالَسْتُ الشاعرين محمد عبده غانم، وعلي محمد لقمان، استعَنتُ بهما على معرفة قصائد مِنَ الشعر الغربي، وكنتُ قد قرأت ما ترجمه "خليل مطران" و"الزيَّات" وغيرهما لِشعراء الغرب وأدبائه، وقرأتُ "طاغور" و"تولُوتسوي" و"جوركي" و"شيلي" و"بيرون" واستوعبتُ ما كتبه أحمد أمين، وزكي نجيب في "قصة الفلسفة اليونانية" و"الحديثة"، وفي "قصة الأدب في العالم"..
الشعر هو لبابُ حياتي، ولا أستطيع أن أتصور نفسي ناجحاً راضياً.. لو لم أكُنْ قادراً على قول الشعر – كما قال صديقي – فهو سراجي إذا تدجَّتِ الخطوب، ووسيلتي إذا انقطعت الأسباب، ومَهْرَبي إذا انسدَّت الطُّرقات، لقد حاول البعض أن يجردني من خصائصي.. وقالوا ما قالوا. ولكنَّ شعري فَرَضَ نَفَسَهُ على أقلامهم، فلم يَسْتطيعوا له جحوداً.. وَوَدّا لَو اسْتطاعوا..!
والآن.. وقد طَغت فوضى اللفظ واخْتَلت موازينُ الشعر، وتطاول عليه قومٌ لم يُهيَّأوا طَبعاً وتكويناً ليكونوا شعراء.. بَلْ ولَم يحاولوا معرفة وسائِله وآلاتِه، ودراسة علومه، فَيُحْسِنُوا إنشاء تراكيبه، ليكونوا على الأقل من طبقة "النظَّامين".. كما كانوا يسمونهم قديماً، "والشعرُ صَعْبٌ، وطَويلٌ سلمه"، وويل له من كاتبه وقارئه، إذا لَمْ يملك حاسَّةَ ضَبْطِ أوزانِه وأعاريضه، ومَلَكَةَ اسْتِكْناه رموزه، وتواريه، وإشارته"، ولقد كتب الكثيرون يحاولون التَّصحيح والتبيين، ولكن هؤلاء لا يكادون يفقهون قولاً، وإذا أراد العارفون تبْصيرهم، قالوا.. لا.. لا.. هذا شعرٌ جديد، فإذا قيل لهم: أين نَغَمهُ؟ أينَ مُوسيقاه؟ أنكروا العَروض وقالوا تلك تُرّهات القدماء، في الجاهلية الجهلاء، فإذا قيل لهم: على الأقل سمُّوه "نَثراً".. وإلاّ فلماذا وجدت لفظتا " الشعر" و"النثر" في كلّ لغات البشر، وقالوا "نثر فني" و"قصيدة منثورة" و"معنى معقود" وقالوا هذا "شعرٌ" وهذا "نظمٌ".. وهذا وهذا، إذا قيل لهم ذلك، تبرموا، ولاكوا كَلِمات؛ "الجمود" و"الرجعية" و"التجديد" و"الحريَّة" إلى آخر الألفاظ التي لا علاقة لها بالشعر والنثر، والنظْم، والبيان، والقديم والجديد.
لقد اعترفتُ –سَلَفاً – أني كنتُ من أوَّل من زاول هذا النوع من الشعر الذي يسمُّونه تارةً "الجديد" وأخرى "الحر"!
ولكني ما كنت أظنُّ أنَّه سينتهي إلى مصيره الحاضر..! وفَرَرْتُ بِنَفسي وهمومها الشعرية، إلى كنف "أبي العلاء المعرِّي" وبعد عشْرةٍ طويلة: توطَّد يقيني، بأنَّ "القافية" "لازمةٌ" ضرورية.. وليس ذلك فحسب.. بل وأنَّ "التزام" الحروف المتعدِّدة "فنٌّ طبيعي" يحتمه الذوقُ الفني أحياناً، وتفرضه الفِطرة الشعرية، وتَساوق السَّرد البياني، كما لَهَج به "كُثَيِّر عَزَّة" في تائيته، و"ابن الرومي" في مطولاته، وَوَجدْتُ لذلك أشباهاً ونظائر في أشعار الفحول خلال العصور؛ وفيه المتكلف البغيض، وفيه الطبيعي الجميل.
ولقد مارست هذه الصناعة الطَّبيعية، فوجَدْتها رياضة فكرية ولسانية وفنِّيَّة، لأنها تشحذ الذِّهْن، وتقوي ملكة البيان، بل وتُرْهف الذَّوْق الشعري.
وعندما كنتُ أجاري "أبا العلاء" في لزومياته.. قال لي أحدُ أدباء اليمن، ولماذا تعنتُ وتُجهد نفسك؟ قلت؛ ليس في الأمر إعنات ولا إجهاد؛ ثم أغرقْت في القول كي ألفت انتباهه فَقُلْتُ: ولو كُنْتُ من أبي العلاء. وفي قُدْرته ومعْرفته، وتمكنه اللغوي، وشاعريته الخلاَّقة. لسَمَّيت كتابي "لزومُ ما يلزم".. قال: إن "لزوميات المعرِّي" من الشعر الوحشي الغريب المكبَّل بالقوافي والحروف، والألفاظ المتكلَّفة؟
قلتُ - غير قاصد إحراجه -: إن الواقع عكس ما تقول يا صديقي؛ ففي "بعض" ما ورد في ديوان.. "سقط الزِّند" وهو أوَّل دواوين "المعرِّي" ما هو أكثر وحشية وغرابة علينا نحن المحدثين.. وقواميسنا اللَّغوية المحدودة، مِمَّا وَرَدَ في "اللُّزوميَّات" وسأضرب لك مثلاً:
يقول "المعرِّي" في "سقط الزّند" [ص58]:
يا ابن الألى غير زَجْر الطَّير ما عرفوا
إذْ يعرف العربُ زجر الشاء والعكَرِ
والقائديها مَعَ الأضياف تتبعُها
ألاَّفها وألوف الأم والبدرِ
من كل أزهـر لم تأشـرْ ضمائـرهُ
للثم خدٍّ، ولا تقبيل ذي أشر
لكِنْ يُقبِّل فوهُ سامِعي فَرس
مقابل الخلْقِ. بينَ الشَّمـس والقمـر
من الجيـاد اللواتـي كان عوَّدهـا
بنو الفُصَيـص لقاء الطَّعـن بالثُّغـر
يا غيثَ فهم ذوي الأفهام إن سدرت
إبلي فمـرآك يشفيهـا من السَّـدر
ويقول أيضاً في "سقط الزند" [ص282]:
أضاةٌ يرومُ السَّمهري ورودها
فتشرقُه مِنها بأبيضَ سلْسال
وترجعُ خرصان العواسل هيِّباً
كخرصان رقْل، أو مخـارص عسَّالِ
من البيـض فرعونية ليـس مثلهـا
بمشْتَمِل حيْرى دهرِ، علـى حـالِ
إذا كرةٌ كانتْ لبيضاء نثرة
دواء أرتْ كرّاً يجيب وأذيال
وهاتان القطعتان من روائع شعر المعرِّي في المدح، والوصف في ديوانه "سقط الزند" بينما نسمعه يقول في "اللُّزوميَّات" [ص160] ملتزماً الباء المكسورة مع الذَّال والياء:
الحمد لله؛ ما فـي الأرض من دعـةٍ
كلّ البرية في همّ وتعذيبِ
جاء النبي بحقّ، كي يُهَذِّبكم
فَهَلْ أحسَّ لكُـم طَبْـعٌ بتهذيـبِ؟
"عودٌ" يُصدِّقُ، أوْ غـرٌّ يُكـذِّبُ أو
مردّدٌ بين تصديق وتكذيب
ولو علمتم بـداء الذئب من سغَـلٍ
إذن لَسَامحتم بالشَّاة للذيب
ويقول أيضاً ملتزماً الباء المكسورة مع الباء والألف:
بني الآداب؛ غَرَّتْكُمْ قديماً
زخارفُ مثل زمزمة الذبابِ
وما شُعراؤكم، إلاَّ ذئاب
تلصَّصُ في المدائح والسِّباب
أضرّ لِمَنْ نَودّ من الأعادي
وأسرقُ لِلمقال من الذُّباب!
أقارضكم ثناء غير حقٍّ
كأنا منهُ في مجرى سبابِ
أَأُذْهِبُ فيكم أيام شيبي
كما أذهبُ أيَّامَ الشَّباب!
معاذ الله وقد ودَّعت جهلي
فحسْبي من تميم والرَّبابِ؛
ذروني يفقد الهذيان لفظي
وأغلق للحِمام عليَّ بابي؛
فتأمل أيُّ الشعرينِ أسهل وألطف وأجمل، لا قافية وروعة سبك، بل ومعنى وموضوعاً؟ هذا مع أني لم أتعمد الاختيار للأصعب من هناك، أو الأسهل من هنا؛ لأنَّ العارفين باللغة لا يجدون صعوبة في تلك الشواهد؛ كما أني لا أنكر أن "اللُّزوميَّات" قد اشتملت على الكثير من الألفاظ الغريبة والتعابير المتكلفة، وذلك ما يوجد في الشعر على مختلف أشكاله وفي كل العصور. وكأنَّ الصَّديق قد أراد "اختباري" فقال: وهَلْ جاريت هاتين اللُّزوميَّتين؟ قلتُ: نعم. قال: كيف جاريت الأولى؟
قلتُ:
قلبي لكم؛ فلماذا تعبثون به
ماذا جنى كَي تجاوزه بتعذيبِ؟
أنتم يقيني وشكِّي في الحيـاة، كمـا
كنتم جحودي وإيماني وتهذيبي
بالحُـبّ أقسمُ ما أشركتُ غيركُـم
فيه، ولا فُهْتُ -عَنْ عمدٍ- بتكذيبِ
قال: وماذا عن الثانية؟ قلتُ: كانت للمجاراة كما يلي:
دعوني أنتحبْ أسَفاً، لأني
وهَبْتُ اللهو أيامَ الشَّبابِ
شُغِلتُ عن المحاسِنِ بالمعاصِي
أجازفُ بالمدائح والسّبابِ
وأقطع بالظُّنون بلا دَليل
وأرضَى بالقشور عَنِ اللُّبابِ!
وكِدْتُ أهيمُ في فلوات تيهي
فتخطفني متاهاتُ التَّبابِ،
وهلْ يُغني التلهـف؟ أو سيجـدي
إذا أغلقت دون النَّاس بابي؟
وستجد كل ذلك في ديواني، "ألف باء اللُّزوميَّات" الذي آمل أن يخرج على الناس مع هذا الديوان، إن شاء الله تعالى.
ولأنَّ الشِّعر موسيقى، وتصوير وتعبير، وله صفات، وقواعد تميزه عن النثر، أردتُ أنْ أضرب مثلاً لأولئك المتطاولين عليه من يمنيين وغيرهم، وليعرفوا أنهم إنما يفرِّطون، ويتساهلون ويتهرَّبون من الموسيقى، والقوافي، لا تجديداً.. كما يزعمون، وإنما تكاسلاً أو عجزاً.
إن الشَّاعر ينظُر إلى الوجود ببصر خاصّ لأنه قد خُلقَ مزوداً بقوة إشعاع باطنة ترى ما لا تراه العيون العادية "والجمال والحب، والخيرُ، والشَّرّ، والحق والباطل، والعدلُ والظلم، والإيمان والكفر، والسَّعادة والشقاء.. بل والطبيعة بكل ما فيها من هواء وسماء وبحر وبر، وأشجار، وحيوانات، إلى آخره.. كل ذلك حقائق.. لها مدلولاتها في أذهان النَّاس، حَسَب قُدْراتهم الفطرية، وثقافاتهم الاجتماعية، وظروفهم المادية والروحية، ولكن الشاعر. يأتي "فيرى ببصره الشعري" أسرار هذه الحقائق والأشياء فيعبِّر عنها ويُظهر خفاياها. ويبين خصائصها. بَلْ ويزيدُ فيها وينقص، ويهذِّب ويلون، ويَعْبث أحياناً: وبقدر نفاذ بصره الشعري "الموسيقي" يستطيع أن يُضفي على تلك الأشياء المادية، والكائنات الطبيعية، والحقائق الذاتية.. ألواناً سحرية راقصة خلاَّبة تَسْتَولي على مشاعر الناس "وتَسْتَهويهم"؛ وتسرحُ بمشاعرهم في عالم كلَّه لذَّةٌ وانسجام.
ولذلك قيل: "وإن من البيان لسحرا"، ولذلكَ أيضاً كان للشعر "تفاعيل" موسيقية، وأنغام مطربة، لأنَّ "الموسيقى" هي لذَّة الرُّوح، وشهوة السمع، وموسيقية "التَّفعيلة" ورنَّة "القافية" هي الفرق بين الشعر، والنثر، علماً بأنَّ عظماء الكتاب والخطباء والفلاسفة يملكون فطْرةً واكتساباً ما يملكُه عظماء الشعراء من مواهب، ولذلك فآثارهم النثرية يكون لها نَفْسُ التأثير على المشاعر البشرية..!
إلاَّ أن الشعر – الشعر الحقّ – ألطف وألذّ، وأكثر متعة بنغمتِه، وموسيقاه! ولذلك أيضاً لا يمكن أن نسمي الكلام الذي لا وزن له، ولا تفعيلة شعراً.. حتى ولو كان في أسلوب بياني جميل خلاَّب، ويعرب عن حقائق سامية، وأفكار إنسانية نبيلة، ولذلك أيضاً نحاسب الشَّاعر حساباً عسيراً، على "الإيطاء" و"الإقْواء" و"السنادِ"... إلخ، ولا نسمح له بما نسمح للكاتب والخطيب والفيلسوف من حرية الإسهاب، والتبحُّر، والتدليل، لأن بصره – الشِّعريّ إن كان نافذاً – يجب أن يتقيد بنظام الأوزان. بل و"يَلتَزم" القوافي الطبيعية المناسبة لمضمون ما يريد الإعراب عنه، فتأتي أفكاره موزونة لا خلَلَ فيها، ولا فساد، ولا استرسال، ولا تكرار، ولا نشوز.
إن المعاني هيَ هيَ عند "الناثر" العظيم وعند "الشاعر" العظيم، لكنها لدى "النَّاثر" حرية وانطلاق، وشرح، وهي لدى "الشاعر" غناء وموسيقى واستيعاب، وهذا هو الفرق بين "النثر" و"الشعر" عند البشر، وبهذا المعيار أيضاً يظهر الفرق بين الشاعر "حقّاً" و"المتشاعر" عند "النقاد" الذين يملكون وسائل نقد الشِّعر، من علم، وذوق وإحاطة و"بصر شعريّ" أيضاً.
ولا أعتقد أن "طاغور" كان مخطئاً حين قال: "إن الله يخاطبُ النَّاس عن طريق الموسيقى"! وإذن فالموسيقى اللفظيَّة "ملتزمة" للقوافي المتعددة، أو غير مُلتزمة، هي مِيزة "الشِّعرِ" والفارق الفني بينه وبين سائر أنواع "الكلام"..
إنَّ آثار عباقرة " النثر الفني" تُسامق جمالاً وروعةً آثار كبار الشعراء.. في كلِّ العصور ولمن يُريدُ – وهو يَسْتَطِيعُ – أنْ يُعبِّر عن أفكاره وأحاسيسه، بعبارات جميلة غير مقيدة بـ "وزن" ولا "قافية".. فلْيَفْعَل وَلْيُسَمّ ما يقوله "نثراً" لا "قصيداً" ولا شعراً؟ وله من "نهج البلاغة" للإمام علي، و"أوراق الورد" للرافعي، و"الأجنحة المتكسرة" لجُبْران، و"الأيام" لطه حسين أمثلة رائعة خالدة في تاريخ الأدب قديماً وحديثاً.
وحانَتْ "نوبتي" الشعرية، حين.. تجتاحُ أعصابي ومشاعري ونهاري وليلي، دونما سابق إنذار، أو محاولة، أو إرادة..! وقلت لنفسي: "إنها فرصة العمر"! فَلأضربِ "المَثَلَ"، لا تحدِّياً، ولكن حفاظاً على كرامة "الشعر الجديد"، واستَسْلَمَتْ "للنَّوبة".. في فترةٍ رهيبةٍ بإرهاصاتها، وأحداثها، وذكرياتها، وترنَّمت به مقيداً بالتزامات شاعرنا "المعرِّي" مُنْطلقاً في آفاق ذكرياتي حيناً.. وتارة أهيم في ذاتي مصوراً ما تعانيه أوزارنا، وما تكابده أنغاماً.
أحمد بن محمَّد الشّامي
بروملي: 7 ربيع الثاني 1398هـ
15 مارس 1978م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :652  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 639
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الغربال، تفاصيل أخرى عن حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه - الجزء الثاني

[تفاصيل أخرى عن حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 2009]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج