شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من الحب جنون
فزع الصديق الخياط عندما قرأ رأيي في الحب وخابت آماله في شخصي عندما قلت إن (من الحب جنون) وراح يعلق على ما قرأ بحماس شاب مشبوب العواطف.
وفي سبيل أن يؤيد حماسه راح يؤكد لي أن فلاسفة العالم قالوا.. ((إن الحب واحد من اثنين يحكمان العالم)).
وعهدي بفلاسفة العالم لا يجمعون على قولة واحدة لأنهم مغرمون بالشطحات.
فهل جاءني شيء عن مكان الاجتماع وعدد المجتمعين وإلى أي عصر كانوا ينتسبون أكانوا من عصور الفلسفة القديمة أم من المحدثين أم تهيأ لهم قدامى ومحدثين أن تجمعهم صدفة واحدة لتنتزع منهم اتفاقاً موحداً لا يشذ منهم فيلسوف على خلاف عاداتهم في النزوع إلى المخالفة والشذوذ الشاطح.
وإذا فرضنا أنهم جميعاً قدامى ومحدثين أجمعوا على قولة واحدة فهل من حقهم أن يضيقوا واسعاً وأن يفرضوا رأيهم على المفكر الإنساني في غير هوادة أو نقاش.
إن مأساتنا في الحياة أن نتقيد بكل ما قيل عن أصحاب الرأي فلاسفة أو مفكرين وتنسى أنهم ربما صدعوا بالفكرة متأثرين بنزعات ملابسات خاصة فلا يتعين على الإنسانية في رأيي أن تتقيد بكل ما قيل وإلاّ لحجرت على الأفكار وعطلت ملكاتها.
إن فلاسفة اليوجا البوذيين وحتى عبدة الشمس والقمر أورثوا الحياة أرتالاً وأرتالاً من الآراء فلسفوها ثم أرسلوها قواعد قيدوا بها أتباعهم فحجزوا عليهم واسعاً وربطوا مقدراتهم بما قننوا فنحن اليوم ربما شهدنا خريجاً من أكسفورد تعذر عليه أن يستعمل فهمه الواسع في مناقشة ما ورث من فلاسفة مذهبه وأنى له هذا وقد اختلطت مبادئ ما ورث بدمائه وجرت مجراها في شرايينه.
لا يا صاحبي.. ليس من حق الفلاسفة مهما بلغ شأوهم أن يغلقوا على الإنسانية مناحي الفكر لتخسر الحياة نتائج الاحتكاك والمصاولة مهما كان نوعها.
ليس من حقهم أن يحجروا على صاحب الرأي مهما قلّت بضاعته وصاحب التجربة مهما صغر شأنه أن يناقشهم في بعض ما يرتئيه مما قننوا.
إذا راق لك هذا.. وإذا استطعت أن تخفف من غلواء عواطف الشباب المشبوبة في دمائك فهات يدك وتعال معي.
لا.. لا أستطيع أن أماشيك وأنت مشبوب، فأعصاب المشبوب تتوفز بما يشعل أوارها من أفكار وما يرفض لنشوتها.
هل تخففت؟ -إذن.
فدونك الرأي..
دعنا نقول بقولهم: إنّ الحب يحكم العالم فهلاّ ترى من حقنا أن نناقشهم في نوعية هذا الحب الذي يحكم العالم.
نحن نعرف من الحب ما يتناول عواطفك نحو أمك وأبيك.. نحو طفلك.. نحو أخيك.. نحو أصدقائك.. نحو أقربائك.. نحو زملائك ونعرف إلى جانبه أن (ترمومتر) الحرارة يختلف في كل هذه الحالات باختلاف علاقتك بكل هؤلاء.
كما نعرف من الحب ما كان يجب أن يتناول عواطفك نحو إخوانك في الدين.. في الجنس.. في الإنسانية جمعاء..
هذه ألوان من الحب ليس لنا أن نناقش فيها فيلسوفاً أو غير فيلسوف يدعي أنها خير ما يحكم العالم وهي من البساطة بالقدر الذي لا نحتاج معه إلى من يدعمه من فلاسفة العالم قدامى أو محدثين.
بقي بعد هذا نوع من الحب استطال فيما أحسب على كل أنواع الحب فعبث بمفاهيم الحياة وأحال استقرار المدنفين به إلى اضطراب وابتدع لهم موازين يتعذر تقييمها.. فهو إن أضحك يوماً أبكى أياماً وأحال ضحاياه إلى سهاد ألم وأشجان موجعة.
أيسمون هذا حباً؟
- قالوا إنه حب ونعتوه بالصبابة مرة والعشق والغرام أخرى.. وقالوا عنه أنه معنى لا يحقق به إلاّ قلب رقيق ومشاعر عالية وأنه يسمو بصاحبه فوق المستوى ونسوا ما يشوبه من ذلة وانكسار وما يعتريه من هوان ينسيه كرامته كإنسان.
ما أحلى الصبابة من هذا النوع إذا تبادلتها نفسان لا تنكسر إحداها للأخرى ولا تهون ولا تسفل أما أن تهيم نفس بأخرى تتجنى وتتسامى وتتركني أتمرغ في التراب فليس في هذا ما يدل على رقة عواطفي أو سمو مشاعري بقدر ما فيه من تخاذل واستخذاء وضعة.
هذا اللون من الحب عشت أجدف عليه وألعنه وربما صادفني في بعض أدوار حياتي ولكنه كان لا يلبث أن يعجم عودي فلا يجد فيه مكسراً فيطردني من حماه ويلفظني لفظ النواة.
ولست أعجب من هذا فليس الغرام في رأيي إلاّ أنانية متطرفة يتبادلها المحب والمحبوب في وقت واحد فأنت تحب معناه إنك تحب ذاتك فيه.. تحب متعتك. تحب سعادتك به. وربما لذ للمحبوب ولعك به فأحب نفسه في ولعك وتصببك واستخذائك.
هذا هو الحب الشائع بين العاشقين.. حب الصبابة والجنون لا أستثني منه إلاّ النوع المتبادل في إطار الكرامة والتقدير.
وهما غير الحب الذي يتناول عواطفك نحو أبيك أو أخيك أو سائر من تربطك به روابط الإخاء.
هذا الحب المجنون لا أثر لحقيقته إلاّ في مخيلة العاشقين فأنت مولهٌ بمن تعشق يبرح بك الشوق ويؤرقك الضنا لا لشيء إلاّ لأنك استملحت، ولو وقفت عندما استملحت لما غذ بك الوهم في متاهات لا نهاية لحدودها.
لقد قرأت عشرات الكتب عن قصص العشق وتغنيت بمئات القصائد في دواوين الغزل وسمعت آهات المدنفين ومرت بك ألوان وألوان من حكاياتهم فترك هذا أثره في رسوب هذا اللون من الحب في ذهنك مربوطاً بكل المعاني الأليمة التي صاحبته فأنت لا تكاد تعلق بجمال تستملحه حتى تتبادر إلى ذهنك كل المعاني التي تصاحبه فإذا أنت تستهين بكل آلامها كضرورة لا بد منها فيما شرعت بل ربما تلذذت بحرارتها كما يتلذذ صاحب الكيف بمذاق قهوته المر.
أنت تعرف أنه ليس في مذاق القهوة ما يغري بشربها ولو قدمناها إلى من لا يعرف حتى اسمها لما استساغ طعمها ولكنا ورثناها ككيف يعدل الدماغ فترك هذا أثراً في أعماق نفوسنا.
ورسب الكيف في أذهاننا مربوطاً به حرارة القهوة ومرارتها فنحن اليوم لا نحتسيها باردة ولا نحتسيها دون أن تلذعنا فيها مرارة ولو خفيفة.
كذلك الأمر في البيبسي كولا أثَّرت سمعتها أو دعايتها في أعماقنا مربوطة بهذا الطعم الذي لا تعرف مذهبه ولو امتحن بها من لا يعرف اسمها لمج مذاقها ولكنها رسبت في أذهاننا مصحوبة بطعمها الممجوج فتلذذنا بها.
وما لنا نبعد وهذا الشاي نحتسيه في أشد ساعات الصيف في حالة تكاد أن تصل درجة الغليان.. هو كيفٌ من الكيوف ورثنا شربه فرسب معناه في أذهاننا مصحوباً بهذه الحرارة الملتهبة فلو قدم إلينا بارداً لمجت أذواقنا برودته الهانئة.
الحب المجنون انحدر إليك مما قرأت وآلاف من أمثالها انحدرت إليك مصحوبة بمعانيها الخاصة فلا تكون ممتعة أو لا تكون معدلة للرأس إلاّ إذا لذعتك حرارتها أو مرارتها أو طعمها الخاص.
أوهام ورثناها رسبت في أذهاننا مصحوبة بمعانيها.
ما ظنك بنفسك وأنت تقرأ قصة مجنون ليلى في الأدب العربي؟.. ستجدها حاشدة بعشرات المواقف مما يثير شجونك ويلتاع له فؤادك وستجد مؤلفها المجهول استطاع في براعة أن ينحو بك نحواً تتخيل فيه المجنون مثلاً عالياً لرقة الشعور وسمو النفس وصدق الوفاء حتى لتنسى وأنت تتابع فصولها أنك تتابع مجنوناً بحق.. وخطاه العقل فأسلس قياده لأعصاب غير متماسكة فانحل حتى تخاذل واستخذى حتى نسي كرامته في الحياة وداس على إنسانيته.
هل تشك أنها وضع قصَّاص وأنه إذا كان لها نصيب من الحقيقة فليس إلاّ ظلاً أضيفت إليه من عناصر الإثارة والشجو ما يرقص له الفؤاد.
أراد صاحبها أن يسلك ويسْبُك على عادة القصّاصين ولكنه وقد برع فيها هيأ الأجيال لتناقلها كفكرة رسبت معانيها في أذهان الناس مصحوبة بكل ما لابسها من فدائية مجنونة وخذلان مقيت فإذا نحن اليوم لا نفهم الحب من هذا النوع إلاّ أنه صبابة يتوله بها الفؤاد الرقيق حتى يتحلل وتذوب عناصره فيتخاذل العاشق وتفنى شخصيته كإنسان له قيمته وعليه دوره في بناء الحياة.
قال لي مدنف تولَّه في عشقه: كيف تفسر هذه الرعدة التي تهز العاشق عند ذكر من يعشق؟ أليس فيها ما يسمو عن مادياتك إلى أعلى مراتب الروح.
قلت أفهم أن الأرواح إذا تآلفت فذلك أرقى ألوان الحب وهو غير التخاذل.. غير الاستخذاء غير التراب الذي نتمرغ فيه.. فليس في الترب شيء من التسامي.. لا.. ولا يتمرغ فيه مهذب رقيق العواطف.
أما الرعدة فحدث مادي بحت رسب في الأذهان مربوطاً بالمعاني الأليمة التي صاحبت معاني الحب إياه ورواسب الذهن تفعل من الأعاجيب ما يذهب بصواب العقل.
أنت طعمت الليمون آلاف المرات ولاحظت أثره في فرز لعابك فاستقر طعمه في ذهنك مصحوباً بما يفرز من لعاب فإذا جاء ذكر الليمون وأنت بعيد عنه في أي مجلس بدأ فرز اللعاب في فمك.
وأنت تتقزز لشيء قذر صافح عينيك في أحد الأيام فإذا توالت الأيام وأنت عنه بعيد ثم مر بذاكرتك رأيت نفسك تتقزز كما لو كنت تشهده بين عينيك.. ذلك لأن ما رأيته رسب في ذهنك مصحوباً بحالة التقزز التي ارتبطت به.
هذه هي الرعدة، حالة مادية ارتبطت بمعاني ما تفهمه من الحب المجنون ورسبت في الذهن مصحوبة به فإذا أثير ذكر من تعشق أثير بما ارتبط به من خفقة أو رعدة أو آهة.
هذا رأي أكسبتنيه تجارب الحياة ورأيتني في نهايته لا أستلطف الحب إلاّ إذا تآلف عليه قلبان أو أكثر وأتمنى لو استطاعت الفلسفة أن تفرز هذا اللون المجنون بعيداً عما تؤديه كلمة الحب أو تنقيه مما رسب في أذهاننا من معانيه الأليمة لنتعاطاه كأساً مريئاً تتفتح له النفس وينشرح له الصدر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :391  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.