شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(11)
ومضت الأيام، وفرغ جميع المطوفين من أعمالهم الموسمية وبدؤوا يتزاورون ويجتمعون في مجالس لهم وندوات يتناقشون فيها شؤونهم، ويستعرضون متاعبهم وما يقاسون من لأواء مهنتهم وأكدارها.
وكان حسن لا يعجبه من زملائه المطوفين شيء كما يعجبه هذه الروح التي تتجلى في مجتمعاتهم المتكررة والتي يلمسها في عنايتهم، بمناقشة كل ما يحيطهم من شؤون لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بأعمالهم.
وكان يستغرب من بقاء أمورهم على حالها رغم نشاطهم، ورغم عنايتهم بشؤون مهنتهم. ولا يعرف كيف يعلل ذلك.
وزاره في أحد المرات مطوف زميل كان من أشد رفاقه نشاطاً وسمعة. فشرعا يستعرضان شؤون المهنة ويناقشان أحوالهما، فسأله حسن:
- إذا طلب إلينا أن نلخص ما نشكوه من أمور مهنتنا في مواد محدودة فكيف نلخصها؟
- إنني أراها تنحصر فيما يأتي:
(1) عناء الاغتراب.
(2) ما نقاسيه في ملاحقة الحجاج الذين يضيقون ذرعاً بإلحاحنا.
(3) ما يعاملنا به السماسرة الذين يقتطعون من أرباحنا في المجموع جزءاً هاماً.
(4) ما نعانيه في مكة في التوفيق بين مستوى المعيشة في بلادنا وبلاد الحجاج، ويتجلى في أجور السكن والخيام وما إلى ذلك.
(5) ما نعانيه في التوفيق بين رغبات الحاج وترتيبات النقل في عرفات وما نقاسيه من عجرفة الشركة التي أصبحت تعتبر نفسها في مركز السيد.. وتنظر إلى عموم المطوفين من أشكالنا، نظرتها إلى المسود الذي يجب أن يخضع لقوة إدارتها.
(6) ما نكابده من النفقات الباهظة وأجور الخدم ومصاريف الاستقبال.
(7) يجرنا التنافس إلى نسيان حقوقنا لدى الحجاج توسلاً لرضائهم وخدمة لمستقبلنا.
- عظيم.. وفي استطاعتك أن تضيف إلى ما ذكرت حاجتنا إلى قبول هبات الحجاج في بلادهم، كما تضيف عنجهية بعضهم التي تضطرنا إلى محاولة استرضائهم، وتضحية حقوقنا في سبيل ذلك.
- نعم كل ما تقوله صحيح. ولكن هل تستطيع علاج كل هذه الشكاوى؟
- ألم تفكر قبل اليوم في ما يعالج ذلك؟
- إنني فكرت طويلاً وانتهيت إلى أن أفضل علاج لجميع هذه المشاكل هو توزيع البلاد بين المطوفين توزيعاً عادلاً يقضي على منافسات المطوفين.
- جربنا توزيع البلاد قبل اليوم فرأينا الحجاج يعانون من استبداد المطوفين ما يعانون، كما رأينا المطوفين يقاسون من ويلات خلافهم ما يقاسون، فإن الأقسام الموزعة كثيراً ما تنشأ بينها قرى جديدة يختلف المطوفون في نسبتها إلى حصصهم، كما أن بعض المقاطعات تختزل حتى تكاد تمحى أو تتسع حتى يتعذر تحديدها، وتختلط حتى تضيع معالمها أو تضاف إلى دولة أخرى حتى يصعب نسبتها. والمطوفون بين ذلك يعانون من شدة خلافهم وعنادهم ما يصعب حله.
- وهل في استطاعتك أن توفق إلى خير من هذا العلاج؟
- عندنا العلاج الطبيعي الذي تلجأ إليه كل طائفة متنافسة وتحتكم راضية بقسمتها منه.
- أي علاج تعني؟
- إنه العلاج الذي تلجأ إليه الشركات إذا تضاربت، والمحال التجارية إذا تنافست، والطوائف المتجانسة إذا شعرت بما يلحق أعمالها من فساد أو بوار.. إنه العلاج الذي ينظم أمورها ويحجز السوق العامة في معادلة متناسقة مضبوطة وقد اعترفت بهذا العمل شركات السيارات لدينا مؤخراً فاستطاعت أن تحفظ مصالحها وأن تصون مركزها وتقضي على عوامل التنافس بين أعضائها.
- وما معنى هذا؟
- أعني أن شركات السيارات نشأت في بلادنا أول ما نشأت متنافسة. تضرب الواحدة أختها في سبيل الظفر دونها مهما كلفها ذلك.. لعلّك لا تنسى أن رئيس كل شركة أو مندوبها كان يلاحق المطوفين في بيوتهم عارضاً عليه خدماته.
- نعم فقد كان يلاحقنا صباحاً مساءً ليظفر بموافقتنا على ترحيل الحجاج من طريقه، وكان يغرينا بمبالغ طيبة من المال يخسر في سبيلها نحو نصف أرباحه. وكنا مع هذا نتثاقل ونتخابث لأن العروض كانت تتوافر في سخاء من جانب الشركات الأخرى.
- عظيم.. هو ذا حال المطوفين اليوم مع حجاجهم. يلاحقهم، ويغريهم، ويتثاقلون فيسترضيهم.. وسيظل شأننا معهم كذلك إلى أن نستطيع العلاج ونجرؤ عليه.
- غريب قولك نجرؤ عليه.
- ليس في هذا من غريب. فنحن طائفة ورثنا مهنتنا من نحو ستمائة سنة، وتغلغلت في دمائنا جميع تقاليدها، فإذا فوجئنا اليوم بمن يهيب بنا أن ننقض هذه التقاليد أو نبني على أنقاضها قواعد جديدة فإن في ذلك ما يسيء إلى شعورنا، وينهك حرمات ما ألفناه. وورثنا قداسته جيلاً بعد جيل، ولا يتابعك في هذا النقض إلاّ جريء لا يبالي بقدسية ما ورث بقدر ما يبالي بنقد الحقائق وفرزها.
- ولكني لم أفهم حتى الآن نوع العلاج الذي تشير إليه، والقواعد الجديدة التي تريدنا على أن نبنيها على أنقاض ما كان.
- إنها قاعدة واحدة لا أكثر.. نتفق فيها على نقابة تجمع أرباحنا بشكل منظم ثم توزعها في ترتيب يصون مصالحنا ويحفظ علينا كرامتنا.
- ما رأيك في أن توضح أكثر من هذا!
- إنك تستطيع أن تفرض أن مجموع ما تستقبله بلادنا سنوياً من الجميع قد يصل إلى مائتي ألف حاج ابتداء من الجنس التركي إلى نهاية الجنس الصومالي. كما تستطيع أن تفرض أن مجموع عدد المطوفين من جميع الطوائف قد لا يزيد كثيراً عن ألف مطوف، ومعنى هذا، (بلغة الأرقام)، أن من الممكن أن تبلغ حصة المطوف الواحد إلى مائتين حاج إذا جاز توزيع أرباح هذا العدد من الحجاج على سائر المطوفين.
- إذا جاز هذا أوثق أنه لا يجوز.. لأنه في استطاعتنا أن نفرض التوزيع على الحجاج.
- لا. بل أرجو أن نقول: إنه ليس في استطاعتنا أن نفهم الأمور بتؤدة، وأن نتابع الفكرة حتى نستوضحها. إنني يا صاحبي لا أقول إننا نوزع أشخاص الحجاج، بل نوزع أرباحهم.
- أتقصد أنني أخدم الحجاج وتستلم أنت أرباحهم؟
- هذا ما أقصده تماماً.
- وتريد أن تسمي هذا علاجاً؟
- بل هو العلاج الوحيد. ولا ينقصه إلاّ أن تعطيني الفرصة لتوضيح فكرتي.
- سأعطيكها فتفضل.
- سنبيح لنقابتنا أن تجمع إلى صندوقها ما يتقرر على الحاج للمطوف من جميع الأجناس كما نبيح للحاج أن يسأل عن أي مطوف شاء بشرط أن لا ينال المطوف شيئاً غير المقرر له في صندوق النقابة أسوة بإخوانه.. إلاّ في حالات استثنائية ينص عليها النظام.
- وهل معنى هذا أن أخدم 500 حاج ولا تخدم أنت سوى خمسة، ثم نتساوى أمام صندوق النقابة؟
- هو ما أعنيه تماماً.. ألست ترى أن أكثر المطوفين من أصحاب الأرقام الكبيرة لا ينالون العدد الوفير من حجاجهم إلاّ من طريق ((السمسرة))؟.. هناك نفقات تدفع نقداً للسمسار المحترف، وغيرها للسمسار الحاج، وغيرها للهدايا التي نرشي بها بعض كبار الحجاج وزعمائهم.. وهناك نفقات تصرف للدعاية، وأخرى في الأسفار والتنقل بين بلاد الحجاج، وغيرها للبذخ فيما نسميه (البرزة) وغير البرزة من ملحقات.. كل هذه إذا حسمت نفقاتها من ربح الخمسمائة حاج التي يظفر بها المطوف النشيط، فإنك ستجد الصافي لا يتباعد كثيراً عن ربح مائتي حاج.
- ولكن البرزة؟
- ما علاقتنا بالبرزة؟ إنها ليست معقولة للحاج ولا المطوف.. فقد كان الحاج فيما سبق لا يعرف إلاّ البيت والمسجد. وإذا عنّ له السمر ففي استطاعته أن يسمر في بيته أو في أي ردهة تجاور بيته إذا كان من الفقراء، أو في أحد المقاهي إذا كان من الموسرين.. أما المطوف فإنه لم يخترع برزته، ولم يتكلّف فيها ما تكلف إلاّ مداهنة للحجاج، ومنافسة لزملائه. فإذا قضى على التنافس والمداهنة أمكنه الاستغناء عن البرزة، واستطاع أن يرضي الحاج بالعمل لمصالحه. أكثر مما يرضيه بكوبة من الشاي لا تفيد الحاج بقدر ما يتكلفها جيب عطوف.
- وإذا تركنا البرزة جانباً؟
- ليست البرزة ذات قيمة في الموضوع إطلاقاً لأنها لا تزيد إلاّ رقماً أو أرقاماً في حقل نفقات المطوف. سيمكننا الاستغناء عنها ولكن لك أن تسألني عن المقدار الذي فقده صاحب الخمسمائة حاج من أرباحه التي تعودها عندما نجعل حصته مائتين فقط.
- لا أعتقد أنه فقدَ كثيراً بعد أن توفرت في جيبه نفقات السمسرة والهدايا ومصاريف التنقل بين بلاد الحجاج و.. و.. الخ.
وإذا كنا لا نستبعد أنه تحمل بعض الفرق بين أرباحه المعتادة والجديدة، فيجب أن لا ننسى أنه سيظفر بما يعوضه هذا الفرق أدبياً ومادياً.
- أرجو إيضاح ما تعني.
- إن الأمر في غاية الوضوح.. إن المطوف في حالته الجديدة سيربح من وقته عدة شهور كان يقضيها متنقلاً بين القرى والمدن.. سيربحها لأنه يستطيع أن يزاول فيها أي مهنة أخرى تدر عليه كسباً جديداً.. بل إنه سيربح كل الأوقات الطويلة التي كان يستغرقها تفكيره في تعهد الحجاج بالمراسلات والمكاتبة، وفي أهبته واستعداده للموسم.. وأعتقد أنك لا تشك أن تفكير المطوف في هذه الشؤون يستغرق كثيراً من شهور السنة. إذا أضيف إليه شهور السفر، وشهور الموسم، كانت السنة قد ضاعت جميعها في سبيل هذه المهنة. أما في حالته الجديدة فإن مهنته لا تستغرق منه أكثر من شهري الموسم. وبذلك توفر له نحو عشرة أشهر من كل عام، يستطيع أن يستغلها لفائدته في غير ميدان الطوافة.. وهو ربح سيطغى على جميع ما كان يؤمله من أرباح، يوم كانت جهوده طول العام وقفاً على خمسمائة حاجي ظفر بهم.
وسيربح أدبياً.. لأن كرامته ستبقى محفوظة لا يعرضها للخجل في تجواله على بيوت الحجاج بين قراهم ومزارعهم، داعياً إلى نفسه بكل ما يكتنف دعايته من كسوف.
- الواقع أنني أقرك على كثير مما تقول. ولكن في نفسي من علاجك ما فيها. لأنك ستبيح للكسول ما يساوي ما تبيحه للنشيط وفي هذا غمط للجهود وتحديد للنشاط.
- ليتك تفسر لي هذه الجهود التي تخاف غمطها.. أترى أن تجوالنا بين قرى الحجاج ومدنهم نشاط يستحق أن لا يغمط؟ أم ترى أن إلحاحنا على الحاج، وإصرارنا على مضايقته في بيته، وملاحقته بالتوسلات عمل يستحق أن نقدره كأي جهد مشرف؟
كنت أحسبك تهيب بي ألاّ أعالج شيئاً في الطوافة قبل أن أعالج هذه المأساة. وإذا بك تسمي مأساتنا نشاطاً كأنك لا تمت بصلة إلى القرن العشرين الذي نعيش فيه!
- وإذا سلمت جدلاً بكل ما تقول فما ذنب المطوف الذي تعود أن يجتمع له 500 حاج أو أكثر دون أن ينفق في السمسرة ما ينفق غيره.. إننا نظلمه عندما نساويه بالمطوف المغمور الذي لا يظفر بأكثر من خمسة حجاج؟
- إن الأمم عندما تعالج شؤونها العامة لا تنظر إليها بنظر الأفراد بقدر ما تنظر إليها من النواحي ذات الأثر الفعّال في نهضة البلاد.
ألست ترى أن حكومتنا بعد تجارب طويلة جربتها في شؤون الأملاك رأت ألا مناص لها من ربط أسعار السكنى بنظام عام تعلنه في رأس كل عام ولا تقبل فيه هوادة. وتمنع بموجبه إخراج أي مستأجر من مكانه إلاّ في أحوال تقرها في النادر الشاذ.
إنها مضطرة لإغفال المنفعة الفردية في سبيل الصالح العام وهي بهذا تتماشى مع أحدث الآراء الاجتماعية في علاج الشؤون العامة.
ويمكنك أن تقيس على هذا شؤون شركات السيارات في بلادنا. فإن تأسيس نقابة توزع بينهم الواردات العامة بنسبة محفوظة، أحسنت إلى الشركات، وضمنت لهم أرباحهم، وحفظت لهم كرامتهم. ولو تركتهم لما تسميه جهوداً مبذولة ونشاطاً لا يغمط! لأضاعوا ما يملكون من كرامة في سبيل تنافسهم، وعرضوا أموالهم للخسران. وقد فعلت مثل هذا في بلادنا مصانع الثلج في إحدى السنوات التي تنافسوا فيها وكانوا يبيعون ثلجهم بلا أرباح فعرض أحدهم أن يشاركهم في أرباحه الخاصة بنسبة معقولة تلقاء أن يقفلوا مصانعهم فقبلوا منه. وبذلك اعتدل مستوى الثلج وربح صاحب المصنع وزملاؤه من أصحاب المصانع المنافسة.
وسبقتنا إلى هذا جميع الأمم. ففي أمريكا يحرقون محصولات البن إذا خيف أن تغمر الأسواق، وتجمع الحكومة أنواع الحبوب التي تفيض عن حاجة السوق فتحجزها، وقد تصدرها مجاناً إلى بلاد المجاعة لا رحمة بالجائعين فقط ولكن لتحفظ الحبوب في مستواها.
وحرقت إنكلترا السكر والشاي في سنغافورة مرات كثيرة في سبيل حفظ المستوى، وفعلت بلاد الملايو مثل ذلك في نتاج المطاط. كما قتلت استراليا مئات الألوف من الأرانب لتصون أسعار اللحوم الخشنة التي تصدرها. وفي شمال أوروبا يحددون إنتاج الفحم في المناجم، وفي بلاد غيرها يحددون ساعات العمل في المصانع، وفي مصر لا يبيحون زراعة القطن إلاّ في نطاق محدود.
كل هذه وسائل انتهجتها البلاد المتمدنة لتجدد من نشاط الجهود الفردية، وتضغط النشاط الذي تخشى عواقبه بالنسبة إلى مصالح الجمهور.
هي ذي وسائل القرن العشرين انتهجتها القرائح الجبارة بعد تجارب طويلة تعاقبت عليها الأجيال. فما بالنا نجمد؟ وما بالنا ننظر إلى جهود أفرادنا مثل هذه النظرة القاصرة التي لا تمتد إلى أكثر من أنوفنا؟ بل ما بالنا نبعد كثيراً ونحن نشاهد اليوم سيارات الإيجار إلى جدة تملأ الموقف في أجياد بصياحها وضجتها من أجل راكب واحد تظفر به.
إنهم لم ينظموا أنفسهم فتركوا لجهودهم الخاصة! وشرع الواحد يذرع الموقف ذهاباً وجيئة ليلقف زبوناً واحداً أو زبونين. والأنكى من هذا أن تجد عشر سيارات مشغولة بما لا يزيد عن راكب أو اثنين في السيارة الواحدة. فلو اجتمع هؤلاء الركاب في سيارة بعد أخرى لتوفر الوقت للراكب ولصاحب السيارة، وصينت كرامة السائق. ولكننا لا ننظم أعمالنا وتعجبنا الدعاوى العريضة في النشاط والجهد، وننسى أنها فوضى لا تستقيم معها أعمال صحيحة.
كذلك الشأن فينا جماعة المطوفين فإن جهود النشيط لدينا تتلخص في قدرته على نسيان مركزه والتذلل في سبيل لقمة العيش.
وهي وسائل بالية لا تقرها مهنة على وجه الأرض. مهما بلغت دناءتها، فكيف نقبلها لمهنة شريفة يقوم صاحبها مقام الإمام المرشد إلى مناسك الحج وأعماله.
دعنا يا صاحبي نكوّن هذه النقابة وسنرى عند أول تجربة أنها ستضمن لنا ما يأتي:
(1) نستطيع أن نختصر أعمال الطوافة على شهرين في العام. لأننا سنستغني عن أعمال الدعاية بقية العام. وبذلك تتوفر للمطوف عشرة أشهر سنوياً يستطيع استغلالها في أي ميدان غير الطوافة.
(2) سنضع عن كواهلنا أعباء الأعمال المضنية في ملاحقة الحجاج بين المدن والقرى، ومضايقتهم بالإلحاح والتوسل، ونصون كرامتنا من التبذل المقيت.
(3) سنقضي على أعمال السمسرة قضاءً تاماً، ونوفر للبلاد ما يتقاضاه الأجانب كثمن لها. وهي مبالغ لا يستهان بها يفقدها المطوفون سنوياً في سبيل إغراقهم في التنافس، وتزاحمهم غير المنظم.
(4) نوفر بهذا التنظيم جميع النفقات التي نتبارى في بذلها في البرزة وغير البرزة من المظاهر التي يتسابقون إليها بحكم الفوضى في التسابق.
(5) سيشعر الحاج فيما بعد أن تكاليفه المعروفة في السكنى وخيام عرفات وما إليها لا يمكن أن يهادنه فيها، وأن شأنه مع المطوف كشأنه مع صاحب الأوتيل في بلاده عندما يتقاضاه آخر قرش يستحقه لديه. لأن حاجة المطوف إلى المداهنة والزيف قد ألغيت بإلغاء الفوضى، وأن في استطاعة الحاج أن يكون حاجاً شرعياً لا يترك بلاده إلى الحج إلاّ وهو قادر على الإنفاق في الحدود التي تقتضيها وضعية البلاد ومستوى عيشها.
وما انتهى حسن عند هذا الحد من تفصيلاته المطولة حتى كان زميله قد قنع بالفكرة من بعض جوانبها. رأى أن أمامه جوانب أخرى لم يستوف حقها من البحث فاعتدل في جلسته وانطلق يقول:
- ولكنك ألا تخاف أن يغبن الحاج الذي ألف التدليل والرضا.. إن المطوف اليوم يخشى سوء سمعته بين الحجاج فيحاول أن يرضيهم مهما كلفه الرضا.. فإذا شعر غداً أنه في غنى عن هذه السمعة، وأن توزيع الأرباح سيضمن حصته فلا تنتظر أن يعامل حجاجه المعاملة نفسها التي يحاول اليوم إرضاءهم بها.
- إنني أعلم هذا ولكنني لا أخشاه.
- إنك عجيب.
- العجيب هو أمرك.. كان لا بد لك أن تعرف أن العميل الذي يدفع الثمن لا يطمع في بضاعتك إلاّ بالقدر الذي يساوي ما دفع في السوق العامة.. فأنت عندما تنزل أحد الأوتيلات وتدفع ثمن السرير المعتاد لا تطمع في غير ما دفعت ثمنه. لكنك إذا دفعت الثمن وعرفت أن ما دفعته يساوي في العادة سريراً وانحناءة طويلة من صاحب السرير، فإنه لا يرضيك أن يتناسى صاحب السرير انحناءته إيفاء لما دفعت. وإذا اكتريت مقعداً في طائرة وأنت تعرف أن ثمن الذي دفعت يجعل لك الحق في وجبة شاي إضافة إلى مقعدك في الطائرة، فإنك سوف لا تقبل أن ينكروا عليك هذا الحق أو يختلسوك فيه.
كذلك شأن الحاج الذي يدفع الثمن اليوم وهو يعلم أن ما دفعه يساوي السوق العامة خدمة تصحبها ألف انحناءة ينحنيها أمامه المطوف، وخدم المطوف. فإنه لا يقبل إلاّ أن يستوفي إلى جانب الخدمة حقوقه المألوفة في انحنائك وخدمك أمامه. لكنه عندما يعرف غداً أن ما يدفعه سوف لا يساوي إلاّ حقوقاً محدودة في السوق العامة، فإنه سوف لا يطمع في أكثر من هذه الحقوق.
على أن مسألتنا اليوم مع الحاج ليست مسألة ثمن وحسب، بل إنها أبعد من هذا، لأن الحاج الذي يشاهد إغراقنا في التنافس وإلحاحنا على كسبه مهما كلفنا الأمر يعرف كيف يقدر لنفسه قيمتها.
إنه اليوم يعرف فضله على المطوف. يعرف أنه اختار اسمه من بين عشرات المطوفين بعد أن أعرض عن كثير من الإلحاح، وبعد أن رفض ما لا مزيد عليه من أنواع التوسل.. يعرف هذا ويعرف أنه أغلى ثمن يمكن تقديمه.
فإذا رأيتنا نتزلف إلى الحاج أو نسترضيه دون أن نخطئ في حقه.. إذا رأيتنا ننحني، ونظلم من أجله الخدم، أو نغضي عن قصوره في إيفاء ما عليه من واجبات فلا تعجب، لأن اختياره اسمنا في غمرة هذا التزاحم هو وحده منة لا تقدر إلاّ بمثل هذا وسيستمر تزاحمنا ويتطور حتى نبيحه في أحد الأيام جميع مصالحنا ونخدمه من غير ثمن إرضاء لعنادنا.
أما إذا قيدتنا النقابة، ومنعت الفوضى والتزاحم التي نسميها جهوداً. فإن الحاج سيعيد النظر في ما يرى؛ وسيعرف أن له حقوقاً لا سبيل إلى الطمع في غيرها. وإذا خفنا عليه الغبن بعد ذلك. فلا يكلفنا إنصافه إلاّ بنوداً ندرجها في نظام يوضح علاقته بالمطوف ويبين ما له وما عليه.
- وإذا افترضت وجود هذه النقابة التي توزع الأرباح وتترك الأشخاص أحراراً. وافترضت إنساناً من المطوفين تكتّل الحجاج في بيته أضعاف حصته فهل تقر هذا الإجحاف؟
- إنني ذكرت لك أن توزيع الأرباح بالتساوي لا بد له من مستثنيات وما احتفظت بفكرة الاستثناءات إلاّ لمثل هذه الحالة.. إن في استطاعتنا أن نضيف إلى حصته في المائتي حاج حصة أخرى نسميها بدل خدم. فإذا زاد عدد الحجاج عن مائتي شخص عند أي مطوف فله الحق في استيفاء أجرة خادم واحد عن كل خمسين شخصاً بعد المائتين وبهذا ساعدنا على خدمة الحجاج بصورة لا تغري المطوف بالتوسع في المزيد منهم.
على أنني واثق من أن مشروع النقابة سوف لا يمتد إلى سنوات حتى تكون أرقام الحجاج قد تقاربت في بيوت المطوفين، لأننا سنفقد السمسرة وهي أهم العوامل في تكتل الحجاج عند المطوفين دون البعض الآخر. كما سنفقد إلى جانبه أكثر العوامل الأخرى التي تساعد على التكتل. ولسنا نشك أنه سيأتي اليوم الذي يجد الحاج فيه أن من الخير لمصلحته أن يبحث عن مطوف مغمور ليستفيد من هدوء الحال عنده.
وفي مثل هذا الحال يمكننا أن نستغني عن توزيع الكروت، ونكتفي بنشرة يدرج فيها أسماء عموم المطوفين ليختار الحاج اسم مطوفه منها قبل أن يسأل عنه إذا كان لم يفكر في اسم المطوف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :305  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 70 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.