شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
يَطبعُونهم على إيثار وطنهم الأصلي
عبنا على أنفسنا فكرة الفردية ولعلّنا أسرفنا القول فيما عبنا، ولا نعتقد أننا مع هذا الإسراف أوْفينا حقوق البحث.
وفي فصلنا هذا تتداعى أمامنا معاني هذه الفكرة، وتشوقنا المناسبة إلى الحديث عن أفراد منّا لم يتواكلوا كما تواكل غيرهم عندما رأى أنه عود نشاز في طرف الحزمة. بل كان مثلاً قوياً من أمثلة العمل الجاد.. دأب على النافع المفيد، واستطاع أن يكلل دأبه بنجاح منقطع النظير.. ولكنه مع هذا أبى إلاّ أن يكون جاحداً فيما دأب، ناكراً للجميل فيما نجح.
أبى إلاّ أن تكون جهوده وقفاً على أنانيته، لم يرعَ فيه إلاَّ ولا ذِمة، ولم يذكر عند ظفره فيها أن له علاقة بوطن يمتُّ إليه ومواطنين ينتسب إليهم.. وأن لهذا وهؤلاء المواطنين حقوقاً أدبية يجب أن تُستوفى، وديوناً معنوية يجب أن تُؤدّى.
أعرف مواطناً لا أُسميه، أنجبته أرضنا فيمن أنجبت، ورعْته صغيراً فيمن رعتْ، وأقلته ناشئاً فيمن أقلت.. حتى إذا استوى عوده، واستطاع أن يُهاجر إلى حيث توطَّنت قدمه، نسي أهله القدامى وبني عمومته الأقربين، ولداته الأدنين، ونسي أن له وطناً ربّاه وغذّاه كما ربى أباه وجده وغذاهما.
لقد كان عصامياً في هجرته، ومثالاً من أمثلة الجدِّ في كدِّه.. استطاع أن يبدأ حياته من جديد بائعاً متجوّلاً. حتى إذا نمت تجارته أسَّس لها مصنعاً زوَّده بالآلات والمحرّكات فتضاعف الإنتاج، وتوسَّع العمل، وطارت شهرته حتى تجاوزت الحدود، وحلَّ محل المتجر بيت تجاري كبير كثير الفروع يوزِّع إنتاجه على عملاء لا يُحصى عددهم، وتبلغ أرقام رصيده في البنوك مبالغ يعزُّ منالها.
فماذا بعد كل هذا؟
عرف صاحبنا لمهجره وحقوقه في هذا النجاح.. فاستوطنه ولعلّه تجنَّس بجنسيته، وأقام فيه قريراً بثرائه الطائل، ولكن.. ولكن ما فعل الله بموطنه الأصلي؟
أثمة علاقة تُذكره بجيرته في الزقاق، ولداته في الحارة، وأهله من ذوي القربى، وأصهاره من ذوي الرحم؟!
إنني أُشفق على قرائي من أصحاب الحميَّة أن تصدمهم المفاجأة إذا علموا أن صاحبنا نسي جميع ما يمتُّ إلى وطنه بصلة، وأنه نسي بنسيان ذلك أقرب الناس إليه من أعمامه وأخواله، وجميع من يُنسب إليه من بنين وبنات وعمات وجدات!!
نسي كل هذا.. واتخذ له من ثرائه نسباً جديداً، ومن عملائه ومساعديه أهلاً وأقارب!!
فهل بعد هذا نكران يستحق أن يُسمى نكراناً، وهل بعده جحود يُضارع مثل هذا الجحود؟؟
يذكرني هذا بجماعة اللبنانيين المهاجرين في أمريكا فقد فر أكثرهم بصبابة ضئيلة لا يملك غيرها من المال.. حتى إذا حط رحله في أي بلد من أمريكا نذر نفسه للعمل، وللعمل الشاق المضني، وظل على ذلك حتى يستغني ويتسع ثراؤه.
وقد بلغ من اتِّساع ثروات بعضهم في أمريكا أن أصبحوا يُضاهون كبار الرأسماليين فيها، واستطاع كثير منهم أن يؤسسوا بيوتاً تجارية، وأخرى صناعية لا تقل شأواً عن البيوت الكبيرة في أمريكا.
ومع هذا فلم يصرفهم غناهم، ولم تصرفهم ثرواتهم، واتِّساع نطاق أعمالهم عن البلاد التي غذَّتهم أطفالاً، وأقلتهم صبياناً.
كانوا ولا يزالون يتعهَّدونها بالزيارة حرصاً على أوشاج تربطهم بالأقرباء، والأرحام والأصهار، ووفاء لمرابع رتعوا فيها، ونشأوا بين مغانيها.
وكانوا ولا يزالون يُعنون بأحداث بلادهم، وقضاياهم ويشاركون في العمل لها حتى كوَّنوا لذلك جمعيات، ورابطات تجمعهم على شؤون بلادهم، وأسسوا لخدمة أوطانهم صحفاً ومجلات جعلوها موقوفة على شؤون بلادهم، وأنطقوا بعضها بالعربية الفُصحى في بلاد لا تعرف العربية؛ وأصدروا غيرها بلغة مهجرهم.. لتكون دعوتهم ذات أثر فعّال في جميع البلاد الأجنبية.
ولم تقتصر الحميَّة على النفر المهاجر فقد تعدَّتها إلى أبنائهم وأحفادهم ممن وُلدوا في أمريكا.. آثروا أن يطبعوهم على إيثار وطنهم الأصلي، وأشربوهم حبه.. فنشأوا يشعرون بشعور آبائهم، ويشاركونهم فيه الحب والإكبار.
فما بال بعضنا تُغريه الثروة، وتُنسيه ماضيه، وتصرفه عن واجباته نحو البلد الذي أنبت آباءه قبله، وتعهدهم بما يملك من ذخيرة.. ولا يزال يتعهد أهله إلى اليوم وذوي قرابته؟؟
أبعد هذا نكران يستأهل التسجيل، وجحود ينتهي بعده جحود؟
وأنكى من هذا أن صاحبنا الذي أنشأنا من أجله هذا الحديث أصبح في ذروة جاهه اليوم يستنكف أن يتصل به الغرباء من بني بلده، ويتمنّى -كما قيل لي- أن ينسى مواطنوه علاقته القديمة بموطنه الأصلي!!
قيل لي هذا فلم أستغرب كثيراً ما قيل لي.. لأن الجحود في الأرض ليس بدعة اليوم فهو قديم بقدم جميع الخلال الحقيرة في الحياة.
لا يزال أمامنا طريق طويل نحارب فيه الجهل الذريع، والخلال الشريرة.. وليس لنا من عدَّة في هذا إلاّ شيوع المعرفة شيوعاً شاملاً يعمُّ طبقات الأمة ويتخلَّل جميع صفوفها، وينطلق إلى بوادينا الشاسعة، ومناطقنا المترامية فلا يترك قرية إلاّ طرقها، ولا واحة إلاّ هبطها؛ ولا بيتاً من الشعر إلاّ نزل به.
إذا شاع العلم بيننا هذا الشيوع تكشَّفت أمامنا حقائق الحياة، واستنار أمامنا الطريق، وتكوَّن لأمتنا الوعي الحي والفهم البصير.
ليس من ينكر أن الجهل الذريع الذي أُطبق على بلادنا من عصور سحيقة تركها لا تُميز الأشياء على حقائقها، وعطَّل فيها ملكات الفهم والتعقل، ولا ينقذنا ونحن على أبواب نهضة جديدة إلاّ أن نُعنى بشؤون المعرفة عناية تفوق عنايتنا بجميع مرافق النهضة في البلاد!
التعليم هو الوسيلة الوحيدة التي تُوسع مداركنا، وتُنير أفهامنا وتعقل عقولنا، وتُعِدنا إعداداً صحيحاً تُرهف فيه أحاسيسنا وتؤهِّلنا لفهم الواجب في وجوهه الكاملة.
لا يهولنا أننا نخطئ الجادة اليوم، أو نسيء السلوك إلى صراطها، ولا يظُننَّ ظانٍ أن بعض خلالنا المستهجنة جِبلَّة تكوّنت بتكوِّننا، فقد سبقتنا شعوب كانت تعاني شراً مما نُعاني اليوم حتى إذا انبثق الفجر في سمائها وسطع العلم في أركانها استطاعت أن تستبين الطريق، وتستوضح الجادة؛ واستطاع العلم أن يصوغها من جديد.
دعونا نمشِ.. وحسبنا إغراء بالمشي جماعة الرائدين في الأمم الناهضة فقد رأيناهم يتكلّفون شظف العيش، وأوصاب الحياة في سبيل نظرية يثبتونها، أو فكرة يخترعونها، أو شبراً في الأرض يكسبونه؛ خدمة لبلادهم وإيثاراً لبني جلدتهم، فكم ضحَّى المجازفون، وكم تعرضوا لأشد الأهوال خطراً، وكم جالدوا في صبر ورضى بِراً بأوطانهم.
لم يؤهلهم لكل هذا إلاّ المعرفة التي صقلت أفهامهم، وأعدَّتهم لمواجهة الحياة..
فدعونا نسلك فيما يسلكون، ونمضِ إلى حيث يمضون.
دعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :364  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 11 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج