شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أعدّوا عدَّتهم للرحلة إلى القمر
عقد أحد الأمريكيين العزم على ارتياد أصقاع الأسكيمو ليدرس عاداتهم، ويبحث عن طريق بينهم إلى القطب الشمالي، فذكروا له أن بلادهم يغطيها الجليد في معظم فصول السنة، وأن الرجل المتحضِّر لا يجد في تلك الأصقاع ما يأكله فيفقد حياته جوعاً وبرداً بين أقوام يبغضون الغريب، ولا يتورَّعون عن الإجهاز عليه.. فلم تثنهِ كل هذه الأوصاف المفزعة عما صمَّم، وأبى إلاّ أن يمضي في برنامجه إلى الحد الذي رسمه.
وأسعفه الحظ فنجا لا بأعجوبة واحدة بل بجملة أعاجيب كادت أن تقضي على حياته في خلالها، وبذلك استطاع أن يقطع المسافات الشاسعة في أراضيهم في مدى شهور طويلة، قاسى في أثنائها من الشدائد ما لا يُطاق، وعاد من رحلته مزوَّداً بأعجب ما كتبه الباحثون عن حياة الشعوب المجهولة، وأسلوب حياتهم.. وقد نُشرت بحوثه في مجلات عالمية راقية، وعُنيت بترجمتها إلى لغات شتى أمهات الصحف في العالم.
صمد الرجل في رحلته لأهوال عظيمة، وفرغ زاده قبل أن ينتهي إلى ربع المسافة التي تضمنها برنامجه فلم يثبط الجوع همّته فيما عزم، وفاجأته شهور الشتاء فلم يجد في أصقاعهم كوخاً يتَّقي به غائلة البرد أو يتوارى خلفه من عواصف الثلج الثائرة في صورة لا تعرف الاستقرار.
وكان المفروض أن يقنع بما ناله من أهوال، ويرحم شيخوخته من عذاب الجوع، وسياط العواصف الثلجية التي ألهبت جسمه ولم يبلغ ربع الطريق.. فيستأنف عودته. ولكنها عزائم قُدّت من الحديد لا تبالي بالأخطار مهما بلغ شأوها ولا يفلُّ حدَّتها الخوف مهما تجسَّمت مصائبه.
صمد الرجل فيما مضى واستطاع أن يغري رجلاً من الأسكيمو ليصحبه في رحلته، فعلمه الرجل كيف ينحت من تلال الثلوج المتراكمة كهفاً يتَّقي به غائلة العواصف عندما تتفاقم ثورتها، وكيف يحفر بين الكتل الثلجية خندقاً يأوي إليه إذا أعوزه النوم يبن جدر لا يقوى على مسِّها لشدة بردها، فإذا يبست أطرافه من شدة الصقيع وشلت عضلاته عن الحركة.. حاولها بالفرك الشديد، والتدليك القاسي حتى يعود الدم إلى حركته في الشرايين بعد أن جمد من هول البرد.
ولمّا اشتد به الجوع ورأى الأسكيمي يصطاد الفقمة من تحت أطباق الثلوج ويلتهمها حية تسيل دماؤها على لحيته تقزَّز من منظره البشع، ثم ما لبث أن جاراه ليسدَّ جوْعَته بلحمها العفِن. وتعدَّدت المُجاراة حتى ألِف الفقمة، ولذَّت له فيها النكهة التي كان يتقزَّز منها.
وقد قضى على هذا المنوال القاسي أكثر من عام ونصف عام. ولم يعدْ إلى حيث بدأ حتى كان قد أعدَّ بحوثه في فصول تهالك أرباب المجلات العلمية. على شرائها بأثمان كان لا يحلم بعُشر معشارها.
ولا تقلُّ مغامرة غيره عن مخاطرته.. فقد خاطر عالم روسي بنفسه عندما شدّ رحاله إلى إحدى المناطق البركانية في شمال بلاد الروس يبحث حتى اهتدى إلى بركان خامد انطفأت جذوته من عهد طويل، وتركت أعماقه تغور أميالاً في جوف الأرض، فاستقرَّ عزمه على متابعة الأغوار إلى نهايتها، ودراسة بطن الأرض تحت هذه الأطباق.
وكان يعلم أن جوْف الغوْر تحت أطباق الأرض لا يصلح للتنفس ولكن ذلك لم يُثنهِ عما عزم فقد أعدَّ لنفسه جهازاً خاصاً يزوّده بالهواء النقى الصالح للتنفس إلى مدة افترضها كافية لرحلته تحت الأرض.
مضى الرجل فيما عزم واستأجر من رجال القبائل الأشداء نفراً يُدْلونه في جوف البركان العميق بعد أن اتَّفق معهم على ألاّ يغادروا فوهة البركان مدة غيابه في جوف الأرض، وأن يراقبوا حركة الحبال التي تصله بهم لينشلوه عند أول إشارة منه.
وقد تمَّ له ما أراد، واستطاع أن يتصل بأعمق أغوار البركان، وأن يمضي في شقوق الأرض إلى مسافات ممكنة درس منها ما عنَّ له أن يدرس، واطَّلع فيها على غرائب استنتج منها نتائج ظلَّت إلى زمن طويل محلاً لعناية العلماء المعنيين بطبقات الأرض.. وساومه بعض الهواة من الأثرياء في شراء مذكراته عن هذه الرحلة فأبى عليه حتى أغراه بالثمن الباهظ الذي أغناه فيما بقي من حياته.
وغامر غير هؤلاء فأعلن مغامر زوجه بأنه سيغادرها إلى رحلة طويلة في أعماق المحيط، يدرس فيها الحيوانات المائية، وأعدَّ لذلك أجهزته التي جرَّب صلاحيتها لمساعدته على البقاء أطول مدة تحت المياه في أبعد غور من المحيط.. متعرِّضاً لحيواناته الهائلة، وأسماكه المفترسة فلذَّ لزوجه أن تشاركه هذه المتعة بين براثن الأخطار، فأبى عليها أن تزجَّ بجسمها النحيل فيما لا يحتمله إلاّ قوي شديد البنية، وحاولها ذووها لتوفِّر طاقتها المحدودة، فأبت إلاّ أن تجرِّب هذه المجازفة، ونذرت إلاّ أن تحاولها خدمة للعِلم ومساهَمة فيه!!
وكذلك مضى الزوجان إلى حيث استضافهما الماء في الأغوار السحيقة أياماً طويلة.. كانا في خلالها يصعدان إلى سطح الماء كلّما أرهقهما العمل الدائب في جوفه.
وقد قطعا في رحلتهما أغواراً واسعة، وجبالاً شاهقة، وطاردا من أنواع الحيوانات المفترسة ما عرَّضهما للموت المحقَّق مئات المرات، وشاهدا من عجائب البحر، وألوان مخلوقاته ما ملأ حقائبهما بأنواع من الصور والرسوم لا حصر لها، وعندما عادا إلى مستقرِّهما كانت مئات الألوف من المعجبين ينتظرون أوبتهما ليحتفلوا بنجاحهما المنقطع النظير!!
وزاد عدد المجازفين اليوم بزيادة ألوان المخاطرات التي تحتاجها آفاق العلم.. فهذا نفر من الباحثين يأبى إلاّ أن يكتشف الكواكب، ويتعرَّف على ماهيَّاتها معرِّضاً نفسه لجميع الأهوال التي تحول دون مآربه.. ولكنه يأبى أن يقنع إلاّ بما عزم.
وهذا نفر أعدَّ عِدَّته للرحلة إلى القمر، وآخرون يُعدُّونها إلى المريخ في سبيل نظريات تخيَّلوها لم تثبت أدلتها القاطعة ولكن لذَّتهم في المجازفة تُغريهم بالمستحيلات، وما فوق المستحيلات؛ وتعلمهم التشبث بأول بادرة تخطر لهم عن الحقائق الغامضة والآفاق المجهولة.
وإذا كانت هذه المغالاة في استقصاء الخواطر الغامضة والاحتمالات البعيدة تعرضهم في بعض الحالات للفشل، فإن الفشل في رأيهم علم جديد يُثبت لهم حقائق كانوا يشكّون في صحتها. وأنهم إن فشلوا إلى اليوم في الاتصال بالقمر أو المريخ، أو بعض الكواكب الغامضة.. فإن دأبهم على المجازفات طالما أفادهم في مواطن أخرى غيرها تنفع فيها المجازفة، وتنتهي بهم إلى نتائج ناجحة.
فهذا الطيران في أجواز الفضاء على متن سفن بلغت غايتها من الضخامة والقوة، ووصلت إلى هدفها من الأمان، لم يكن في أحد الأيام سوى مجازفة خطرة أقدم عليها شجاع باسل، وعرَّض نفسه لتجربتها في تضحية منقطعة النظير.
وعندما خطا الطيران خطوته الثانية لم يُقدم على اقتحامها إلاّ نفر جريء احتسب نفسه لخدمة العلم، وضحّى بنفسه في سبيل الصالح العام.
وقد تركت الخطوتان الأوليان في تجارب الطيران أثرهما دماء تسيل في كثير من البلاد التي سبقت إلى المجازفات بتجربة الطائرات. ولكن منظر الضحايا ما كان ليفت في عضد المجرِّبين، أو يحول بينهم وبين مغامراتهم المتواصلة.
فإذا تمتع أحدنا اليوم بمقعد وثير في طائرة فخمة تشقُّ به عنان السماء فليذكر باحترام أرواح تلك الضحايا التي قدَّمت أنفسها قرباناً لراحته، والتي قبلت أن تتبرع بأجسادها كمادة تعبِّد الطريق بها إلى الهدف الذي يُسعد البشرية اليوم، ويُوفر لها هناءتها وراحتها.
ولنقل مثل هذا أو أكثر من هذا في شأن جميع المخترعات التي يتمتع البشر اليوم بفائدتها وينتفعون بمزاياها.
إن جميع هذه الاختراعات لم تكن في أحد الأيام سوى فكرة تُراود رؤوس المتطرِّفين، أو المتهورين من رجال البحث والاستقصاء.
كانت فكرة لا يعلم إلاّ الله كم عانى المتهوِّر في سبيل تصويرها لتتبلور، وتأخذ شكلها الذي تخيَّله، وتعطي فائدتها المرجوَّة. ولا تسأل عن مدة التفريخ التي تتبلور فيها أي فكرة من هذه الأفكار، ولا عن مبلغ ما عاناه أصحابها في سبيل ذلك فتنكشف لك حقائق مؤلمة تستحق الحزن والرثاء.
كم حورب المخترعون، وأوذوا في سبيل أفكارهم؟ وكم قاسوا من أهواء الناس وسخريتهم؟ وإلى أي حد ثبتوا وهم يبذلون من أموالهم ما يملكون رغم فقر أكثرهم؟ وما عدد الضحايا التي احتُسِبت أرواحها في سبيل ذلك؟
إنه إحصاء لا يوفيه حصر.. أقدم عليه رجال ضربوا الرقم القياسي في صبرهم وجلدهم على الأهوال، وإنه إيثار لا يُضاهيه إيثار في الحياة اضطلع بأعبائه مغامرون لا يُبالون بالأخطار مهما تفاقم شرها؛ وتضاعفت آلامها.
على كواهل هؤلاء الروّاد الفدائيين قامت أمجاد الأمم التي تُباهي اليوم بمراكزها تحت الشمس، وعلى أشلاء أجسادهم مشت الكتائب التي حازت النصر لبلادها وبلغت بها غاية الهدف!!
فهل تسخو اليوم نفوسنا ونحن على غلوة من الفجر الجديد بإيثار بلادنا بأمثال هذه التضحيات التي برز فيها الفدائيون قبلنا، وبذل المغامرون من أنفسهم في سبيلها ما أسعد أممهم وبلادهم؟
ما أشد حاجتنا إلى شباب كامل الاستواء، ناضج المعرفة، لا يُبالي بالصعاب مهما اشتد أوارها ولا يخاف الأهوال مهما تفاقم شرها في سبيل أن يسعد بها بلاده.
فإلى الأمام أيها الشباب.. إلى الأمام..
دعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :354  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.