شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تفضحنا بين الناس.. وتخلينا سيرة
وإذا مضى بنا السياق في بحث هذه التقاليد المرهقة التي تحول دون إقدام شبابنا على الزواج فستُصادفنا ألوان لا تقل مآسيها عن المشكلات التي ألمَمْنا بها.
إن الشباب الذي زجَّ بنفسه بين هذه المآزق من تقاليدنا المرهقة لا ينتهي نصبه بانتهاء أيام الفرح.. فثمة مراسيم تتسلسل بتسلسل المناسبات التي نجدِّدها.
هناك ما نُسميه (السابع)، وهو يوم مشهود لا يقل في عنته، وتكاليفه عن عنت وتكاليف غيره من أعياد المناسبة، وهناك (البدّاية) التي يستعد فيها أهل العروس وأقرباؤهم بما يُرهق جيوبهم ويستنزف أموالهم ويستعد العريس بما يجمّل عروسته في نظر أهلها حتى لو اضطر إلى الاستدانة وسؤال الناس.
وتتوالى الأيام فتتوالى النكبات كلَّما تجدَّدت مناسبة اقتضتها الولادة، أو اقتضاها المرض، أو اقتضاها الموت.. لنا في كل حدث تقليد، ولكل تقليد مراسم، ولكل مرسوم فروض لا آخر لعللها، ولا نهاية لتكاليفها.
إنني أعتقد أن عصور التأخُّر بما غمرها من فراغ وجدة علمتنا التشاغل بأمثال هذه الترَّهات التي كنا نبدّد فيها أوقاتنا ونهيِّئ لأنفسنا من مناسباتها أعياداً نبدِّد ما انتابنا من سأم الحياة المتواترة على نسق واحد ليس فيها ما يجدِّد النشاط ويلوِّن الحياة.
أمّا اليوم وقد شرعت تنجاب غياهب الجهل، وبدأ مستوى الحياة الرفيع يبدِّد الحِدة، وأخذنا نشعر بحاجتنا إلى كل دقيقة من أوقاتنا التي كنا نبدِّدها في الفراغ.. فمن العيب أن نترك حياتنا الجديدة تتلاعب بها عواصف التقاليد الموروثة، ونبيح للترَّهات أن تعصف بماديتنا في وقت ارتفع فيه مستوى العيش، وأصبحنا نحتاج إلى كل قرش نربحه لمستلزماتنا الضرورية.
وإذا كان لأجدادنا عذر فيما مضى بما ران على بلادهم من جهل، وعذر بما اتَّسع أمام أوقاتهم من فراغ، وعذر بما كانت تُدرُّه أرباح الحجاج عليهم، وهم أقلية محدودة يغمرهم وابل الحجاج بفيض يسعهم.. إذا كانت هذه أعذارهم.. ما هي أعذارنا بعد أن انتشر التعليم في آفاق بلادنا، وبدأت الأذهان تتفتق لتفهم الحياة على حقائقها؟. ثم ما هي أعذارنا بعد أن ضاقت أوقاتنا بحركات العمل الصاخب التي باتت تضج به البلاد، وبعد أن ارتفع مستوى معيشتنا حتى أضحت الأرباح على توافرها وكثرة مواردها تعجز في كثير من الأحيان عن إيفاء حياتنا الجديدة ولوازمها الطبيعية؟
لا يجب أن تحكمنا عادات كانت تحكم عجائزنا من غير المتعلمات، ولا أن تأسرنا تقاليد ابتكرتها أول ما ابتكرتها الخرافة التي كانت تعيش في ظلال وارفة من الغباء والجهل.. وإلاّ فما هي ميزة نهضتنا الجديدة؟ وما هي قيمة التعليم الذي سطع ضياؤه في آفاقنا من الحدود إلى الحدود؟؟
قالوا إن الخرافة تنبت في حياض الجهل ونحن نعلم أن أكثر تقاليدنا في مآدبنا وأفراحنا وأتراحنا كان مصدرها ألواناً من الخرافات نبتت في حياض الجهل، فإذا ظللنا إلى اليوم نستوحي ما اختارته الخرافة في عهود الجهل، وما ورَّثتنا إياه من عادات وما فرضته علينا من تقاليد.. فإن خسارتنا في مجال العرفان لا تُقدَّر بثمن، ولا تُقوَّم بأرقام.
إننا قد نعذر الجاهل إذا أسلس قياده لما ورث من تقاليد العجائز واحترم عاداتهم احترامه لشيء مقدس.. نعذره لأن الأمور عندما اختلطت عليه وضاع الحق بين صور الباطل لم يجد في نفسه الكفاءة اللاَّزمة للتمييز بين صورة وأخرى، فأسلم قياده إلى غيه ومضى مع السائرين.
ولكن ما عذر المثقف المطَّلِع الذي يملك من طاقة التمييز ما يؤهِّله لفرز الحقائق ونقدها؟
ما عذر المثقف إذا شوهد وهو يحتفي بعادات بلغت ذروتها من السخف، فيبيح في بيته إنفاق الأموال في مراسيم يأباها العقل، وتقاليد لا يقرها الدِّين؟! وبذلك يترك عنانه لسيدات جاهلات يعبثن به، ويصحن في وجهه صارخات: ((وي.. بلاشي هتايك.. شوف بيت فلان!! إيش سووا. سوّي زيّهم.. مو تفضحنا بين الناس.. وتخلينا سيرة!!)).
إذا استطاع المثقف أن يمتاز بقوة المعارضة، وثبات الجنان.. واستطاع أن يستعصي على التقليد الشائع، وألاّ يبالي بالفضائح المزعومة في رأي الجاهلات؛ فقد أتيحت لبلادنا الخطوة الأولى نحو الحياة الصحيحة التي يحياها العالم الراقي.
حضرتُ في إحدى المرات مأتماً من المآتم التي نُقيمها إحياءً لذكرى الميت، فاستغربتُ البذل السخي الذي رأيته بين موائد الطعام رغم ما أعلمه من فقر الأيتام الذين تركهم الميت، فملت إلى أذن صديق لي كان يجاورني في المجلس أستوضحه معاني ما أرى؟ فتنهَّد عن حسرة مكتومة. وقال: إن والدة الأطفال كلَّفتهم الاستدانة ليُشيِّعوا والدهم بما يليق في نظرها، ثم كلَّفتهم فاستدانوا مرة أخرى ما يكفي لهذه المآدب التي تراها.. في وقت لا يعلم إلاّ الله مبلغ حاجة الأولاد إلى كل قرش من هذه المبالغ الباهظة يقيمون به أودهم، ويشبعون بطونهم.
أي مأساة هذه التي تتحكَّم في مقدرتنا، وتوجِّهنا إلى أسوأ ما يتجه إليه الصمُّ البُكمُ العُميُّ الذين لا يفقهون؟ لا مراء في أن الجهل المطبق مهما بلغ إساره لا يفضي إلى مثل ما أفضت إليه تقاليدنا الجائرة، وعاداتنا المجنونة، ولا يمنع المثقفين أن يغضبوا لهذا الجور الطاغي، وأن يصدقوا عزائمهم على حربه.. كل في بيته بين أهله وذويه.
إننا إذا تضافرنا على هذا فلا شك أن النجاح سيُظاهرنا مهما بلغت الشُقَّة، وامتدت المسافة..
فتعالوا يا بني قومي إلى هذه الكلمة.
ودعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :356  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الشعرية والنثرية الكاملة للأستاذ محمد إسماعيل جوهرجي

[الجزء الخامس - التقطيع العروضي الحرفي للمعلقات العشر: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج