شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(28) ابنتي شيرين
أسلوب رائع هذا الذي طالعتني به رسالتك وملحقها.. وأعترف أنك تجاوزت كل حد كان يبلغه خيالي المنطلق عما يحتمل أن تصل إليه قدرتك.
الذي يدهشني ويحيرني في ذات الوقت أن يتسع مجال إحساسك إلى الحد الذي تدركين به آلام النفوس وعذابها من خلال البسمات.
هذا الإحساس أيتها الحبيبة هو النار التي أخشى عليك منها، وهي الضريبة التي ستفرضها عليك الحياة، رحلة متصلة.
سعة الثقافة ليست هي مصدر هذا الإحساس -ولكنها استجابة تعكس جملة معقدة من المؤثرات الأولى التي يترك كل منها طابعاً معيناً في النفس وتجعل الإنسان تركيباً مختلفاً عن الآخرين.. وسيجيء اليوم الذي تطرحين فيه على نفسك هذا السؤال لماذا لم أكن كالآخرين؟
أنت نموذج لإنسان رائع وحساس ومرهف.. إنسان مختلف تماماً.. ومع ذلك فلا أجدني فرحاً بأنك لم تكوني كالآخرين.. وإن كنت أرجو أن لا تتعذبي بهذا الاختلاف..
إن أي تقدم أو استعلاء يتطلب منا ثمناً كبيراً يتحتم علينا أداؤه هو ضريبة أن نحيا على أن نعيش..
إن الذين يعيشون فقط -وكالآخرين- لا يدفعون هذه الضريبة التي نشعر بقسوتها كلما انطفأت في ظلمة حياتهم شمعة بما يتساقط عليها من دموع جراحهم الصامتة..
كان سيزيف الأسطورة يحمل الصخرة جاهداً إلى القمة معذباً يتصبب عرقاً فإذا كاد أن يصل انفلتت وعادت إلى السفح.. إنه شقاء كتب عليه.. وكذلك من يحلمون بأن يحيوا حياة ترتفع عن مستوى العيش..
ولماذا القمة؟ لماذا الابتعاد عن التراب الذي يعيش عليه ويستقر فيه الآخرون -كل الآخرين؟؟
لا تفسير إلا أنها القدرة التي تدع في كل شيء سره وسر الظروف التي تحدد خطوط سيره.. وعزيمة اختياره لكي يختار ما يشاء منها واعياً أو غير واع.. فيكون مسؤولاً حتى في نفسه عما كان ويكون..
لا تخافي من أن تزداد ظلمة المجهول..
أنت تبتعدين عن عالم الآخرين كلما اتسع مجال إحساسك وكلما امتلأ عقلك بمحيطات هذا الإحساس.
حاولي يا شيرين أن لا تبتعدي كثيراً فمن الصعب أن أجدك حينئذٍ وإذا قدر أن نلتقي فلن يعكس أحدنا شيئاً للآخر.. الآخرون هم الذين يعكسون لك صور الرؤية بمعطيات تتكرر لكن دائماً في أشكال جديدة.. تعطيك لذة الاكتشاف والمعرفة لتسلبك نعمة الاستقرار والراحة..
وعندما يأخذ منك التعب لا تجدين شيئاً يريحك سوى الفرار إلى الوحدة التي لا تخلو قط من ضوضاء الآخرين.. ومن جحيمهم.. وهذه الوحدة تتحول مع الأيام إلى مقبرة واسعة تبتلع في جمود وصمت كل ما يدخل في حياتنا ليخرج منها إما مشبعاً بالألم والمرارة أو بالزراية والاحتقار.. مخلفاً فينا مصدراً للحرارة الدائمة..
إنك تجاهدين الآن وترسمين لحياتك أجمل ما تهيم به أحلامك.. وفي نهاية كل جزء من الرحلة ستجدين أن ثم شيئاً ينقصك.. وأحياناً شيئاً يذوب -أو يسقط- أو يختفي..
إن كل شيء رائع من أحلامنا وأمانينا يختفي عندما يتحقق وجوده وكثيراً ما يختفي وهو موجود..
ليس هذا هو الشقاء -ولكن الشقاء هو الإحساس به بعطائه- بمرارته.. بعذابه.
دعي كل شيء الآن -حتى التفكير في رسائلي ورسائلك.. حاولي أن تكوني كالآخرين لا أكثر- اهتماماً بما يجب أن يشغلك كدراستك الجامعية الآن..
إنها هدنة ضرورية تعينك على التفرغ للنقطة الواحدة.. إذا كنت تسافرين قريباً جداً إلى بيروت فكيف تتلقين كتاب علم النفس! سيصلك على كل حال!!
بقي الآن أنني أشعر بخجل عظيم وتضاؤل عندما أراك غارقة في هذه الأوهام التي تخيل لك أني جدير بأن أكون أباً يجوز أن يوجه إليه بعض الثناء..
أكان ضرورياً أن تضفي عليَّ كل هذا التقدير لأزداد خجلاً منك ومن نفسي! إنها طريقة مدروسة لتعذيبي والا إيه؟! أرجو أن أراك قريباً ناجحة مرموقة ذائعة الاسم وكاتبة من كاتبات الطليعة في العالم العربي..
قبلي نفسك وزوجك (برفق) عني.. شكراً وإلى اللقاء القريب بإذن الله.
والدك
حمزة شحاتة

آخر رسالة كتبها الأديب الراحل بخط يده بالبقية الباقية من ضوء عينيه قبل أن يفقد بصره نهائياً في أواخر أيام حياته.

* * *

 
طباعة

تعليق

 القراءات :494  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

زمن لصباح القلب

[( شعر ): 1998]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج