شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نابغة جيل
كان يمشي وفي خطواته ثقل كمن هدّه عبء فادح وأقلقته أفكار مبهمة وانطلق في مشيته ضيق الخطو مقبوض النفس إلى ربوة مرتفعة يكسوها عشب مخضل فإذا صديقته تتكئ على صخرة ناتئة في قد ممشوق بائن الطول تهدلت من رأسها خصلة فاحمة كان النسيم الرفاف يعبث بها في هون رتيب.
جلس على خطوة منها وأرسل عينيه تجولان في الأفق وقد ذابت الشمس وراء الأفق فتكسرت أضواء الشفق على منحدرات التلال البعيدة وانعكست أشعته على الغدران المنتشرة بين حنايا الوادي.
وما أن رأته حتى انفرجت عن شفتيها بسمة قرأ فيها بعض معاني الرضا فتراءى له أن يكتشف مكانه من قلبها فبادرها:
- أتحبين؟!
- ما تعني؟!
- أعني كل ما في هذه الكلمة من معنى.
- أحب.. أحب الليل في هدوئه الغافي والقمر تغشاه غمامة شفافة والأفق المترامي لا يحده بصر.. أحب الجبال الشامخة كأنها تعبر عن كبرياء صامت، والسهول المنبسطة كأنها مطرزة بالوشي والجداول الصافية يترقرق فيها ماء عذب.. أحب البكور تشقشق فيه العصافير المغردة وأحب الشمس في صحوتها تظللني من سعيرها دوحة فينانه، وأحب الأصيل تنعكس فيه الشمس ذهبية براقة.
أحب كل ما هو طبيعي في الحياة لم تصقله يد محترفة، أحب كل ما هو صحيح لم تزينه الصناعة المبهرجة أحب الرأي مصدره المنطق السليم والقوة مبعثها الحق القويم والفضيلة يصدع بها رجل بريء من الشهوة والغرض أحب في الحياة محمداً عليه ألف سلام.
أحبه لأن أغراضه شريفة ما التوت قط.
لأن سيرته صورة من تعاليمه.
لأن تعاليمه بيضاء نقية لم يكدرها إلاّ هواؤنا.
أحبه لأنه كان قوياً على نفسه قبل أن يكون على غيره.
أحبه لأنه كان عادلاً لا يميز أصفى أصفيائه ولا يستثني أقرب أقربائه.
كان ليناً من غير ضعف. رقيقاً دون تكسر. فقيراً ما لانت قناته لجبار في الأرض.
غنياً ما شبع قط من طعام الدنيا.
عفا ما بر أهله بشيء من لذائذ الحياة.
قال وقد اعتدل في جلسته وتوجه إليها بوجهه: أمامي إذن شاعرة تعبد الله.
- هو ذاك فأنا شاعرة بهيامي في جمال الطبيعة، متعبدة لافتتاني بالمثل الكامل في حياة سيد الخلق فهل هذا كل ما تريد أن تسأل؟
- إنه ما أعنيه بالضبط ويهمني بعده أن أعرف ألاّ تحبين حب أهل الدنيا وتغرمين غرامهم.
- لست نبية ولا ناسكة ولا تخلو حياتي من بعض معاني العبث ولكني لا أعدم لمحات أصفو فيها لوجداني كما يفعل كل مؤمن أما الحب حب أهل الهوى فحب تقليدي وقد كنت من غواته لأني سخيفة أحب نفسي. قال: وثمة حب آخر قد لا يكون من السخف بالقدر الذي تتصورين.
- قالت أيا هذا أنت مغرم بقيادي إلى ما يشوقك وعلى رغم أنك تراني أجملت تأبى إلاّ أن أسهب عساني أرضي ناحية في وجدانك.
- ولكن إجمالك لم يفسر شيئاً مما تعرفين أني مغرم به.
- لا بد لإيضاح الفكرة من ترتيب منطقي.. هناك الحب الصافي الذي تبرّ به ذوي الفضل ممن تعرف وهناك حب الجمال في الطبيعة الذي يشوقك جمالها الأخاذ من كل لون.
وعلى غير بعيد منك جمال مشرق في وجه فتاة كاعب يتألق الإشعاع في أهدابها الوطف.
الحب في صوره الأولى معناه الجمال شائع في كل ما استأنست والحب في شكله الأخير حصر الجمال في حالة بذاتها تستثنيها لنفسك وتقيدها بك، ربما انقلب بك هذا إلى خير إذا كنت لا تغالي وإلاّ فأنت غاوٍ بما استثنيت، ظالم لما استأثرت، كدأب ما مر بنا من قصص المدنفين ومآسي المحرومين!!
الحب في صورته الأخيرة غلطة الأجيال والحقوب تحدرت إلينا في أسلوب كانت القصة وكان الوضع أهم عناصره.
وتركت الغلطة البليغة أثرها في وعي الأجيال حقبة طويلة شكا كثيِّر من عزة وبكى جميل من بثينة وجن قيس بليلى في صور لا تدري كم غالى الوضَّاع والقصَّاصون فيها، ولكنك تدري أنها كيّفت الحب في جميع العصور بعدهم وصاغته في القالب الذي اخترعه الوضّاع والقصّاص لقيس وجميل وكثير ولو كنت قصاصاً بارعاً ذا خيال واسع لاستطعت أن تضع للناس قاعدة جديدة للحب في قصة محبوكة تجعل منها مثلاً للحب في أسلوبه السليم الذي لا يعرف المغالاة ولا الجنون.
أنت تشرب الشاي تعدل به رأسك إذا كنت من أصحاب الكيف ولكن لا -تشربه مبرداً لا ولا مثلجاً وإلاّ فقدت أثر الكيف وفقدت معنى الشاي فيه.
ذلك لأن جيلاً أو أجيالاً سبقت ورّثوك الشاي تشربه في سخونة مقدرة فانطبعت على هذا.. إذن لا شاي إلاّ في إطار ما ورثت.
كدأب الحب.. حبك فتاتك الكاعب لا يكون وهو مثلج وبارد لأنك مطبوع بما تحدر إليك من قصص الأجيال وما افتراه الوضاع من حكايات غرامية تصلي ناراً ذات لهب.. إذن لا حب إلاّ في إطار ما ورثت.
ثم قل بربك أأنت تشكو من قسوة حبيب هجرك ليكن هذا ولا تثريب.
ولكن ما معنى اللوعة ما معنى الأسى والبكاء ما معنى الجنون أو الموت.
- إنها أسرار الروح بدليل الرعدة التي تنتاب العاشق وانتفاضة القلب التي تعتريه في الوهلة التي تفاجئه فيها طلة الحبيب أو تصافح أذنه نتف من ذكراه.
- أنت تعرف أن أكل الليمون يضرس في الفم وإذا غاب الليمون فلا تستطيع أن تنكر أن ذكره يضرس في الفم فهل ثمة أسرار في الروح أم هي ظاهرة انطبعت بها من طول ما عرفت من مزايا الليمون كذلك الرعدة عند ذكر الحبيب ليست إلاّ ظاهرة انطبعت بها من كثرة ما ورثت من معاني قصص الحب المفتراه.
- ولكن ألا ترين أن ثمة حباً مثلجاً هو الحب المتبادل بين اثنين.
- لا أحسب في هذا بأساً إذا سلم الغلو وقلما يسلم ذلك لأن للحبيبين غرائز قلما تهادن أو تنسى ما ركب فيها من حيوانية.
أخشى إذا تحابا اليوم ونعما بتأثير هذا المخدر الوجداني لا تلبث مشاكل الأيام أن تواجههما بهنات يتخيل أحدهما فيها أنه مغبون وللخيال شطحات إذا وجد من يستمرئها استطالت وبدا الوهم يلون حتى البادرة البريئة ليستفز الواهم فيستاء أو يغضب لكرامته وربما تجنّى فاستكثر قبيله تجنيه ورأى من حقه أن يتعالى.
وما أكثر ما يجرح التجنّي والتعالي كبرياء المتحابين فيشعر الواحد منهما أنه بات مهزوزاً من قبيله وأنه فقد من ميزته وما يحب أن يفرضه عليه.
هنا بدأ الجو يكفهر فإذا السماء تتلبد بالغيوم وإذا هزيم الرعد ينذر بالشر والويل وإذا العاشقان بين الجموح التقليدي والهوى الغرير يتجاذبهما مد وجزر لكل كرامته يجب أن تصان ولكل ميزته يجب أن تطفو فوق السطح.
لا بد في هذا الكون من سيد ليعيش المسود ولا بد من ضعيف لتستقيم القوة ولا بد من النفع لتبقى الحياة في الأرض.
كن محباً أو محبوباً لتكون سيداً قوياً نفعياً أو مسوداً ضعيفاً مسخراً، في الأولى ظلم وفي الثانية عذاب وذل.
هذا في عاشقين تبادلا الحب وصفا بينهما الود فما ظنك بهما إذا باتا طرفين أحدهما في السحاب والآخر في التراب.
حسبي يا صديقي أني كشفت أمامك أوراقي لتعرف رأيي وما أذهب إليه.
ولي بعد هذا أن أقول بقول المحب الشاعر:
وعش واحداً فالحب راحته عنا
وأوله سقم وآخره قتل
فهل يقنعك هذا ويرضيك..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :386  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 51 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج