شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ضرب عمرو زيداً
ويحلو لنا أن نتابع الحديث مع أصحابنا رجال المِهن، فنتمنى عليهم أن يكونوا حيويين في كل ما يمتُّ إلى مهنتهم بسبب.. فوارث المهنة عن أبيه أو معلّمه لا يجب أن يجمد على ما ورث، بل عليه أن يفكر في شؤون مهنته في ضوء ما يعرف من تفكير أجداده.. فقد كان أجداده يعيشون في عهود لا صلة بينها وبين القرن الذي نعيش فيه إلاّ بالذكريات، والرسم البالي إن كان في الذكريات وباليات الرسوم ما يستحق الحفاوة.
أذكر أني قرأت قصة عن والٍ تركي يُسمى داود.. كان يعيش في مصر، وكان يعجب لجماعة العلماء من النحويين وهم يقتصرون في أمثالهم مهما تعددت مناسباتها على زيد وعمرو في صور ورثوها شيخاً عن شيخ.. كان يُعيب عليهم فيما يبدو قِلَّة حفاوتهم بالتجديد، وتمسُّكهم حتى في الأمثال بالحَرفيَّات التي انتقلت إليهم من أجيال سالفة.. فكان يستدعي الرجل منهم إلى مجلسه ويستقبله في إجلال، ثم يسأله عن العِلَّة في تمسُّك أمثالهم النحوية بزيد وعمرو دون أن تتطرق إلى أسماء أخرى من ملايين الأسماء الشائعة بين الناس، ثم عن العِلَّة في تخصيص زيد بمركز الضارب، وعمرو بمركز المضروب في أسلوب لا يجرؤ جريء على تبديله أو تغييره.. فلم يخطىء أحدهم مرة ليقول: (ضرب عمرو زيداً)، لأن في ذلك تحريفاً عن الحرفيّات التي ورثها عن مشايخه، نقلاً عن مشايخهم ومشايخ مشايخهم إلى الطبقة الأولى التي كان لها الفضل في اختراع هذه الأمثال.
كان الوالي يُعيب على جماعة العلماء جمودهم على هذه الحرفيّات، ويتمنّى في تهكُّم أن يفسر له أحد المشايخ الذين يستدعيهم عِلَّة تشبثهم بإيراد هذا المثل بالذات، ولكنه كان لا يجد عند من يستدعيه ما يروي غِلَّهُ (نعم.. نعم.. إنها أمثلة يا حضرة الوالي ذكرها الشيخ عن شيخه عن شيخه).
فيستشيط الوالي غضباً وينسى تجِلَّة الشيخ فيأمر بجلده وحبسه، ثم يستدعي غيره وغيره فلا يجد غير هذا الجواب فيستأنف الوالي أوامره بالجلد والحبس حتى اكتظَّ السجن بهم.
واستُدعي إلى مجلس الوالي في نهاية الأمر شيخ مجدِّد كان يميل إلى الابتكار وصرف النكتة فقال: أيُّها الوالي. إن عمراً لص يستأهل الضرب المستمر من يد زيد. فقد جرؤ على اسم مولانا الوالي، وسرق واوه ليضيفها إلى اسمه.. فاغتاظ زيد من هذه الجرأة، وانطلق يضربه في كل مكان يصادفه.. لهذا فلا لوم على النُّحاة فيما يمثلون.
فضحك الوالي لبراعة النكتة ورشاقة الاستنتاج، وأمر بمكافأة الشيخ، وأطلق سبيل زملائه من السجن تقديراً للنكتة البارعة.
وأعتقد أن القارئ الكريم لم يفتْه موقع النكتة التي أوردها الشيخ.. فإن الوالي كان يسمى داود. وكلمة داود كان يجب ألاّ تكتب إلاّ بواوين ولكنا نختصر ونحذف أحدهما ونُعطيها لعمرو اعتباطاً لأن كلمة عمرو ليس في نطقها واو، ولكننا نضيف إليها هذه الواو فجعل الشيخ عمراً لصاً سرق واوه الزائدة من داود فاستحق أن يضربه زيد باستمرار.
هذه الرشاقة في الاستنتاج المُضحك لها قيمتها عند جميع المحترفين الحيويين يقابلها الجمود الحرفي الذي استاء منه الوالي التركي، والذي بُلينا به نحن في جميع ما نحترف من علوم أو فنون أو مِهن.
كان جبران خليل جبران يقول: ((إذا رأيت جاراً لك يستنبت في حقله وردة صفراء، وآخر إلى جانبه يستنبث وردة حمراء.. فحاول جهدك أن تطعم اللونين بوسيلة تبتكرها لتستنبت وردة تجمع بين الحمرة والصفرة)).
هذه هي العقلية المبتكِرة التي ندعو إليها جميع المحترفين والعاملين في حقول حياتنا من أي لون، وهذا هو روح التجديد الذي ينقصنا لنثبت وجودنا بين أمم الأرض الحيّة.
ورث المطوّفون عندنا نُظماً أكل عليها الدهر وشرب، وتقاليد أصبحت لا تمت بصلة إلى القرن العشرين. فما بالنا نحمد على ما ورثنا من نظم؟ وما بالنا نقدِّس تقاليد ظهر أنها لا تستأهل التقديس؟
كان أجدادنا يستوحون تقاليد العصور التي عاشوا فيها فيسيحون بين الأقطار التي عرفوا حُجّاجها يوزعون البركات فيها بين مُحبيهم، ومُريديهم، ويتقبّلون هداياهم كما يتقبَّلها رؤساء الطرق ومشايخ السجادة. فهل بقي إلى اليوم أمر البركة في أسلوبه الذي كان شائعاً في الأمصار؟ أم عمَّ التعليم جميع القرويّين وفتح عيونهم على أشياء جديدة أنستهم كل ما كان؟؟
وهل بقيت النظرة الوقور التي كان ينظرها الناس إلى مشايخ السجادة ورؤساء الطرق وأمثالهم من المرتزقة باسم الدِّين على حالها كما كانت؟ أم بات الناس ينظرون إلى ذلك النوع نظرهم إلى الدجّالين والمشعوذين؟
والواقع أن جلّ القيم الأخلاقية إن لم نقل جميعها قد تغيرت معاييرها بتغير العصور، وأن كثيراً من المصطلحات التي تواضعت قواميس القدامى على احترامها أصبحنا في حاجة إلى تغييرها بغير ما وُضِعت له إن لم نجرؤ على حذفها من القواميس.
فما بالنا نجمد ونأبى إلاّ أن نلبس (الجبب) التي فُصِّلت لغير جيلنا؟ أنعيش بين المعاصرين اليوم بأجسامنا ونترك أرواحنا تعاصر أمماً أبادها الزمان وقضى عليها؟ أم أننا نعرف صلتنا بالعهد الذي نحيا فيه ولا نجهل ظروفه وملابساته، ونعرف كيف نُماشي أندادنا فيه؟
إن عامتنا يقولون: ((كل زمان يعطي حُكمه))، وهي نظرية تبلغ شأوها الرفيع بين الحُكم.. فمن السخف بمكان أن أركب الشقدف في عهد السيارة، وأمخر البحر (بالسنبوك) في عهد الباخرة، وأدهن بالجنزبيل في عهد الكينين والأسبيرين.. كما أن من السخف أن أستمع إلى نظريات (سيدنا في الكتاب) وأنا من متخرجي الجامعة، وأن أبني بيتي على غِرار ما بناه جدي، وأترك أحدث ما أنجبه المهندسون في عصري.
أجل (كل زمان يعطي حكمه)، فقولوا هذا لقادتنا من كبار المطوّفين، وقولوه لسادتنا من حفَّاظ النظام العتيق، وقولوه لكل مطوّف يأبى إلى اليوم إلاّ أن يلبس جبة جدّه، ويمضي في سياحته بين القرى يوزِّع بركاته على الساخرين، ويقبل الهدايا من المتصدِّقين.. قولوا لهم هذا ولا تنسوا أن تُلفِتوا نظرهم إلى مجال العمل في بلادهم التي أصبحت تغصُّ بالروّاد والآفاقيين من كل جنس، ومن كل لون.. قولوا لهم إن الروّاد الآفاقيين استطاعوا أن يأخذوا أمكنتكم في ميادين بلادكم، وأن يطردوكم إلى قرى الآفاق لتستعطوا الناس وتستدرّوا رأفتهم!!
قولوا لهم هذا، ثم صيحوا فيهم أن يجتمعوا، وأن يتساندوا، وأن يدرسوا أحوالهم كما تعوَّدوا أن يدرسوها.. بشرط أن يصدقوا العزم في هذه المرة، وأن يبيتوا النية على العمل المجدي الذي لا يشوبه الصخب، ولا تثبطه الأغراض.
قولوا لهم تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.. أن نصون كرامتنا من العبث، وأن نجدِّد من تقاليدنا ما أبلاه الزمان، وأن نبتكر لمهنتنا ما يتماشى مع أحدث النظم.
قولوا لهم إننا لا نريد أن نقرر دستوراً معيناً ولا أن نفرض قواعد بذاتها ولكننا نريد جديداً نستوحيه من حاضرنا، ويتفق في جملته وتفصيله مع مصالحنا.. في ضوء ما ابتكرته أحدث النظريات.
قولوا لهم هذا، ولا تنسوا أن تسألوا المتحرِّجين منهم في أناة ورفق لماذا يتحزَّبون ضد التجديد؟ ولماذا يأبون إلاّ أن يُصرّوا على ما ورثوا من قديم؟ أهو استجرار لتقاليد عفا عليها الزمان؟ أم استدرار لمصالح خاصة يخشون أن تضيع بين أعمال الهدم والبناء؟
قولوا لهم هذا، وترفَّقوا، فإن الكبرياء والعناد أهم مميزات دعاة القديم في كل زمان.. ونحن في حاجة إلى استدراجهم بما يخفِّف غلواءهم أكثر من حاجتنا إلى تحدِّيهم!!
قولوا هذا، ولا تُقصروه على جماعة المطوّفين، فإننا لم ننشء ما أنشأناه من قول لنُخِص به المطوّفين وحدهم، ولكن السياق أبى إلاّ أن يمضي في ساقيتهم لبروزهم بين أصحاب المهن عندنا، وتميُّزهم على جميع الطوائف بيننا!!
إذن فنحن لا نريد أن نختصُّ المطوَّفين وحدهم بما نقول، بل نتمنى لجميع طوائفنا ما نتمنّاه لهم، ونرجو منهم ما نرجوه من المطوّفين.. نتمنى أن تسود العقلية المبتكرة جميع المهن بيننا من الحداد، والسمكري، والنجار، والبنّاء، إلى الترزي، والخياط، والنقّاش، والزرّاع.
أما التِجارة فلا أعتقد أننا في حاجة إلى التدليل عن مبلغ تأثر نجاحها بالعقلية المبتكرة، لأن وسائل الدعاية التي لازمت أطوار التجارة في شتّى بقاع العالم المتمدّن أثبتت ضرورتها لرواج هذا النوع من الأعمال في الحياة، ولأن جمال العرض في أسلوبه الشائق المبتكَر أعطاها مركزاً لا تناله إلاّ عقلية مرنة.. تقبل التجديد، ويلذُّ لها الابتكار.
أنرى هذه العلاقات النظيفة، وهذه المعاملات التي تتسامى إلى درجة ممتازة من الاستقامة والشرف في جميع أعمال التصدير والتوريد بين التجّار في أكثر بقاع العالم المتمدن؟؟
إنه -مع كل أسف- لم يكن تديُّناً أو تخلُّقاً بأخلاق الديانات التي يدين بها التجّار والصنّاع على اختلاف نِحَلهم في البلاد المتمدّنة بقدر ما هو أسلوب في العرض، وتحايُل لطيب السمعة، ودعاية يُراد بها الشهرة.. هي في مجموعها تجديد في التجارة، وابتكار في المعاملة؛ أثبتت التجارب ضروريتها لنجاح البيوت الكبيرة التجارية والصناعية.
فهلاّ يليق بنا -ونحن أجدر منهم بهذه الخِلال واستجابة لديننا- أن نُعنى بهذا التجديد، ونُساعد سمعتنا على اكتساب الأحدوثة الطيبة؟
أجل.. وإنه خليق بنا أن نستجيب لوصايا ديننا في الأمانة والاستقامة، وأن نُساير المجدِّدين ونُدرِّب عقولنا على المرونة والابتكار.
فإلى الأمام يا بني قومي..
ودعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :360  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.