شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نحلم بالوظيفة.. وأن تهلَّ قوافل الحجاج
ويستطرد البحث بنا إلى غير المهنيين من شبابنا الطامح الذي بدأ يعقد أمانيه على وظائف الحكومة، ويُعلق آماله على مراقيها، ويتخيَّل أنها الطريق الممهد الميسور إلى الجاه والغنى.
وهي فكرة إنّما تدل على عقلية محدودة النشاط، لا أثر فيها للحيوية الدافقة، الميالة إلى التجديد والابتكار.
كانت حياة الوظائف مضمونة العواقب مكفولة المورد.. يوم كانت مجالات العمل في بلادنا لا تتعدّى حدوداً ضيقة. أمّا اليوم قد غزتنا الحياة الجديدة، واتسعت أمامنا آفاق لا عهد لبلادنا بها. فمن الظلم لشبابنا المتوثِّب أن يضيق ذهنه أمام هذه الآفاق، ومن الظلم لآماله الطامحة أن يحدَّها بوظيفة كل مميِّزاتها أنها مكفولة الرزق.
إن الآفاق التي تسامعت بنهضتنا الجديدة، وقرأت عن كنوزها المفتوحة، واستطاعت أن تعرف أن بلادنا باتت مهيأة للعمل المنتج في كثير من ميادينها البكر الصالحة للنمو.. فأغرت الشباب الصالح للحياة بالهجرة إليها.. فغزانا المتوثِّبون يتأبطون بعض رؤوس أموالهم، وغزانا إلى جانبهم ألوف وألوف لا يملكون إلاّ أرواحاً فدائية، وعزائم جبارة. فاقتحموا مياديننا في شجاعة، وتركونا على الحواشي نفكر فيما تمنحنا الوظائف من علاوات وما يُسدي إلينا الحاج من إحسان.
حتى جيراننا من البلاد الشقيقة التي لا يزيد مستواها العلمي عن مستوانا إن لم يقل عنه، استطاعوا أن يُزاحموا أعمالنا في المجالات الصغيرة.. ابتداءً من أعمال الطين والحجر، وأشغال النِّجارة والحدادة إلى صب الأسمنت، وتسليك البيوت بالكهرباء!!
فأنت تشاهد اليوم جاليات حضرمية، وأخرى يمنية، وثالثة من التكارنة وغيرها، استطاعوا أن يقتحموا بلادنا من غير مهنة يُحذقونها، أو مال يعتمدونه.. فتوازعوا الأعمال المتوسطة، وما دون المتوسطة في البلاد، واستطاعوا أن يقفوا على أقدامهم، وأن يُكوِّنوا لهم ثروات بالتدريج، وأن يستبدّوا دوننا بجلِّ الأعمال الحرة إن لم تكن كلها، وبقينا في أماكننا نحلم بمرتب الوظيفة، وندعو الله أن يزيد في عدد حجاجنا!!
ليتنا نعلم أن بلادنا لا تكمل فيها نهضة ما لم نحذف مهنة الحجّاج من مكانها في صدر قائمة أعمالنا لنُضيفها إلى أواخر القائمة، وينسى شبابنا زهو الوظيفة، ويحيلونها إلى الضعيف المحدود.. الذي لا تتعدّى مراميه في الحياة إلى أبعد من نظَّارته الذهبية فوق أنفه.
أعرف فتىً كان قد فُتِن بحب الآلات الدقيقة وهو لا يزال في سني الدراسة.. فكان يشتري كل ما يمر عليه من ساعات قديمة (وقمريات) خربة و (شماسٍ) مكسَّرة ليُشغل وقته في تفكيكها وإصلاح ما خَرُبَ منها، وكان يُعيد بيع ما أُصلح بأرباح لا تشجِّع ولكنه كان يشعر فيما يفعل بلذة لا تعادلها لذة، وكان يقول لي إن والدي لا يبخل بما يلزم لحاجاتي ولكن لذتي بما أربحه من عملي على ضآلته لا تُضاهيها لذة ما أتسلَّمه من أبي!!
وباعدت الحياة بيني وبين هذا الفتى من نحو ربع قرن، فلم أسمع من أمره شيئاً حتى بلغني أنه اليوم يملك ورشة ميكانيكية محترمة في إحدى مدن المملكة، وأن أعماله فيها تُدرُّ عليه أرباحاً لا تُدرُّها أرقى الوظائف العالية!!
وأعرف شاباً تخرَّج في مدرسة عالية يحمل في يده شهادة تخوِّله راتباً له قيمته في دنيا الوظائف، ولكنه كان طموحاً، فلم يغره الجو الحالم الذي أغرى كثيراً من شبابنا بحياة الوظائف، فافتتح محلاً صغيراً للتوريد، وشرع يكتب إلى الغرف التجارية في أنحاء العالم المتمدن يطلب إليها أن تُوافيه بما لديها من عناوين المصانع، فلما تجمَّعت لديه من ذلك جملة طيبة، كتب يطلب إرسال ما عندهم من نماذج، وأسعار، وشرع يتصل عندنا بكل تاجر يعرفه، أو يسمع عنه حتى استطاع على مر الأيام أن يكوِّن لنفسه مركز الوسيط بين الداخل والخارج.. وهو اليوم يقتعد كرسياً فخماً وراء مكتبه الخاص، مستنداً إلى خزانة حديدية مكتظَّة بالمبالغ المحترمة التي ربحها من كدِّه، والتي بنت له مركزه الاجتماعي الممتاز في البلاد.
وأعرف أكثر من شاب كانوا يحتلّون مناصب حكومية فضاقوا بحياتها الرتيبة المحدودة، ودفعتهم الجرأة على مغادرتها إلى معترك الحياة الصاخب، فأثبتوا صلاحهم، وتكشَّفت كفاءاتهم عن حقائق انتهت من نجاح إلى نجاح.
إن علاقة أكثر المجازفين الطارئين على بلادنا لا تتعدّى المصالح الرابحة، وإنهم على عنايتهم بأعمالهم بيننا لا يلبثون أن ينطلقوا بأرباحهم كلّما جدت مناسبة ليودعوها بنوكهم الوطنية، وينفعوا بها أرض أُمَّتهم.. أما بلادنا العاملة، وأما شبابنا المجازف، فلا مجال لنتائجهم وأرباحهم إلاّ في بلدنا العزيز.
سيقول اليائسون: ولكن أين هي تلك المجالات؟ وأين مكان المِهن التي تدعونا إليها؟
نحن بدورنا نستطيع أن نقول ولكن: ما قيمة العقليات المبتكرة، والأفكار التجديديّة إذا كنا لا نزال في حاجة إلى من يضع أيدينا على عمل نمتهنه، أو حرفة نصطنعها؟
إننا لا نكون خليقين بالحياة العالية التي نتمنى أن نحياها إلاّ إذا سابقنا غيرنا من الجاليات القائمة بيننا فيما تبتكر لنفسها من أعمال.. فقد شهِدنا أفرادها يقتحمون في بلادنا ميادين ابتكروا كثيراً منها دون أن يقولوا لنا أين مكان المهن؟ وأين مجالات الأعمال؟ ودون أن يطلبوا إلى أحد أن يضع أيديهم على ما يصنعون!!
وسيقول المترفون: أيجوز في نظركم أن يصطنع الشباب المثقف أعمالاً لا تليق بمكانته العلمية، أو يزاول مِهنة لا تشرِّف مقامه الثقافي؟
ونحن بدورنا نستطيع أن نقول: منذ متى جعلتم التعليم وسيلة قاصرة على التكسُّب؟ لماذا لا نتعلم للعلم نفسه؟ ونواظب على مدارسنا لننتهي منها إلى ثقافة عالية نرفع بها قيمتنا الخاصة بنا، ثم ننسلُّ إلى خِضم الحياة فنُزاحم فيه بمواهبٍ مصقولة، وثقافة تؤهِّلنا، وتوسِّع آفاقنا فيما نمتهن، دون أن تغرينا بالأجواء الحالمة فوق كراسي الوظائف، ومكاتبها؟
إن رجال الأعمال في أوروبا من الميكانيكيين والكيميائيين، وأصحاب الوِرَش الصغيرة، والنسّاجين، والخيّاطين والنقّاشين ليسوا من الطبقات الجاهلة أو غير المثقفة.. لأن أكثرهم يحمل أرقى الشهادات، ولا يستنكف أن يُزاول أي مِهنة يصادفها، وكثيراً ما يستعمل ثقافته وملكته في الفهم لفائدة ما يمتهِن.. فإذا بالورشة تتطور إلى مصنع، والخياطة إلى معمل، ومتجر، والميكانيكية إلى معدات ثقيلة. تنتج وتصدِّر، والنقاشة إلى فن يتسامى وتعلو شهرته.
ولو ظلت آمالهم منوطة بشهاداتهم لباتوا يتسكَّعون على أبواب الوظائف، أو يُلاحقون السيّاح كما نُلاحق الحجّاج مستدرّين مروءتهم، ولأمسوا حيث كانوا مثل ما نُمسي اليوم، ولما سمعنا بأسماء المخترعين منهم، والمبتكِرين، والباحثين في أحدث النظريات، ولما تمتَّعنا بما نتمتَّع به اليوم من وسائل أنتجتها قرائحهم، ومستحدثات أتقنتها أيديهم!!
فإذا سادت هذه الروح بين أوساطنا، واستطعنا أن نبث في فتياننا وشبابنا فكرة العمل الحر، فإن بلادنا ستحظى بالمنتجين من أبنائها الغيّورين على مصالحها وسمعتها، وعندئذ سنقوى على البروز بين الجاليات التي زاحمتنا على موارد الرزق عندنا، وسنستطيع أن نتولّى مصالحنا بأيدينا ولا نُتيح الفرصة لغيرنا، ونبقى كما نحن اليوم، لا هم لنا إلاّ التوظُّف أو تطويفة الحجّاج.
إن مدارسنا مُطَّردة النمو، مستمرّة في الانتشار، وإن عدد المتخرجين بشهاداتهم العالية منها يتزايد كلما مرت السنون. فإذا ظل أمرنا على هذا الحال، وظلّت فكرة التوظُّف أُمنية كل شاب في مدارسنا كما نُلاحظ اليوم.. فإن النتيجة المحتومة أن نتكتَّل عند أبواب الوظائف، ونتزاحم على عتباتها. وسنجد في نهاية الأمر أن دوائر الحكومة لا تستطيع أن تستوعب هذا العدد الذي يتضخَّم كلما مرَّت سنة.. وعندئذ سنُعاني ما لا يُطاق، وسنُقاسي من زيادة العرض على الطلب هواناً ورخصاً لا يقبله حر مثقَّف.
تعالوا نُلغِ هذه الروح التي تسود طلابنا في المدارس، والتي تصوِّر لهم حياة الوظيفة لمَّاعة مشرقة، ونُحاول أن نبث فيهم في سن مبكرة أن الحياة أوسع من أن تُناط بكرسي ومكتب، وأن في آفاقها من أنواع المجازفة وألوان الأعمال التي يبتكرها الشاب المُجِدُّ لنفسه ما يُغري بالاقتحام، ويُفضي إلى الجاه والغنى.
ولا تنسوا إلى جانب ذلك أن صناعتنا في تطويف الحجّاج مهنة أكل عليها الدهر وشرب، وأنها كانت عزيزة المنال رفيعة الجانب يوم كان الحجاج يُقدِّسون ما يمنحهم المطوِّف من بركات، ويوم كان آباؤنا من المطوِّفين يشعرون بمعاني هذه البركة في نفوسهم.. أمّا اليوم وقد تغيرت النظرة إلى حقائق الحياة وكادت تُلغي البركة بمعانيها القديمة من قواميس الحياة، وحلَّ محل المطوِّفين القدامى شباب عادوا إلينا من كلياتهم في الجامعة يحملون أفكاراً جديدة لا تمتُّ إلى ما تعوَّد أسلافنا بسبب، فإن خدمة الحجّاج بشكلها وتقاليدها الحاضرة سوف لا تصلح لأن يمتهنها جيلنا الجديد إلاّ إذا نُقضت من أساسها، وبُنيت في نظام يتّفق مع ما تبنى عليه الحياة اليوم.
فإلى أن يقتنع المسؤولون عنها بضرورة تجديدها، يتعيّن على نشئنا الجديد أن ينساها ولو إلى حين، ليشق طريقه في الحياة بين المجازفين من أبناء الجاليات الطارئة؛ وألاّ ينسى أنه أحق بهذه المجازفة من كل طارئ.
دعونا يا قوم من تعِلات لا تقدِّمنا إلى الأمام خطوة، وتعالوا نعتمد على سواعدنا في الحياة، وننسَ حياة التواكل في المكتب أو بين الحجّاج ونمضِ فيما مضى فيه معاصرونا من أمم الأرض.
هلموا بنا..
ودعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :333  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[صفحة في تاريخ الوطن: 2006]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج