شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وي يا ولد.. قرش الزواج مخلوف
لا تزال سِمات البدائية تلوح واضحة على كثير من مظاهر حياتنا الاجتماعية!!
إن الرجل البدائي يتكلّف لحياته أكثر مما يتكلَّفه الرجل الراقي.. فالألوان الزاهية والأردية الموشّاة بالمطرَّز والمقصَّب، والأثواب المحلاَّة الفضفاضة، والمجلس المكتظ بقطع الأثاث الفخمة. كل هذه مميزات الرجل البدائي الذي يتكلّف لمظهره ما لا يتكلّفه الرجل الراقي وهو يتعشَّق البساطة بكل ما فيها من رشاقة وظرف!!
فإذا ادَّعينا أن بيننا اليوم من يعيش عَيْش البدائي فإن دعوانا لا يعوزها التماس الأدلة من أقرب المظان.. لأن طابع التكلّف الذي يسود أكثر مقدراتنا في الحياة يكاد ينطق بما يزيد ذلك ويثبته.
نحن لا نستطيع إلى اليوم أن نُحيِّي ضيفاً أو نكرمه إلاّ إذا وضعنا السكين في عنق خروف أو أكثر، وتركنا مدخل دارنا الضيق يستعر بالحطب الملتهب تحت القدور المنصوبة، وتركنا بيتنا يكتظ بالمواعين والأواني ويزدحم بالمباشرين، وتضيق مائدتنا بالسمن والدسم.. في صورة لا تختلف عما كان يفعله أجدادنا يوم كانوا يعيشون في ظلال الخيام على حوافي البادية.
وهي خلال لا يعرفها الرجل الراقي، ولا يُقر أسلوبها بحال.. لا لأنه يجحد واجبات الضيف، أو يُنكر حقوقه على المضيف.. بل لأن الضيافة في أرقى درجاتها لا تعني هذه (العفاشة) بقدر ما تعني التعبير الرقيق في تقدير الضيف وإيناسه، وإبداء شعور الولاء نحوه.. ولا يعجز الراقي أن يُعبِّر عن كل هذا بمائدة عائلية تجمع إلى بساطتها ألواناً لذيذة فيها من الظرف والجمال أكثر مما فيها من البذل (العفش)!! أو أن يدعوه إلى حفلة مختصرة في أول مطعم يُصادفه.
هذه البساطة في التعبير عن احترام الضيف تؤدي عندهم نفس المعاني التي نؤديها ونحن ننحر الخرفان ونُثير في بيوتنا الضجة والارتباك اللَّذين يُثيرهما مَقْدَم الضيف، واللَّذين نكلِّف من أجلهما موازنتنا ما يعرِّضها للاضطراب.
ولا يقل شأننا عن هذا في عموم ولائمنا واحتفالاتنا إن لم تزد عليه في مناسبات الأفراح أو مآتم الأتراح.. فلحفلات العرس عندنا مظهر صارخ من مظاهر البدائية. يتجلَّى فيه تكلّفنا في صور لا يرضاها مجتمع شذّب الرقي طباعه، وهذّب ذوقه، وأعدّه لتفهم الجمال في صوره الرشيقة الجذابة.
أي تكلُّف هذا الذي يُزين لسيداتنا ارتداء الفساتين من ذات الأثمان الفاحشة؟ أو حب الظهور أمام لداتهن بمظهر الغنى الكامل؟ أم فرحتهن بلمعته؟؟ إن كان الأول فما أشد غرورهن فيما يظنَّن، لأن الفتيات في سائر الأوساط الراقية يضحكن من سذاجة مُحِبات الظهور. وإن كان الثاني فلا أدلَّ منه على البدائية والتأخر.. لأن البدائيين وحدهم هم الذين يستنسبون الألوان اللامعة ويستذوقون زخرفها المبهرج.
يمعن سيداتنا في التكلُّف.. فتأبى الواحدة أن تكرر لبس ثوب ارتدته في حفل سابق.. وهو إغراق في التظاهر بمظهر القدير الموسَّر.. إغراق لا يتكلّفه إلاّ غبي لا تتَّسع آفاقه لفهم الأشياء على حقائقها.. والناس لا يجهلون مراكز معارفهم من الغنى، ولا يهزؤون بشيء هزأهم بالأغبياء الذين يحسبون أنهم قادرون على تضليل الناس عن حقائق مراكزهم!!
ويبدو الغباء أشد نكراً، وأفظع مقتاً في مواقف اللاتي يقصدن بيوت الإجارة ليكترين الأردية التي رصَّعها أصحابها بالزخرف من الزجاج أو ما يشبه الزجاج، وعرضوها للساذجات يستأجرنها في ليالي العرس ساعات محدودة يفرحن فيها بالبريق الكاذب، ويدفعن لقاءه ما يكفي لشراء فستان يملكنه ويستطعن أن يتجمَّلن به في أكثر من مناسبة.
إنهن يفضلن أن يفرحن بالبريق الخلاب الذي تُشعُّه قطع الزجاج في ثوب الكراء دون أن يبالين بالقيمة التي يستطعن صرفها في ثوب يمتلكنه.. وهي فرحة لا تختلف عن فرحة جداتهن يوم كنَّ في خيامهنّ يعشن بين التلاع أو في ثنايا منعرجات الوديان، ويُحلِّين براقعهن بقطع من النحاس اللامع، أو فصوص الزجاج البراق.
إنها بدائية يضحك منها كل مجتمع في الأوساط الراقية، ويهزأ بها كل مهذب تذوق الجمال، وفهم من أسراره ما لا يفهمه البدوي الفدم!!
ومضى إغراقنا في هذا التكلف إلى آماد بعيدة في حياتنا. نرجو أن نعرض لها فيما يأتينا من أحاديث، وسنستدل من شواهدها على مبلغ بدائيتنا في عصر كهذا بلغ شأوه في الحضارة والتمدُّن إلى أسمى ما بلغته العصور في التاريخ.
فدعونا يا قوم نستشعر حقائقنا، ونفهم الأمور على أوضاعها الصحيحة، ونَسْمُ بأذواقنا إلى الحد الذي سمت إليه أفكار العصر.
حدثني صديق كان يكره أن تقوده العادات السيئة إلى شيء لا يقرُّه منطق العاقل، فقال: عندما امتحنت بزواجي بَيّتُ العزم على أن ألغي جميع التقاليد التي عشت أمقتها، وأنتقد أعمال الناس فيها.. وكنت أعلم أن والدتي، وأهل بيتي سوف يسيئهن ألاّ أَأْتمر بما يَرَيْن من ترتيبات وتنظيمات.. ولكني عقدت العزم على إقناعهنَّ، وصرفهنَّ إلى المفيد النافع فلم تنجح محاولاتي.
أعلنت إلى أهلي أن موجودي من النقد محدود، وأني إذا دفعت المهر المفروض فسوف لا يبقى في جيبي إلاّ ما يكفي لنفقات وليمة محدودة.. فصعق من حولي من النساء، واعتبرن أعمالي فضيحة لا يُقدم عليها عاقل والتجأن إلى أمي ليضعن يديها على مبلغ جنوني.. فما سررت لشيء كما سررت بالتجائهم إلى أمي، لعلمي بمبلغ تجاربها في الحياة، وخشيتها على مستقبل ولدها الذي بات محتاجاً إلى كل قرش يصرفه في مثل هذه الترَّهات.
ولكن أمي أبت إلاّ أن تنسى حنانها، وأن تلغي تجاربها، وألاّ تصغي إلاّ إلى صوت العادة المقيت: ((وي يا ولدي.. إحنا صدقنا على الله نفرح بك في هذا اليوم.. يعني ليش تخلينا هرجة في لسان الناس!. لا، لا يا ولدي أنا ما أقبل هادي اللآمة.. شوف عمك صالح قال لي اللي ينقص عليكم عليَّ غلاق الباب.. قوم استلف لك منه مائة جنيه.. وقرش الجواز مخلوف!!)).
بأي لسان أحاور أمي التي أملتُ فيها كمال العقل، وبأي لغة أخاطب أخواتي وخالاتي؟؟ إنهن يأبَيْنَ إلاّ أن أخضع لقواعدهن! والقرش مخلوف!! أو يثرنها حولي عواصف من التفجُّع، والندب، والبكاء الذي نغَّص أيامي وأحالني إلى طفل ضعيف الإرادة سهل القياد.. وبذلك تكلفت مضطراً جميع الواجبات التقليدية التي أملوها عليَّ.. وهأنذا إلى اليوم وبعد قضاء عدة سنوات من زواجي لا أزال أعاني من إرهاق الديون ما لا يعلم بوطأته الشديدة إلاّ الله.
والواقع أن مأساة صديقي هي مأساة بيوتنا جميعاً.. السيدة تأبى في بلادنا إلاّ أن تتميز في مآدب الأفراح عن طبقتها بما تتكلّفه من مظاهر الغنى الزائف، فتعمد إلى استئجار عقود اللؤلؤ أو حلي من الماس تعرف جميع صديقاتها أنها لا تتفق مع مستواها، وأنها لا تملك من ثمنها إلاّ ما دفعته إيجاراً إلى ساعات محدودة.
فيمَ كل هذا التكلُّف والزيف؟
إن الكاذب الحاذق لا يتكلَّف الفشر إلاّ في أوساط تجهل أمره، فما بال سيداتنا يتكلَّفن الغلو في زينتهن في أوساط تعرف أن ما نيط بأعناقهن وأيديهن لا يملكن من أثمانه شيئاً؟!
ليتني أجد من يدلُّني على معنى هذه الزينة وقيمتها وأنا أنظر إلى فاطمة وفي جيدها عقود لآل فلان الفلاني، وفي يديها أسوارة أعرف أنها من حلي بيت الزلباني!!
إنها البدائية في أثقل صورها، وإنها السذاجة في أسمج أشكالها.
إن المجتمعات الراقية لا تحفل بهذا التكلُّف المصطنع، ولا يُرهق أفرادها أنفسهم بهذا الزيف المقيت.. فحسب السيدة منهنَّ أن تعد للمآدب الممتازة ثوبها النظيف، وأن تحلّي جيدها إن استطاعت بقطعة من الماس أو اللؤلؤ تملكها ولا يزيد ثمنها عن مستوى السيدة في بيئتها.
إن السيدة المهذبة تعرف قدر نفسها.. فلا تحاول أن تغلو في تقدير مركزها في نظر أترابها، وتأبى أن تخدع نفسها، أو تضلِّل غيرها لتبدو على غير حقيقتها.. وهي على عكس السيدة البدائية التي تتكلف البهرجة التي لا تتناسب مع مركزها في الغنى والجاه.. فتثير ضحك العاقلات أكثر ممّا تحوز إعجابهن، وتحملهن على مقتها قبل أن تظفر باحترامهن.
سيقول البسطاء من الناس: ولكن ما معنى هذه الحفاوة التي تجدها المتبهرجات، والمتكلّفات للزينة في حفلاتنا؟ وأين المقت الذي نخشاه عليهن؟ إنه لا أثر له في جميع أوساطنا.
وهو اعتراض لا غبار عليه فقد تطورت المأساة حتى فقدنا الإحساس بما نُعانيه من آلامها.. وذلك دأب جميع المآسي التي يألفها الإنسان فينسى نواحي العيب فيها ثم لا يلبث أن يندمج فيما ألِف، حتى يفقد الإحساس بحقائقها الموغِلة.. وقد يتطور شأنه معها إلى أكثر من هذا حتى يصبح الألم مصدراً لألوان من اللَّذَّة يفسرها النفسانيّون بما يفسرون به معاني الشذوذ!!
فإذا كانت مأساتنا قد تطورت إلى حد نسينا فيه آلام عيوبنا، ففي ذلك من الشذوذ ما لا يقاس على قاعدة، وفيه من الخطر ما نخشاه على أحاسيسنا أن تفقد وظائفها في أحد الأيام.
حدثني فتى من شبابنا المتعلم فقال: إنني لا أُكلِّف نفسي نزاعاً في رفض طلبات قرينتي، فقد نظَّمت معها موازنة واضحة البنود تشمل وارداتنا ونفقاتنا، ثم سلمت إليها جميع الواردات، وكلَّفتها بتنفيذ البنود.. فإذا عنّ لها أن تكلِّفني بطلب يُرهق أحلتها على بنود الموازنة وخيّرتها لتضغط البند الذي تشتهيه، ليتوفر لها ما نشتري به.. وعندئذ أشعر أن الحيرة لا تلبث أن تنتابها، لأنه ليس في البنود ما يحتمل الضغط.. فأتركها لتُقنع وجدانها بما تراه، وتعود إليَّ مستسلمة خاضعة!!
إنني أُكبر في هذا الفتى عنايته بهذا اللون العالي من ألوان المعاملات.. ولكني أعتقد أن دخله المحدود أعانه على انتهاج مثل هذا المسلك.. ولا أدري إذا ما واتاه الدخل غير المحدود أيقوى على إقناعها أم يُسهِّل لها مطالبها ويتركها تُثير روح المنافسة في أترابها بما يخلعه عليها من بهرج برّاق؟
على أنه ينقصنا هذا النوع من السيدات.. النوع الذي يجيد تنفيذ الموازنات، ويقبل أن يخضع لبنودها، ويرتبك عندما يفاجئه طارئ لا محل له بين أبوابها.
أعتقد أنني لا أغالي إذا قلت إن معظم سيداتنا لا يرهقن أنفسهنَّ بالخضوع لما تنظمه أبواب الموازنات في بيوتهن إذا قبل الرجال توليتهن أمرها.. وإننا قد لا نجد السيدة التي تضطرب إذا ارتبكت موازنتها.. إنهن أجرأ مما نتصور لأن في استطاعة الواحدة منهن أن تمر بجرة قلم على جميع البنود إذا رأت في أحد أبوابها ما يحول دون مطالبها، وأن تضرب بيد من حديد جميع القواعد التي قامت الموازنة على أسسها لتتمتع بما تشتهيه (وضربة دم على الموازنة واللي جابوها.. أنفق يا سيدي اللي في الجيب يجيك في ما الغيب)!!
دعونا أيتها السيدات نفهم واجباتنا في المنزل في ضوء الحقائق الناطقة، ونُنظِّم أمورنا في نسق متَّزِن يصون بيوتنا من النَّزَق، ويضمن لنا فيها حياة لا يشوبها اضطراب أو عبث.
وأخيراً دعونا أيتها السيدات..
دعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :524  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج