شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(27) ابنتي الحبيبة شو
أول صوت فتحت عليه أذني، هو صوتك الحبيب في رسالتك المؤرخة 8/1 إنه صباح الأحد 19/1.. الجو بارد جداً.. والغيم داكن.. والدلائل تنذر بأن الشمس لن تجد مجالاً للظهور فيه..
هكذا ونادراً تبدو مطالع بعض الأيام.. ولكن سرعان ما تتحرك فيها المفاجآت وتنطلق..
ولا بد أن أمضغ لساني متفائلاً.. وأقول على الطريقة السكسونية الباردة: حسناً يا جيم يكفي أن يبدأ النهار طيباً وليكن بعد ما يكون.. إنه نبأ طيب أن تكوني على ما يرام..
إن رسالة ما وربما كانت آخر رسالة مني، قد حررت إليك بعد الخامس من شوال.. تضمن حكاية الرد أو عدم الرد على برقيتك بالتهنئة.. أو حماقتك كما ينبغي أن يصطلح على وصفها..
كانت تلك الرسالة قد ناقشت موضوع هذه الحماقة بصفاء وبصدق، وبمزيد من الخجل الخفي..
تقولين في رسالتك اليوم، إنها لم تصل، لا تقلقي لا بد أنها في رحلة جانبية إلى الزهرة.. أو المشتري.. أو عطارد وستهبط قريباً أو بعيداً عليك أو على سطح أحد جيرانك..
لا تقلقي عليها.. إن كل ما يخلص من جاذبية الأرض يتحرر من قيود الحياة.. أو حياة القيود..
وبهذه المناسبة أسألك فجأة: هل أنت على استعداد لرحلة إلى القمر أو أحد أقاربه؟ إنها رحلة لن تكلف ما تكلفه الرحلة إلى لبنان أو القاهرة.. هي الآن لا تكلف أكثر من الاستعداد للمغامرة.. وبمرور الوقت وكثرة الإقبال عليها.. وبحكم المزاحمة والمنافسة بين الشركات.. والدول.. أو صواريخ التاكسي سوف ينخفض الأجر إلى مستوى أجرة الدرجة الأولى في أتوبيس مصر الجديدة مثلاً.. الذهاب فقط.. فمن المؤكد أن من يفارق الأرض لن يعود إليها.. إلا ليحاكم على جريمة كبرى.. كأن يقتل إنساناً في أحد الكواكب..
إن أية عقوبة لا تبلغ شدة النفي إلى الأرض..
أرأيت كيف يتوالد الكلام.. وينتقل.. السياق إلى ما يهول ويروع.. ويخنق الأنفاس؟ إنها بالضبط حالة الحياة.. وحالة العلاقات.. والحالة في ما لا نزال نحتفظ له باسم (بيتنا).. بالرغم من أنه لم يعد يمثل غير كهف.. أو حرش أو دغل -في غابة منقطعة في الحياة..
بنفس البساطة يتزحلق الإنسان من طور إلى غيره في حياته.. كأنما هو مركب على (بِليِّ).. دولاب.. لولب.. لا يدري كيف تبدأ عملية الانزلاق ولا كيف تتم ولا لماذا؟.. تتم على وجه معين ولا تتم على غيره؟
ليس أمراً طيباً أن يصدع رأس حامل رقيقة المزاج مثلك.. بهذا الكلام.. ولكن انسياقي وراء نقطة بالذات ربما بررته لك في النهاية.. وربما فشلت في تبريره.. إنها النقطة التي يعبر عنها هذا السؤال..
لماذا نتشبث دائماً بما يربطنا بالحياة مع إدراكنا التام بأن أسباب الارتباط بها يضعنا في قيود أكثر.. وتوترات أكثر؟.. ويضع لنا -كالحضارة- مزيداً من الشقاء. إنها غريزة التزحلق المستمر أو دوامته الحقيقة بالتأكيد..
أعرف هذا جيداً.. ولكن لماذا نعجز دائماً عن المقاومة عندما نزعم أننا نريدها؟ ولماذا لماذا لا نستمع إلى ما نريد أن نسمعه.. ولو تظاهراً بالإصغاء والتأثر والقبول.
عندما نعجز عن المقاومة ونحن نريدها.. فالمسألة إما ملهاة أو مأساة.. إما شيء يضحك أو يبكي..
أنا أفضل أن تظلي حيث أنت. حتى تخرجي مما تظنينه معركة.. إنه أمر بسيط جداً.. لا يحتاج إلى مهارة خاصة.. فعندما تكون الحياة طبيعية.. تستطيع المرأة أن تلد وهي جالسة وأحياناً وهي تقوم بعملها في المطبخ أو على طشت الغسيل.. ولكنه تراكم التقدم البشري.. وما جرَّه من تعقيدات نابعة من احتياج متزايد إلى العمل والارتزاق على أوسع نطاق وأقل جهد، سلطت المخاوف على الإنسان -والمؤثرات..
تصوري أن الإنسان أسهل من أي عمل في الطبيعة.. اصطياد إنسان بأية طريقة أسهل من اصطياد أي حيوان..
أصبح الإنسان هو الفريسة.. وعليه أن يكون مفترساً في نفس الوقت.. ضحية ومجرم.. هايد وجيكل..
كما تستغل الصناعة كل معطيات المادة، استغلت كل جزئية في الإنسان.. كل يعمل من جانبه وبأسلوبه.. وقدرته..
الشعر والحلاقة.. الدمامة والتجميل.. الجمال والمبالغة في الفتنة.. الناس والملابس.. الجوع وصناعات الطعام.. الجنس والكباريهات.. والخمارات.. والمراقص.. والصور.. والأفلام.. وتجارة الدعارة.. المرض والعقاقير والأطباء.. والمستشفيات والممرضات الجميلات.. الأعصاب والتدخين والمشروبات المثبطة والمنشطة.. الصراعات والتوترات.. والعيادات النفسية.. وقراءة الكف.. والتدجيل.. الملل.. الكسل.. الثقافة.. الملاهي.. الكتب.. الموت والتربي والحانوتي وعربات. "هو الباقي وكلنا لها".. والقراء و.. المال والسرقة.. والأدباء والجنون..
الإنسان بكل ملليمتر فيه هو الهدف.. وهو المادة التي تقصد للاستغلال.. ومجاله.. وتربته.. ونقطة الصراع.. كالخروف تماماً.. كل جزء فيه يمد احتياجات بشرية.. ومصانع.. ويفتح بيوتاً.. حتى بعد موته لا بد أن تتحول أعضاؤه إلى مبيعات.. هذا للدراسة.. وهذا للزينة.. كالشعر والأسنان.. وهذه لصناعة السكر.. وهذا لغش بعض اللحوم..
صور قائمة.. ولكنها مع الأسف من نسيج الحياة نفسه..
الجانب الكوميدي فيها.. هي أنها تضحك.. كل شيء فيها عبارة عن نكتة تحمل وتلد بدورها بضع نكات.. على ذات الطريقة.. والمستوى..
نعم اثبتي حيث أنت.. إلا إذا قال لك الطبيب انتقلي إلى الخارج.. وهذا الخارج يجب أن يكون لبنان.. من غرفة في أوتيل أو بانسيون إلى المستشفى.. بعد أسبوع بأكثر تقدير، ستخرجين أقوى مما دخلت وقد أصبحت قوة 20 حصان.. حاولي دائماً أن تتبسطي. ولا تنسي نصائحي الذهبية.. ليكن طموحك علمياً.. وفكرياً وثقافياً.. أما حياتك كلها فلتكن بسيطة لأن ابتعادك عن البساطة يضاعف أعباءك ويضعك على طريق شاق طويل.. يأخذ منك ومن حياتك أضعاف ما يعطي وهو لا يعطي إلا تصورات هبائية..
إن كان لي حق الفيتو فأنا أعترض على أن تلدي بالقاهرة.. ستكون هناك ارتباكات لا تخرجين منها بغير آثار من الإعياء في أعصابك..
أعرف أن نصيحة كهذه لن تجدي وأنها قد تفسر بأنها رغبة في إبعاد المشكلة عن مجالي..
أعرف هذا ولكني أقولها بكل حزم وبساطة ولك أن تفعلي ما تشائين.. وماذا نقول بعد؟ لقد استهلكنا الوقت.. ولكن أبواب الثرثرة دائماً مفتوحة لاستقبال وارداتها..
ضعي في فكرك دائماً أن الأفضل أن تضعي طفلك في الجو الذي سينشأ فيه وعلى الأرض التي يرتبط بها..
أنت أمه.. ولكن هناك أهله.. يجب أن لا تحرميهم من الشعور بفرحة استقباله.. كان الإنجليز في مستعمراتهم.. وفي الهند يحرصون أن يولد أطفالهم على ظهر باخرة إنجليزية باعتبارها أرضاً ووسطاً إنجليزياً عندما يكون الوصول إلى إنجلترا صعباً أو متعذراً.. أو ليس ضرورياً..
إنها تجربة إنجليزية.. نفسية.. وليست سياسية لأن القانون أعطاها شارة الأفضلية. ألا تخشين أن تخرجي من المعركة بأكثر من طفل وبنفس التكاليف.. إنها فرصة طيبة.. كفرص المزادات -والشراء بالجملة..
إن مولداً أكثر أهمية من الوجهة الموضوعية يجب أن تفكري فيه بجد واهتمام.. هو دراستك.. ونتيجتها الموفقة..
ليس عملاً رائعاً أن تلدي طفلاً.. أو أكثر..
ولكن العمل الرائع أن (تحملي) شهادتك الجامعية الأولى وما بعدها..
ربما كانت النظرية قديمة.. ولكنها صحيحة وثابتة ولن يغيرها الزمن.. بل سيزيدها ثباتاً.. كلما تطور الصراع في الحياة..
حاولي وبكل قوتك أن تكوني مسطحة المزاج إلى أكبر مدى.. لا تحاولي أن تتعرضي لأعماق الأشياء.. الآن على الأقل..
ليس هذا أوان التعمق بالنسبة لك.. لا تفقدي بساطتك..
لا ترهقي نفسك بالتزام الكتابة إليّ..
في يوم ما سترينني أمامك فجأة كالمارد أو الكابوس ولن يكون طفلك موضوع اهتمامي.. أنت بالنسبة لي الموضوع وحده..
سيكون أول عمل لي أن أحولك إلى غصن بان بعد رحلة الوضع.. إلا إذا حال بيني وبينك طفلك المنتظر.. وهذا ما ينبغي أن نتوقعه من الآن..
ليس محتملاً أن تكوني أقل حماقة من أية امرأة في الوجود.. تبعد أباها أولاً لتتفرغ لطفلها.. قلت أباها ولم أقل أمها أو شيء آخر..
من السهل أن أعبىء شعوري من الآن لهذه الحقيقة وسأكون سعيداً بها أيضاً.. كي تترجم هذه الحقيقة إلى واقع ملائم؟ هذه هي المسألة المعقدة ولو إلى حد ما..
عندما تصبحين أماً سيكون كل شيء على ما يرام.. بدرجة أنك ربما استغنيت عن الاستماع لأي شيء آخر؟
في حياتنا هنا، كل شيء على ما لا يرام.. لا تخطئي القراءة.. (على ما لا يرام).
الظروف هي التي تضع القرار.. ولكن هذا منطق قد يعسر فهمه.. ولذلك رأيت تدخلك ضرورياً.
من المحتمل أني أفكر بطريقة لا يعتبرها الآخرون مستقيمة ولكن لي ظروفي أيضاً التي تملي على نظراتي وأحكامي..
إن الآخرين -كل الآخرين هكذا- يتصرفون حسب ظروفهم وضروراتهم ولا بد أن يكون لي نفس الحق.. عندما يتحمل إنسان نتيجة خطئه فالمسألة طبيعية وعندما يحمل أخطاء الآخرين فهذا شيء مختلف..
كانت حياتي الماضية كلها حتى أمس محملة بأخطائي وأخطاء الآخرين.. وكنت أصبر لأن ظروفي كانت تعينني على الصبر والاحتمال.. مادياً.. ونفسياً.. أما الآن فقد اختلفت الظروف بحيث لم يعد هناك احتمال لأخطائي مهما صغرت.. ومن هنا تبدو لك الحقيقة المرعبة في احتمال أخطاء الآخرين.. التي ما أزال عاجزاً عن الإيفاء بجزء بسيط من الالتزامات التي أثقلني بها آخر خطأ للآخرين..
لذلك يتحتم عليَّ الحساب الدقيق لكل خطوة أخطوها.. ولكل خطوة يخطوها الآخرون.. وحتى لكل خطوة لا نخطوها..
الأمر واضح.. أليس كذلك؟.. أرجو أن لا يضيع أملي في فهمك وتقديرك لقد عوملت بقسوة.. وبالرغم من هذا ما زلت في نظر الآخرين مسؤولاً عن الاستجابة لكل رغبة.. ولكل نزوة.. ولكل خطأ.. أقسى ما في الأمر، أن من تدهسينه بسيارتك لا تجدين ضرورة لنقله إلى المستشفى.. أو تقضين بجانبه.. بل تهربين منه لتتخلصي من رعب النظر إليه..
لا تتأثري، إنها النهاية الطبيعية لإنسان لم يسر على الطريقة التي يسير عليها الآخرون.. بل ظل يحلم بأن يعلو على مستوى الطين.. والتراب.. ويخالف معرفته للحقيقة التي فهمها الجهلاء.. والأغبياء.. على الوجه السليم..
لا تظني أنني أبكي بهذه الكلمات..
إني أضحك بها وأقهقه ساخراً بنفسي لأني كنت الغبي الذي يتهمه الناس بالفطنة، والضحك بهذا الأسلوب.. هو العزاء الوحيد الذي بقي لي..
لقد فهمت الحياة جيداً.. ولكن بعد فوات الأوان، فلم يعد لهذا الفهم معنى ولا جدوى.. هذا هو كل شيء..
ما أشد ما تروعنا الحقيقة التي تلقانا بها النهاية لرحلتنا العسيرة الشاقة التي ضحينا فيها بكل شيء للاشيء.. وبالدقة لما نحن الهدف الوحيد لضرباته وسخطه.
إنه انفجار جانبي من القهقهة الساخرة.. التي تعبر عن التعاسة عندما تتحول إلى شعور بالسعادة بواسطة الهذيان..
أسمعيني قهقهتك من أو على هذه الرسالة.. أريد أن أحس بأن لك قدرة على تحويل التعاسة إلى شعور بالسعادة بواسطة الهذيان..
افهمي يا بنت أغبى المخلوقات.. وق هـ ق هـ ي!
إن تلمسي الشعور بالسعادة على هذه الطريقة.. لا يقل أهمية عن طريقة برايل.. القراءة بواسطة الأصابع..
والآن.. حسناً يا شو.. هل تحسين كم أنا بحاجة إليك؟؟
إلى أن نلتقي في ردك المنتظر أقبلك وأدعو الله أن لا ترثي عني غبائي.. فيرثه أطفالك عنك..
قبلاتي.. وتمنياتي.. مرة أخرى..
والدك
حمزة شحاتة
 
طباعة

تعليق

 القراءات :468  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة الفيصل بن عبد العزيز

نائبة رئيس مجلس مؤسسي ومجلس أمناء جامعة عفت، متحدثة رئيسية عن الجامعة، كما يشرف الحفل صاحب السمو الملكي الأمير عمرو الفيصل