شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
النفوذ العباسي
وبالرغم من شدته فإن النفوذ العباسي استطاع أن يتسرب إلى إمارة مكة من طريق المرسوم لأول مرة منذ عهد جعفر الثائر، فإنه ما كاد يوافي المرسوم حتى أقبل الركب العراقي تحت إمرة مملوك من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه ((أقباش)) يحمل مرسوم الولاية باسم الحسن وكان الحسن قد وصلته بعض الأنباء بأن أخاه راجحاً اتصل بأقباش وأغراه بنقل الإمارة إليه وبذل له وللخليفة مالاً!! فغضب لذلك حسن وأغلق أبواب مكة دون حاج العراق ومنعهم من دخولها فقاتله أقباش عند باب مكة، ثم ما لبث أقباش أن انفرد عن جنده مصعداً في جبل الحبشي بجوار السور (1) إدلالاً بمركزه وثقة في نفسه، ولعلّه أراد أن يتوسل بذلك للمفاهمة -فأحاط به عسكر الحسن وقتلوه وحملوا رأسه على رمح فنصبه الحسن بالمسعى عند دار العباس وبذلك انهزم عسكر العراق وأحاط أصحاب الحسن بالحاج لينهبوه فمنعهم حسن من ذلك (2) .
وهكذا تم الأمر للحسن بعد أن أبلى في سبيل ذلك ما أبلى وبعد أن ضحى بأبيه وعمه في سبيل الحكم، وما لبث الحسن أن أعتذر للخليفة العباسي عما حدث فقبل منه.
وكان الحسن أديباً شاعراً وفي شعره تتجلى روح المغامرة التي تميز بها ومن ذلك:
أبى اللَّه والخطية السمر والظبا
وكل كمى لا يرى النذل مذهبا
بأن يتولى أمر مكة حاكم
سوى من له سيف طويل ذو شبا (3)
وظل الحسن في إمارته إلى السنة التالية حيث أجلاه صاحب اليمن الملك المسعود عن مكة انتصاراً لأخيه راجح الذي التجأ إليه في سنة 620.
صاحب اليمن في مكة: لم يكن راجح بن قتادة أقل من أخيه الحسن عناداً وجرأة فإنه أبى أن يترك ثأره لدى أخيه بعد الهزيمة التي مني بها وهو يقاتل مع أقباش لذلك خف إلى اليمن واتصل فيها بصاحبه الملك المسعود ويلقبونه ((أقسيس)).
والملك المسعود هو ابن صاحب مصر الملك الكامل الأيوبي وكان يحكم اليمن باسم أبيه الملك الأيوبي ويعتز فيها بقوة تستمد نفوذها من أبيه في مصر.
وقد استطاع راجح أن يستثيره ضد أخيه الحسن في مكة وأن يزين له احتلالها وضمها إلى نفوذ الأيوبيين في مصر واليمن، فمضى المسعود على رأس جيش إلى مكة مصطحباً معه راجح بن قتادة فانتهى إليها في 4 ربيع الأول سنة 619 أو 620 وبادرها بالهجوم المفاجئ فلم يشتبك معه المدافعون إلاّ في شارع المسعى وقد قاوم الحسن وأصحابه بعض المقاومة، ثم بدا للحسن أنه لا رجاء له في دفاع جيش المهاجمين فأجلي عنها وترك المسعود يحتلها.
ونهب عسكر المسعود بيوت مكة وجردوا المدنيين من ثيابهم وأموالهم ونبشوا قبر قتادة وأحرقوا تابوته فلم يجدوا الجثة في القبر فعلم الناس أن الحسن دفن أباه خفية في مكان سري، ورُئي الملك المسعود يصعد فوق قبة زمزم ويرمي حمام مكة ((بالبندق)) (4) كما رُئي غلمانه في المسعى يضربون الناس بالسيوف في أرجلهم ويقولون خففوا من سعيكم فإن السلطان نائم سكران وكان الدم يجري من سيقان الناس في الطريق بجوار دائرة السلطنة بالمسعى (5) .
ويحز بالنفس ويؤلمها أن يلطخ وجه الإنسانية بأمثال هذه الفظائع الشنيعة لا في تاريخ مكة وحدها ولا بين المسلمين في مختلف ميادينهم بل في كل بقعة من بقاع الأرض منيت بإنسان ظالم تنشيه خمرة النصر فتنسيه مبادئ الرحمة وحقوق الإنسان، وقد رأيت بعض المؤرخين ينحون باللوم على قسوة أمراء مكة والواقع أنها قسوة لا يبررها دين أو عدل وأنه يشاركهم في أمثالها كل العابثين في جميع أدوار التاريخ وفيهم من أنصار الإنسانية وزعماء الأديان ودعاة المبادئ ممن تنسيهم نشوة الظفر ما يدعون إليه من دين أو مبدأ إنساني، على أني رغم هذا لا أستبعد المبالغة في كثير مما يرويه المؤرخون عن خصومهم.
والأنكى من هذا أن الحسن صاحب مكة وكان قد أساء الأهالي يوم ظفره بما اقترف من فتك لم يمسه في هذا العدوان شيء فقد نجا بنفسه إلى أطراف البادية دون أن يناله أذى وترك المظلومين في مكة بعده يعانون من عذاب ما اقترف ويلاً وثبوراً وهكذا ((يأكل الآباء الحصرم والأبناء يضرسون)).
وأهلَّ موسم الحج في ذلك العام 619 أو 620 فدفع المسعود بجيشه إلى عرفات ومنع من أن تنصب راية العباسيين على الجبل فيها وأمر بنصب راية والده ورايته وكاد أن يشتبك معه أمير الحج العراقي لكنه شعر بقلة جنده وقيل إنه أباح رفع الراية العباسية قبيل غروب يوم عرفة بعد أن خوفه بعضهم من سطوة العباسيين (6) .
وظل المسعود على أمره في مكة إلى ما بعد فراغه من الحج ثم توجه إلى اليمن بعد أن أناب أحد قواده ((عمر بن علي بن رسول)) وأبقى لحراسته 300 فارس وولى راجحاً بعض الأعمال المتصلة بالبادية.
ومن الغريب أن أعمال المسعود العنيفة في مكة أفادت ضد الإفساد وشتتت شمل الإرهابيين وقطعت دابرهم فشاع الأمن بين البوادي وكثر جلب الأرزاق وعم الإخاء.
وسهل المسعود على الحجاج أمر دخول الكعبة فأمر بجعل بابها مفتوحاً ليلاً نهاراً مدة مقام الحج فيها وأطلق لسدنة الكعبة من بني شيبة مالاً لقاء ما كانوا يأخذونه بإغلاق الباب وفتحه لمن أرادوا وتحاشياً من زحام الناس لقصر المدة التي كانوا يفتحون فيها الباب وعظم ما يناله الناس من إرهاق وضرب وموت وقد عاد الشيبيون لما يتقاضونه بعد الملك المسعود.
وبنى الملك المسعود القبة الحديد الموجودة على مقام إبراهيم ولا تزال باقية إلى اليوم وكانت قبته قبل ذلك غير ثابتة فقد كانوا ينقلون حجر المقام إذا اشتد الزحام إلى داخل الكعبة أو أحد أركان المسجد (7) .
واتصلت أنباء المسعود بالعباسيين في العراق فاستاءوا وكتب الخليفة إلى عامل مصر وصاحبها الكامل الأيوبي والد المسعود يعاتبه على فعل ابنه فكتب الأول بدوره إلى ابنه يعنفه ويشدد عليه اللوم؛ لكن ذلك لم يغير من خطة الملك المسعود وقد ظل نائبه في مكة يدعو له ولأبيه في مصر دون العباسيين ثم اقتصر على الدعاء له وحده (8) .
وحاول الحسن بن قتادة أن يعيد الكرة على حكومة المسعود في مكة بعد خروج المسعود إلى اليمن فاستنفر القبائل في ينبع وسار بهم في جيش حتى انتهى إلى الحديبية ((الشميسي)) (9) فخرج إليه ابن الرسول (10) نائب المسعود فهزمه فولّى الفرار متوجهاً إلى بغداد حيث مات بها ودفن في مشهد الكاظمي (11) .
أمير المدينة يحاول استخلاصها: وفي عام 622 حاول أمير المدينة قاسم الحسيني استخلاص مكة من نائب المسعود ولعلّه دفع إلى ذلك بإشارة من الأيوبيين في مصر فسار بجيش كثيف إلى مكة وحاصرها نحو شهر ثم استأنف عودته دون أن يظفر منها بنائل (12) .
ياقوت المسعودي: وظل ابن الرسول في نيابته على مكة إلى عام 625 ثم عاد إلى اليمن وتولى النيابة بعده في مكة ياقوت بن عبد الله المسعودي وذلك في جمادى الآخرة من السنة المذكورة وكان يلقب نفسه ((أمير الحاج والحرمين ومتولي الحرب بمكة ومدير أموال الجند)) (13) .
موت المسعود في مكة: وفي سنة 626 قدم الملك المسعود إلى مكة لزيارتها فما لبث أن أصيب بمرض الفالج فتعطلت يداه ورجلاه عن العمل وقاسى ما لا يطاق من الآلام المبرحة حتى ذكر أنه قال لرجل مغربي أن نفسي لا تطيب لكل ما لدي من أموال فتصدق علي بكفني فبعث إليه المغربي بمائتي درهم مع ما يكفي لكفنه ثم ما لبث أن اشتد عليه المرض وتوفي بعد أن أوصى بأن لا يدفن إلاّ في مدافن الغرباء وقد بنى عليه أحد عبيده بعد ذلك قبة يقول السنجاري (14) أنها كانت باقية إلى عهده.. وأقول: إذا كانت القباب تبنى على مثل هؤلاء فما أرخص القباب بين الشارات.
طغتكين: وبوفاة الملك المسعود اضطرب أمر الحكم في مكة وقام أصحاب مصر من الأيوبيين يناوئون الحكم اليمني في مكة ودامت الاضطرابات بين الفريقين عدة سنوات. ذلك أن ابن رسول في اليمن عندما بلغته وفاة الملك المسعود نادى بنفسه ملكاً على اليمن وبعث مرسومه إلى مكة بإقرار ياقوت المسعودي نائباً عنه فندب الكامل الأيوبي في مصر جيشاً بقيادة ((طغتكين)) (15) لإجلاء اليمنيين عن مكة فقاتلهم قتالاً شديداً حتى أجلاهم عنها وبذلك استولى على إمارتها وخطب فيها للكامل الأيوبي في مصر (16) وسمع الخطيب يقول على المنبر في حق الملك الكامل صاحب مكة وعبيدها!! واليمن وزبيدها ومصر وصعيدها والشام وصناديدها والجزيرة ووليدها سلطان القبلتين ورب العلامتين وخادم الحرمين الشريفين المحترمين الملك الكامل أمير المؤمنين ولم أفهم مراده من مكة وعبيدها!! أكان يقصد أن عبيدها دون عظمائها تابعون له أم أن سجعة القافية جاءت بذلك دون أن يقصد بها معنى خاصاً.
راجح بن قتادة: وظل الأمر على ذلك إلى سنة 627 حيث استأنف اليمنيون هجومهم على مكة في جيش كثيف وعلى رأسه راجح بن قتادة وقد نزلوا بالأبطح محاصرين وأرسل راجح إلى مكة يذكرهم بإحسان ابن رسول إليهم أيام حكمه فمال رؤساء مكة إليه فلما أحس ((طغتكين)) بذلك فرّ إلى وادي نخلة (17) وترك مكة يحتلها راجح وبذلك عادت الخطبة للمنصور بن الملك المسعود من أيوبيّين اليمن.
بين كر وفر: وظلت مكة عرضة لهجوم القوات الأيوبية من مصر مرة ومن اليمن أخرى نحو 28 سنة بدأت بهجوم صاحب اليمن في عام 619 وانتهت بهجوم أحد أولاد قتادة لاستخلاصها لنفسه في عام 647 كما سيأتي.
وقد تداول الحكم في مكة كل من الفريقين المتقاتلين أثناء ذلك نحو ثماني مرات قاست مكة في تضاعيفها من الأهوال والمصائب ما لا يوفى حصره وعانت من غلاء المعيشة وقلّة الأرزاق ما لا يطاق.
واضطر صاحب اليمن الملك المنصور بن رسول أن يقود بنفسه جيش اليمن في واقعتين من وقائعه كانت إحداها في عام 635 وكانت الثانية حوالي عام 639 وقد ذكروا أن المحتلين لما علموا بقدومه إلى مكة في المرتين أحرقوا دار الإمارة فيها بما ذخرت به من عتاد وسلاح كما أحرقوا كثيراً من الأرزاق (18) . وعندما ظفر ابن رسول بإجلاء أيوبيّي مصر في 639 أقام بمكة حتى صام رمضان بها وأبطل المكوس والجبايات وكتب بذلك مربعة جعلت قبالة الحجر الأسود، وقد دامت هذه المربعة عدة سنوات ثم اقتلعها خصومه على أثر إجلائه من مكة (19) .
وتداول الحكم في مكة أثناء هذه الفتن جماعة منهم ((طغتكين)) وقد وليها مرتين وابن مجلى، وجفريل وهما من مماليك الأيوبيين في مصر كما تداولها في المرات التي احتلها أبو اليمن، راجح بن قتادة في أكثر فترات الاحتلال ثم فخر الدين بن السلاح ثم محمد بن المسيب اليمني (20) .
الحسن بن علي بن قتادة: وقد استبد المسيب آخر ولاة اليمنيين بأمره في مكة واستولى على بعض الصدقات الخاصة بالأهالي ومنع الجند نفقتهم وأعاد الجبايات والمكوس (21) فاقترح بعض كبار العرب على أبي سعد الحسن ابن علي بن قتادة استخلاص إمارة مكة لنفسه وحسنوا له ذلك وكان يقيم في ينبع فسار في مقاتلته إلى مكة فحاصرها ثم حمل على أصحاب اليمن حملة موفقة استولى فيها على مكة في يوم الجمعة 9 ذي القعدة سنة 647 بعد أن قبض على ابن المسيب فيها وصادر خيله وسلاحه وأمواله ثم أطلقه.
وباستيلائه على مكة انطلق عمه راجح بن قتادة إلى المدينة يستنجد أميرها من أولاد المهنا بني حسين وهم أخواله فأنجدوه بنحو 700 فارس ليجلي بها الحسن بن علي بن قتادة (22) .
ظهور أبي نمي الأول: وعندما شعر الحسن بن علي بن قتادة في مكة بحركة راجح في المدينة وعلم أنه سيهاجمه بقوة من المدينة، كتب إلى ابنه أبي نمي في ينبع أن يقطع الطريق على المهاجمين.
وكان سن أبي نمي في هذا العهد لا يتجاوز السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، إلاّ أنه كان موفور النشاط معروفاً بالشجاعة وقد استطاع أن يخرج عليهم بأربعين من قومه فيقطع طريقهم ويهزمهم.
ودخل أبو نمي مكة بعد هزيمة عم أبيه منصور فأكرمه أبوه واتخذه شريكاً له في الإمارة (23) وهي أول شراكة ابتدعت في إمارة مكة تلاها كثير من نوعها فيما سيأتي من فصول.
ويشيد الفاسي (24) بأوصاف الحسن فيضعه من الشجاعة في المكان الأعلى ويقول أن أمه -وهي حبشية- كانت مثلاً طيباً في النساء، لحقته في بعض حروبه في هودج وقالت له: إنك تقف اليوم موقفاً إن ظفرت فيه قال الناس ظفر ابن بنت رسول الله، وإن فشلت قالوا فشل ابن الأمة السوداء، فانظر لنفسك فإنه لا موت قبل فراغ العمر، فكان لذلك أعظم الوقع في نفسه لأنه قاتل في تلك الموقعة حتى ظفر.
وفي عهد الحسن حج الملك المظفر بن المنصور صاحب اليمن في سنة 649 فلم يناوئ الحسن ووزع في مكة كثيراً من العطايا وكسا رؤساء الحرم ووصلت أعطياته إلى كل بيت في مكة وشملت كثيراً من الحجاج (25) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :464  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 77 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.