شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صفحة الحسين في مكة
في استطاعتنا أن نضيف حياة الحسين في مكة إلى الصفحات القليلة المشرقة في تاريخ أشرافها إذا استثنينا ما غشيها من فترة كدرت بعض جوانبها فقد كان يغلب عليه صفات الرجل المصلح لو سلم من المغالاة ولم يتطرف.
كان يميل إلى التديُّن واحترام أوامر الشرع ويحث عليها ويصر على تنفيذها في حدودها المقررة ولكنه كان كأكثر المؤسسين وأصحاب الثورات يأخذ بالظنة ويعاقب على الشبهة.. كان يقسو على خصومه ويذيقهم من هوانه في السجون والأقبية بصورة لا تتفق مع ميله إلى التدين والعدل.
وكان محافظاً حريصاً على التقاليد ولكنه يغلو في محافظته. وبالرغم من اختلاطه الطويل برجال الفكر في تركيا واحتكاكه بالحياة الراقية فيها كان شديد العداوة للتجديد فيكره السيارة ويحارب استعمالها ويصر على بقاء المواصلات العامة وقفاً على الجمال والبغال والحمير لأنها إنتاج محلي لا تنقل فوائده إلى جيب الأجنبي كما كان يمقت الرجل إذا أدخل على أثوابه العربية أي تعديل لم تستعمله البلاد.
وكان وطنياً يحرص على خير بلاده ويعد أهلها لمناصبها ويحلو له الاستغناء عن غير أهلها ولكنه كان يمعن في ذلك إمعاناً متطرفاً حتى صرف عنه كثيراً من العناصر المفيدة لنهضة البلاد وحرمها من عطف كثير من جيرانها.
وكانت له معلومات في السياسة ولكنه كان يعتد بها ويشعر أنه لا يدانيه فيها مدانٍ ولذلك كان يحصر ثقته في نفسه ويركز كامل المسؤوليات فيها ولا يبيح لرجال دولته التصرف إلاّ في حدود من إرشاداته وقد كلفه ذلك إرهاقاً لا يطاق وزج به كل صغيرة من مقدرات البلاد فكان يشارك العسس وكنَّاسي المسجد وعرفاء البلدية ومحرري الجرائد في أعمالهم ويتصل بهم اتصالاً مباشراً. ويأبى حتى على أولاده أو المتصلين بديوانه من أصحاب الثقافات العالية أن يستعملوا عقولهم لخدمة القضية فهو عريف الجميع ولا صواب إلاّ فيما يراه.
وكان يقظاً حريصاً على سلامة الدولة ولكنه كان يتغالى في يقظته حتى فرض الجواسيس ومنع الاجتماعات وأبلى حياته في تتبع ذلك وأكثر فيه حتى شارك المراقبين في دوراتهم الليلية وتجسس بنفسه بين الأزقة والبيوت فعانى الناس من ذلك شيئاً كثيراً ووجد مسترقو السمع لديه الفرصة مواتية للإيقاع بمن يكرهون فامتلأت سجونه بالأبرياء والمذنبين في وقت واحد.. وكان إلى جانب هذا لا يعترف بحرية الرأي ويحارب قراءة الصحف مهما كان نوعها فضلاً عن أن يبيح صدورها في بلاده.
وكان يعطف على الفقراء ويسند الضعفاء ويترك أبوابه مفتوحة للشاكين اللاجئين ولكنه كان يقسو في أكثر الأحيان على كثير من الناس وكان يشتط على فريق التجار والمستوردين والصرافين والمتلاعبين بالأسعار فيفرض عليهم العقوبات أو يصادر أموالهم، وأذلهم في أحد المرات بكنس الشوارع وتنظيفها علانية كما كان يترصد البيوت التجارية التي يشعر أنها تمعن في جمع الثروات فيفرض عليها الأتاوات فرضاً لا يقبل الهوادة ولا التسويف ويبالغ في فرضها إذا كان الثري من غير البلاد.
وكان يقتصد في أموال الدولة ويضن بصرفها ولكنه كان مبالغاً في ما يقتصد فلا يكسو الجند إلاّ أثواباً عادية من القطن الرخيص المصبوغ الكثير الترقيع ولا يبذل لقصاده من خدام القضية العربية وزواره من الشعراء وأصحاب الأقلام المأجورة إلاّ النزر القليل الذي لا يفي بحاجتهم فضلاً عن كونه يغريهم.
والحق أن مبالغته في الاقتصاد كانت تشمل أحواله الخصوصية ونفقاته الخاصة. وقد ذكر الريحاني أن البساطة تدنو في القصر (قصر جدة) من التقشف فتبدو في السجاد العادي وكراسي الخيزران والدواوين المغطاة بقماش من القطن والجدران العادية الخالية حتى من الآيات (1) .
وكان شديد التمسك بمظاهر استقلاله في الحجاز وفي سبيل تمسكه رفض تأسيس الشركات الأجنبية كما رفض عطاء لامتياز تقدم به بعض السوريين للتنقيب عن البترول والمعادن في الحجاز بفوائد طيبة من أهمها إنشاء خط حديدي بين مكة وجدة وآخر بين ينبع والعلا على أن يسلم الخطان ملكاً للحكومة وقد قال في أسباب رفضه أن بعض أموال شركات النعماني أجنبية (2) وبالغ في التمسك بمظاهر الاستقلال حتى منع الحكومة المصرية من تأسيس بعثة طبية لها في مكة بعثت بها صحبة الحاج المصري من النزول من الباخرة في جدة بدعوى أنها لم تتحصل على موافقة صاحب البلاد قبل مغادرتها مصر وأنه ليس من حقها الاستمرار في مكة إلاّ إذا كانت تصاحب الحجاج في رحلاتهم وتعود بعودتهم. وقد استاءت مصر لتمسكه وعرضت عودة رجال البعثة إلى مصر في باخرتهم مع جميع ما يرافقهم من كسوة الكعبة وأموال الصدقات فلم يثنه ذلك عما يرى وترك الباخرة تعود بجميع ما حملت وكان المحمل المصري في جملتها.
وكان حريصاً على محاربة الأمية في الحجاز ونشر التعليم على طريقته فنشط على أثر توليته إمارة مكة لفتح بعض المدارس الأولية ثم أضاف إليها غيرها للزراعة والحربية وأنشأ قريباً من هذا العدد في المدن الأخرى فأقبل الناس على طلب العلم وقدروا له نهضته في ذلك ولكن بعضهم عندما أراد الاستزادة من التعليم خارج البلاد أبى ذلك عليهم وقال إن علومنا تكفينا وعندما تبرع المستر (كراين) الثري الأمريكي بترحيل بعض الشباب إلى أمريكا لتعليمهم على حسابه الخاص رفض ذلك لأنه يكره الأجانب ويبالغ في كرههم ويرفض حتى علومهم.

المحمل المصري يحتفل في القاهرة بقدومه إلى الحجاز

وكان شجاعاً يمتاز بكثير من الثبات فعندما كانت قنابل المدفعية التركية يوم النهضة في مكة تصلي قصره بنيرانها كان ذلك لا يزعزع من إيمانه شيئاً حسبه أن يتنقل من غرفة إلى أخرى ربما بعدت عن هدفهم وبفضل هذا الثبات استطاع أن يحقق لاستقلال الحجاز بناء لا ينسى.
وكان إلى جانب ثباته عنيداً لا يسلس للواقعية ولا يرى رأي الساسة الذين يهادنون في بعض مبادئهم تحاشياً من أن يخسروا كامل المعركة فقد مر بنا تعصبه لما افترض لنفسه في حلفه مع البريطانيين.. والبريطانيون قوم ضرستهم الأيام وعلمتهم كيف يحنون رؤوسهم للعاصفة حتى إذا مرت نصبوا قاماتهم واقفين وحققوا نواياهم غير مبالين.
كان الحسين يعلم مبلغ الفرق بين قوتهم وضعفه ولكن مضاءه أبى عليه إلاّ أن يثبت لما أعتقد رغم مماطلتهم.
وعقد مؤتمر الصلح على أثر الهدنة وتسليم العثمانيين فدعى الحسين ليندب من يمثله فاختار ابنه فيصل وألزمه أن لا يهادن.
ولما فشل في إثبات حقه في المؤتمر كما فشل قبل المؤتمر ظل على مضائه.
واقتضت مطامع الإنكليز الاستعمارية أن يفصلوا العقبة عن الحجاز بدعوى أنهم يضمونها إلى ابنه في شرقي الأردن فلم ينطل عليه الأمر وشرع يكيل لهم الاحتجاجات العنيفة في ألفاظ قاسية. ولو كان لعنف الاحتجاجات وقسوة الألفاظ قوة المدافع والأساطيل لاستطاع أن يصل إلى حقوقه كاملة، أما والأمر غير ذلك فإن عناده في الخصومة لم يستفد منه غير تعقيد الأمور واتساع الخرق.
وقد اتسع الخرق حتى بات البريطانيون يحسبون حسابه كلما ارتفع صوت بين أحزاب العرب فرأوا أن يتخلوا عنه ويتركوه لخصمه ابن السعود يحل مشاكله معه بنفسه (3) وبذلك عجز عن المقاومة واضطر إلى ترك البلاد.
ولم تهن سورته حتى بعد أن ترك البلاد فقد ظل يوالي احتجاجاته في قسوة ويشهر سلاحه في عنف وظل ديوانه في منفاه في قبرص نشيطاً في إصدار البيانات باسمه كخليفة على الرغم من أنها كانت عديمة الجدوى.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :558  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 228 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.